شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية 2

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية 2 | مرابط

الكاتب: سامي عامري

922 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

لقد تحوّلت (الليبراليّة الجنسيّة) في زمن ((ما بعد الحداثة)) , من حلم أنثوي وردي بعد زمن (التابوهات) , إلى كابوس أخلاقي واجتماعي واقتصادي امتدّ تأثيره إلى البنيّات الصغيرات في المدارس الإعداديّة بسبب محاولة إلغاء قيم ((العفّة)) و ((الحياء)) و ((الأسرة)) التي قيل إنّها صناعة (المجتمعات الباطريركيّة) (1) ...

(الأسرة) كمفهوم: أنتج النسق القانوني الذي ظلّ مسيطرًا على أوروبا منذ زمن تبنّي الدول الغربيّة للنصرانيّة, إلى بداية القرن العشرين, والذي سلب المرأة حقّها في جوانب أساسيّة كبيرة من حياتها كأمور الطلاق والملكيّة والميراث والتعليم, مفاهيم قانونيّة جديدة تطمع في أن تحمي المرأة من الظلم القديم, وأدّى ذلك إلى محاولة إلغاء المؤسسات القديمة التي هضمتها حقوقها أو تقزيمها إلى حدّ إفقادها الكثير من قيمتها. وقد تواكب هذا الأمر مع إقصاء الممارسة الجنسيّة البهيميّة غير المسؤولة من دائرة (الذنب) . ورافق ذلك تفاقمُ النزعة الاستهلاكيّة وتعقّد الأنماط الاقتصادية وما تفرزه من ازدياد ثقل المسؤوليّة على من يرى أخلاقيّة القيام بأعباء أسرةٍ..

اجتمع كلّ ما سبق في سياق زمني واحد ليفرز نفورًا عارمًا للرجال من (مؤسسة الزواج) بما تمثّله من أثقال قانونيّة وواجبات أخلاقيّة ومسؤوليات ماليّة, فانحاز الرجل إلى نمط المخادنة حيث لا تكلّفه العشيقة شيئًا؛ إذ هو غير ملزم قانونيًا ولا أخلاقيًا بالإنفاق عليها, كما (يوفّر) هذا النمط المعيشي للرجل أن يغيّر من عشيقاته كلّما استهوته امرأة جديدة دون الإحساس باقتراف جناية قانونيّة أو أخلاقيّة!

وبسبب تضخّم (مؤسسة) المخادنة؛ فقد اتّسع أثرها ليصيب بنصله الجارح مؤسسة الزواج؛ فانتشر تفلّت الرجال من مسؤولياتهم, وتفشّي الطلاق, وتعاظمت الخيانة الزوجيّة إلى درجة وبائيّة؛ حتّى إنّ إحصائية لسنة 1988م, أثبتت أن 78% من الأزواج البريطانيين قد خانوا زوجاتهم, ومثل ذلك في الولايات المتحدة التي كانت فيها النسبة سنة 1965م 47%. (2)

لقد أصبجت (الأسرة) في زمن ((ما بعد الحداثة)) (شبه كيان!) مفرّغ من حقيقته, وافتقدت للروابط الأصيلة لأجزائها؛ فتفلّتت أبعاضها وتناثرت حبّات عقدها مخلّفة شتاتًا في النفس وتقلّصًا (مخيفًا) في آفاق العين؛ ليشعر الفرد بعد ذلك أنّه (جزيرة) نائية عن كل أرض, وقد انقطعت بينه وبين نسبه ونسله وشائج الفكر والشعور!

العلاقة العاطفيّة بين الرجل والمرأة: في زمن محاربة الكثير من النِِِسَويّات -وهن اللواتي يَصُغن برامج وزارات الأسرة في الغرب- مؤسسة الزواج ذاتها؛ باعتبارها مؤسسة إلغاء للمرأة, صرّحت إحداهن - ((أندريا دوركن)) ((Andrea Dworkin)) - أنّ الحبّ الرومانسي هو ((احتفال أسطوري بنفي المرأة)) , وأنّ الزواج ليس إلاّ ((اغتصابًا مشروعًا بالقانون)) ((Legalized rape)) !! (3)

لقد تحوّل الإحساس الوجداني العفوي الذي يعبّر عن صميم الذات البشريّة, إلى عنوان (هزيمة) وبصمة (استلاب) في التصوّر النِسوي لزمن ((ما بعد الحداثة)) !

هذا هو (الواقع) الفكري والقِيمي الذي يُعدّ الرافض له (رجعيًا) .. فهل (للعاقلة) اليوم أن تأنف من أن تكون (رجعيّة) ؟!

 

الأفكار الحديثة والإفلاس القيمي

ثالثا/ أثبتت الإحصائيات العلميّة الجادة, أنّ الأفكار الحديثة التي يعدّ الرافض لها رجعيًا, تقود الآن الفرد والأسرة إلى (وادي) الإفلاس القِيمي حيث لا قمم يحثّ المرء السعي إليها للارتقاء بكيانه؛ فانتشرت بذلك الأوبئة الأخلاقيّة, والقلق المرضي, والانتحار, والتحلّل الجنسي, والشذوذ, والأمراض الفتّاكة.. وفي مقابل هذا الواقع الانحداري المنبثق من تحلّل الإنسان من نواة إنسانيته وأصالتها, استبان للراصدين للواقع الغربي وتحوّلاته, أنّ الأنظمة المحافظة أخلاقيًا والتي كانت لها اليد العليا في الغرب في زمن ما قبل الحداثة, كانت أفضل وأجدى وأنفع للفرد والأسرة والمجتمع (4) .. فهل يجوز للمرء أن يعاند الحقائق, ويعانق الأوافل, ويترك النافع الهادي ليأخذ بالفاسد الضار؛ لمجرّد أنّ الفاسد هو (الجديد) , وأنّ النافع من (القديم) المتصرّم؟!

 

الدعوة إلى التبرج

رابعا/ الدعوة إلى التبرّج هي أيضًا دعوة إلى الرجعيّة والعودة إلى ما كانت عليه حضارات

قديمة وفلسفات كانت تمجّد حريّة المرأة في أن تفعل ما يحلو لها كالإبيقوريّة (5) والمزدكية (6) وغيرهما.. فهي ليست دعوة خرجت لتوّها من رحم (الإبداع) , كما أنّها ليست من طريف الفكر الإنساني!

ولا يصحّ أن يُعترض علينا في هذا المقام, بأنّ المنكرين للحجاب والراغبين في السفور لا يدعون إلى كشف المرأة مفاتنها من باب تقليد الحضارات القديمة, وإنّما من باب موافقة صواب هذه الآراء.. لأننا سنقول نحن أيضًا؛ إننا لا ندعو المرأة إلى التزام الحجاب, لمجرّد أنّ الأمم السالفة أو الأجيال المسلمة السابقة قد فعلت ذلك, وإنما لأنّه الحقّ من ربّ العالمين!

 

حديث ساركوزي عن الحجاب

خامسا/ تحدّث ((ساركوزي)) -رئيس فرنسا ذات التاريح الاستعماري البغيض- عن (الحجاب) الإسلامي؛ فأتى بمرّ القول وشنيع الدعوى؛ إذ قد صوّر الإسلام على أنّه يختزل المرأة في أنّها (عورة) لا بدّ أن تمنع أنفاسها من معانقة أنسام الحريّة, ممّا يعارض الأنموذج الغربي (الراقي) (!) للمرأة الحديثة, ذاك الأنموذج الذي لا يمكن أن تترددّ المرأة في أيّ مكان كان من أن تأخذ به وتتشبّث بأهدابه؛ فهو جزء أصيل من المنظومة الفكريّة والقِيميّة الغربيّة التي تمثّل (ذروة) (!) ما بلغه (الإنسان) ..!!؟ لكنّ ((ساركوزي)) في حقيقة نفسه, وفي قرارة قناعته يعلم أنّ الإسلام كتصوّر إيماني يَصِل الدنيا بالآخرة, والزمني بالمطلق, وكممارسة ماديّة ذات جذور أيديولوجيّة متماسكة ومتناغمة مع أجزائها, لا يمكن أن تقف أمامه ثقافة أوروبا في زمن ((ما بعد الحداثة)) , حيث الثقافة (التهادميّة) والاختزال المُشطّ (7) ؛ ولذلك قال هو نفسهُ بالحرف: ((إنّ أسلمة أوروبا تُعد أمراً لا يمكن تفاديه.)) ((l’islamisation de l’Europe est inéluctable)) !! (8)

فليست دعاوى ربط (الحجاب) بالرجعيّة التي روّج لها ((ساركوزي)) , وسنّ لأجلها قانونًا يقضي بمنع المحجبات من دخول المدارس؛ إلاّ حالة دفاع نفسي متشنّج وليست هي موقفاً عقلياً بقناعات موزونة؛ إذ كيف يجتمع القول بظلامية شرائع الإسلام مع حقيقة تفوّق هذا الدين وجاذبيّته في أوروبا نفسها, رغم غياب الكيان السياسي الذي يتبنّى حمل هذا الدين إلى الأمم الغربيّة, في نفس الآن؟!!

إنّها ازدواجيّة الخطاب.. خطاب التشويه والتخدير الموجّه إلى العامة عن طريق الإعلام.. وخطاب التحذير النابع من وعي –ولو كان جزئيًا- بقدرة هذا الدين على فرض بدائله لحلّ المشاكل الفرديّة والجماعيّة المزمنة في أوروبا!

ولا يستغرب أن تصدر هذه التعليقات والمواقف من رئيس دولة لازال شعبها يعيش في (جيتو) ضيق داخل أوروبا حيث ينامون ويصحون على أمجاد التراث التليد (المجيد) , و (الثورة الفرنسيّة) العتيقة, في عجز عن التواصل حتى مع الثقافات الأوروبيّة الأخرى, وذعر من

النموذج الثقافي الأمريكي..! (9)

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. أي التي يحكمها الذكور.
  2. انظر المصدر السابق, ص73
  3.  Andrea Dworkin, Our Blood: Prophecies and Discourses on Sexual Politics, pp. 27, 105 (Quoted by, Wendy Shalit, op. cit., p.112)
  4. انظر؛ Mary Ann Lamanna and Agnes Riedmann, Marriage and Families: Making Choices in a Diverse Society, Cengage Learning, 2008, 10th edition, pp 70-73
  5. الإبيقورية: نسبة إلى مؤسسها الفيلسوف اليوناني ((إبيقور)) ((?????????)) (341ق. م-270 ق. م) . فلسفة سيطرت على حوض المتوسط قبل قرنين من ظهور المسيح, وقد قام مذهبها الأخلاقي على أنّ متعتي الجسد والبطن هما غاية الحكمة.
  6. المزدكيّة: نسبة إلى ((مزدك)) (487م-524م) . ديانة فارسيّة تدعو إلى المُشاعيّة في النساء والأموال.
  7. يعيش الغرب اليوم في ظلّ مناهج ((ما بعد الحداثة)) أشد أزماته الفكريّة تهديداً لكيانه الحضاري الذي يستمد منه مبرّر فلسفته التمدّدية, بعد أن كَفَر بالحقيقة المطلقة, وسادت فيه المدراس الفكرية التي تتصادم ولا تتكامل, واجتاحته التيارات الأيديولوجية والفلسفيّة والعلميّة التي تختزل الإنسان في جانب واحد بسيط من مجموع بنائه المعقّد أو ربّما حتّى دخيل على حقيقة بنيانه؛ فهو مرّة (كائن مستهلك) , وفي أخرى (كائن جغرافي) , وفي ثالثة (كائن منطلق بلا حد) , وفي الرابعة (كائن بلا قيمة؛ لا يشدّه إلى الأرض وتد) ... !
  8. نقل ((Philippe de Villiers)) هذا الكلام عن ((ساركوزي)) في حديث خاص بينهما, مع العلم أنّ ((Philippe de Villiers)) هو من الشخصيات المقرّبة من ((ساركوزي)) , وقد عرض بعضًا مما جاء في هذا الحوار, في لقاء صحفي مع مجلّة ((Famille Chretienne)) , وانتشر هذا الخبر على الكثير من مواقع النت.. المقال من موقع المجلّة الأسبوعيّة ((Famille Chretienne)) : http://www.famillechretienne.fr/societe/politique/philippe-devilliers-pour-sarkozy-lislamisation-de-leurope-est-ineluctable_t7_s37_d52259.html
  9. صُنّف الفرنسيون على أنّهم (أسوأ) (سيّاح) سنة 2009؛ لجهلهم التام باللغات الأجنبيّة, وعجزهم عن التعامل (المهذب) مع غيرهم.. وذاك ولا شكّ ناتج عن فساد النظام التعليمي الدوغمائي الفرنسي, وانحسار أفق الفرنسيين عند قوالب قيميّة ومعرفيّة بائدة تبدأ مع الثورة الفرنسيّة (البورجوازيّة) وتنتهي عند بداية القرن العشرين مع انتهاء بريق الاستعمار العسكري الفرنكفوني.. انظر الخبر في: http://www.channelnewsasia.com/stories/travel/view/441534/1/.html (10/1/2009)

 

المصدر:

سامي عامي، الحجاب شريعة الله في الإسلام واليهودية والنصرانية، ص25

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات-حول-الحجاب
اقرأ أيضا
عن التوسط بين الفرقاء | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

عن التوسط بين الفرقاء


الوسطية الشرعية هي ثمرة اتباع الشريعة وليست موقفا متوسطا بين فرقاء وفقه هذا مما يزهد الشخص في كثير من المقارنات المعاصرة والتي يتكلف أصحابها وضع أقوالهم وخصوماتهم في المكان الوسط!

بقلم: د. فهد بن صالح العجلان
409
خصائص أدلة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

خصائص أدلة القرآن


كلام هام لابن القيم رحمه الله يشير فيه إلى خصائص أدلة القرآن الكريم مثل السهولة واليسر والمباشرة والقرب من فطرة الإنسان وعقله واعتماد أيسر الطرق وأقصرها وأقلها تكلفا وأكثرها نفعا ويمكننا أن نقارن بين هذه الصفات وبين الطرق المعوجة التي سلكها أهل الكلام في الاستدلال

بقلم: ابن قيم الجوزية
2016
رائدة النسوية بين التنظير والحياة الواقعية | مرابط
النسوية

رائدة النسوية بين التنظير والحياة الواقعية


هذه الرائدة النسوية المتمردة والتي كانت تدعو نساء العالم للتمرد على الرجل كانت تكتب لحبيبها الأمريكي نيلسون ألغرين -في لحظة شفقة وتية وعشق هائم بعد أن هجرها عشيقها الأول جان بول سارتر لبعض الوقت وذهب لمن هي أصغر سنا- وتقول له: سأكون مطيعة لك مثل زوجة عربية.

بقلم: د. عائض الدوسري
353
إنهم يبرمجونك! | مرابط
اقتباسات وقطوف

إنهم يبرمجونك!


إنهم يبرمجونك يا رجل عن بعد إنه تتم برمجتك يا رجل! تشاهد هذا في الأخبار فتقول: لقد شاهدت هذا في الأخبار.. إنها حقيقة.. لا ليست كذلك إنها هراء! نعم إن هذه هي حقيقة هذا الجهاز المسمى بالتلفاز إنه يقوم ببرمجة عقولنا إنه يقوم بقصف العقل بمجموعة هائلة من الصور بدون تسلسل منطقي لها

بقلم: محمد علي فرح
420
فلسفة الزواج | مرابط
المرأة

فلسفة الزواج


إن العلاقة الوثيقة والحب العميق بين الرجل والمرأة ليسا ناشئين عما تتطلبه الحياة الدنيا من الحاجات فحسب فالمرأة ليست صاحبة زوجها في حياة دنيوية وحدها بل هي رفيقته أيضا في حياة أبدية خالدة. فما دامت هي صاحبته في حياة باقية فلا ينبغي لها أن تلفت نظر غير رفيقها الأبدي وصديقها الخالد إلى مفاتنها ولا تزعجه ولا تحمله على الغضب والغيرة.

بقلم: بديع الزمان النورسي
330
لن تضيع وسط الزحام | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

لن تضيع وسط الزحام


إذا كان لك صديق مقرب منك وتحب أن تبث له همومك وشكواك أو كان هذا الصديق هو والدك أو ربما زوجتك أو زوجك أو أي إنسان بشكل عام فأنت لست في مأمن من شعور المزاحمة عندما ترى غيرك يبث إليه الهموم ويشكو إليه الحال قد تشعر في قرارة نفسك أن الآخر يزاحمك فيه لكن هل تسرب إليك مثل هذا الشعور تجاه الله مع الله أنت لن تضيع وسط الزحام أبدا

بقلم: د إياد قنيبي
3785