الذين يعيشون خارج العصر

الذين يعيشون خارج العصر | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

376 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قد أكون أنا، وقد تكون أنت، من الذين يعيشون على هامش العصر، أو على أبوابه، أو داخل ساحاته دون أن يلجوا إلى قاعاته، ودون أن يدركوا طبيعة تحدياته وعطاءاته، ولذا فإن من المهم أن نستبين صفات الذين يعيشون خارج العصر، مع بعض المقارنة مع صفات الذين يعيشون زمانهم بجدارةٍ ووعي، حتى نعرف على أي أرضٍ نقف، وإلى أي فريقٍ ننحاز، ولعلي أوجز تلك الصفات في المفردات الست الآتية:

 

الفهم الضعيف للواقع

أولًا: يشترك الذين يعيشون خارج العصر في أن فهمهم للواقع ضعيف، إنهم قليلو القراءة، وضعيفو الممارسة، ولذا فإنهم يستسلمون بسهولة للأخيلة والأوهام، ويقعون في الأقيسة الفاسدة، ويعلقون آمالًا كبيرة على أشياء صغيرة.

 

هناك أشخاصٌ كثيرون يغلب عليهم حب الخير، يظنون أنه يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه، ولذا فإنهم يعتقدون أن المسلمين في أي بلد إذا بذلوا جهدهم في الدعوة والإصلاح، والتربية والتوجيه، فإنه يمكِن أن يمكَّن في ذلك البلد خلال ثلاث عشرة سنة كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث شرع بتشييد الكيان الإسلامي المستقل في المدينة بعد قيامه بالدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة .

وهذا لا يمكن قبوله في حالٍ من الأحوال، لماذا؟ لأنه جرت خلال هذه القرون المتطاولة تغييرات فكرية واجتماعية، وكيميائية وفيزيائية، تجعل عودة ذلك غير ممكنة.

 

بعض الناس تسيطر عليهم عقدة المؤامرة، فهم يرون أن كل سوءٍ يجري لهم، أو لأمتهم، قد حيك بإتقانٍ بالغ من قبل الأعداء والمنافسين، ومع أن العالم لا يخلو من التآمر في حقيقة الأمر، إلا أن القرآن الكريم يعلمنا أن ما يعانيه البشر -ومنهم المسلمون طبعًا- هو شيء من صنع أيديهم في المقام الأول، كما قال الله جل وعلا: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران:165] وكما قال: "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [آل عمران:117].

 

إن الذين يفسرون كل المصائب التي تحل بهم من أفق المؤامرة يوقعون أنفسهم في حالةٍ من الشلل التام، فهم دائمًا يظهرون بمظهر الذي لا حول له ولا طَول، ويصبحون كأنهم جبريون، وهذا يشجعهم على التنصل من أخطائهم، وإلقاء تبعاتها على غيرهم.

 

هناك إلى جانب هذا الصنف أشخاصٌ مكبلون بأوهام المثالية، فهم يظنون أن الأفكار والقيم والعقائد هي من القوة بحيث لا يتصور إلا تطابق سلوك الناس معها، ولذا فإنهم دائمًا غاضبون ساخطون على غيرهم، وكأنهم لا يدركون ما تحدثه الظروف الصعبة من الدخول في موازناتٍ دقيقة، ومن مراعاةٍ للمصالح، ومن انسياقٍ خلف الأهواء والشهوات، وسوء التقدير، وكأنهم لا يعرفون أن ما بين المبدأ والسلوك، وبين المثال والواقع، تصدعاتٍ ومفارقاتٍ أبدية، لأسبابٍ يعرفها أهل العلم والفكر.

وأنا لا أطالب هؤلاء إلا بفهم حقيقة ما يجري حتى يتخلصوا من التجرع المستمر للكئوس المرة.

 

التخفف من القيود الأخلاقية

ثانيًا: يظن بعض الذين يعيشون خارج العصر أن زماننا هذا هو زمان التخفف من القيود الأخلاقية، وصمِّ الآذان عن صوت العقيدة والمبدأ، وأن مَن لم يفعل ذلك يُغلَب ويخسر الكثير من الفرص والصفقات.

 

ولهذا فإن النشاط اليومي لهؤلاء هو استخفافٌ مشين بالأخلاق والقيم، والمبادئ التي يتظاهرون أنهم من حملتها، وهذا منهم سوء فهم. إذ إن العيش باستقامة ليس واجبًا، ولا خلقًا، ولا أدبًا فحسب، ولكنه أحد أهم مصادر تكوين ذاتية الإنسان، وإن الذي يخرج عن مبادئه في أعماله وعلاقاته، قد يكسب على المدى القريب، لكنه على المدى البعيد يخسر ذاته وآخرته، كما أنه أيضًا في أمور الدنيا سوف يخسر؛ لأن كسب ثقة الناس ثروةٌ كبرى، ولكن لا يمكن كسب ثقتهم من غير مصداقية، ولا مصداقية من غير استقامةٍ والتزام.

الشركات الكبرى التي استطاعت المحافظة على أسعار منتجاتها، وعلى حصتها في الأسواق، يثق مستهلكو منتجاتها بها، بسبب التزامها بجودة ما تقدمه.

 

إن لدى الناس أموالًا طائلة، لا يدرون كيف يستفيدون منها، وهم دائمًا يبحثون عن شخصٍ يجمع بين الأمانة والكفاءة، على المبدأ الوارد في قوله جل وعلا: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" [القصص:26]، وكثيرٌ من التجار الكبار كان رأس مالهم الحقيقي -وما زال- هو ما يمتلكون من نزاهةٍ وصدقٍ وأمانة.

 

التشتت بين الماضي والحاضر

ثالثًا: بعض الذين يعيشون خارج العصر موزعون بين الماضي والحاضر فهم على مستوى التصورات والمفاهيم أسرى لمقولاتٍ ماضية، يعجزون في الغالب عن التأكد من مدى صحتها، وهم على مستوى الحاضر أسرى الهموم والمشاغل، أما المستقبل فلا يستحوذ إلا على القليل من اهتماماتهم واستعداداتهم، مع أن طبيعة التدين الحق تجعل من المسلم الحق إنسانًا مستقبليًا من الطراز الأول، لكن يبدو أن انتفاع الإنسان بمبادئه لا يتم بطريقةٍ عفويةٍ ساذجة، فهؤلاء الناس لا يدركون أن التغيرات السريعة توجب عليهم أن ينظروا إلى أبعد مدىً ممكن؛ لأن السرعة الهائلة تجعل البعيد قريبًا.

 

قد علمتنا التجربة أن معظم الذين يعانون من مشكلات كبيرة، هم أشخاص مصابون أصلًا بقصر النظر، وضعف الاهتمام بالمستقبل. وبعض هؤلاء يظن أن التخطيط للمستقبل لا ينسجم مع روح التوكل على الله تعالى، وبعضهم يجعل الاهتمام بما هو قادم نوعًا من الاشتغال بالتنظير عن الاستفادة مما هو موجود، وهذا يجعل الذين يعيشون خارج العصر ينفعلون بالأحداث، بدل أن يشاركوا في صناعتها، كما يجعلهم يأتون دائمًا بعد الحدث.

 

فقدان روح المبادرة الشخصية

رابعًا: من سمات الذين يعيشون خارج العصر: أنهم يفقدون روح المبادرة الشخصية، فهم ما زالوا ينتظرون من غيرهم نوعًا من الرعاية لهم، إنهم في جوهر الأمر حملوا معهم إلى مرحلة الشباب والكهولة روح الطفولة، حيث إن الطفل يفضل عبارة: أنت لا تحبني، أنت ما أخذتني، أنت ما أعطيتني... إلخ

 

إذا حاولنا أن نعمق النظر في أحوال عصرنا، فإننا سنجد أن المبادرة الفردية قد أسهمت على نحوٍ فذ في تكوين النهضة الحديثة، وإن كثيرًا من الأعمال الجليلة، ما كان لها أن تظهر إلى الوجود، لولا أن أصحابها آمنوا بالتجاوز والانطلاق.

 

وإني أعرف أشخاصًا كثيرين لديهم أفكارٌ رائعة، لكنهم ينتظرون غيرهم ليقوم بتنفيذها، أو ليساعدهم في ذلك، لكن ذلك المنتظر طال غيابه، وربما لن يحضر أبدًا، ولو أنهم بدءوا بتنفيذ ما يقبل التنفيذ منها لوجدوا كثيرين ينظمون إليهم، ويساعدونهم على إكمالها.

 

إن التربية العامة لدينا ما زالت تركز على تنشئة الإنسان التابع، والمعتمد على غيره، مع أن الوضعية العامة للتكليف في الإسلام تؤكد على تنمية روح المبادرة، وروح تحمل المسئولية، وسلوك طرق الخير، مهما كانت مهجورةً وموحشة، على حد ما نلمسه في قول الله جل وعلا: "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [البقرة:148] وقوله: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" [آل عمران:133] وقوله: "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام:164] وقوله: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى" [النجم:39-41].

 

الاهتمام بالوقت شبه معدوم

خامسًا: اهتمام الذين يعيشون خارج العصر بالوقت شبه معدوم، فالذي لا يتم إنجازه اليوم، يمكن أن ينجز غدًا أو بعد غد، وهم على خبرة واسعة بقتل الوقت، وإنفاقه في أعمالٍ لا تعود عليهم أو على غيرهم بأي فائدة.
العالم المتقدم اخترع آلاتٍ لقياس أجزاء الثانية عنوانًا على أهمية الوقت في الحياة المعاصرة، والذين يعيشون خارج العصر يستخدمون في التعامل مع الزمن الأيام والشهور، للدلالة على أنهم ينتمون إلى غير هذا العالم، وغير هذا الزمان، وبما أن القوم يعيشون من غير أهدافٍ واضحة، فإن مطالبتهم بالحرص على الوقت قد تكون غير ذات معنى.

 

الإهمال والفوضى

سادسًا وأخيرًا: الإهمال والفوضى سمتان ملازمتان لكثيرٍ ممن يعيشون خارج العصر، إهمال للصحة والمظهر، والعمل والأهل، والعلاقات الاجتماعية، الفوضى تضرب أطنابها في كل شئون حياتهم، حيث إن لديهم دائمًا التزاماتٍ كثيرة، وإنجازاتٍ قليلة؛ لأنه ليس لديهم البرامج لتحقيقها، كل شيءٍ في حياتهم جائز، ويمكن أن تتوقع منهم أي شيء، هذا مع أن الذين قدَّموا إنجازات كبرى للبشرية في هذا الزمان، كانوا دائمًا يبدون اهتمامًا بكل شيء، حتى التفاصيل الصغيرة، وهم إلى جانب ذلك منظمون في حياتهم الشخصية والعامة، وفي أسلوب تفكيرهم وأعمالهم، كما أنهم يعتقدون أن التحلي بفضيلة الاهتمام شرطٌ للإنجاز العالي.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العيش-خارج-العصر
اقرأ أيضا
الأطفال وجناية الشهرة | مرابط
مقالات

الأطفال وجناية الشهرة


من الظواهر المؤلمة التي ظهرت مؤخرا ظاهرة شهرة الأطفال وإبرازهم وجعلهم ممن يشار إليهم بالبنان وممن تلاحقهم الأضواء والفلاشات وهذه ظاهرة سيئة لها تبعاتها الخطيرة على الطفل وعلى مستقبله في هذه الحياة. والأدهى والأمر تصنيف ذلك على أنه نجاح وتوفيق وتحقيق هدف ونموذج ينبغي أن يحتذى فيكون ميزان النجاح بعدد المتابعين وكثرة لظهور أمام الفلاشات وهذا وربي من المفاهيم المغلوطة التي ينبغي أن تصحح.

بقلم: د. طلال الحسان
314
موانع قبول الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

موانع قبول الحق


مقتطف رائع لابن قيم الجوزية من كتاب هداية الحيارى يشير فيه إلى موانع قبول الحق التي تحول بين الشخص وبين الانقياد للحق حتى لو أنه ليس جاهلا به فهناك الكثير من المحاور الأخرى أو الأسباب الأخرى التي تمنع ذلك وهنا يستعرضها لنا بشكل دقيق

بقلم: ابن القيم
2160
الاستبدادان | مرابط
فكر مقالات

الاستبدادان


تجري كلمة الاستبداد على ألسنة كثير من الناس دون دراية بمضمونها أو مفهومها على وجهه الحقيقي حتى أن أحد هؤلاء قد يكون واقعا في معنى من معاني الاستبداد ولكنه لا يدري أو ربما يراه من أسمى معاني الحرية وفي هذا المقال يوضح لنا الكاتب معنى الاستبداد ومفهومه ويفرق لنا بين نوعين من أنواع الاستبداد

بقلم: إبراهيم السكران
2259
المرأة ومطاردة الجمال الوهمي | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

المرأة ومطاردة الجمال الوهمي


إن المرأة بهذا الهوس اللا متعقل في مطاردة الجمال الذي يوهمها به الإعلام كل ما تقوم به هو تأخير موعد الخيبة التي تنتظرها تلك المرحلة اليائسة التي ستخامرها حين يسرق الزمن من عمرها السنوات ليقول جسدها الحقيقي كلمته ولينطق وجهها الحقيقي صدقه

بقلم: أمل الصالح
443
إن الحلال بين وإن الحرام بين | مرابط
اقتباسات وقطوف

إن الحلال بين وإن الحرام بين


قد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن. ومنه ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه. فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه.

بقلم: ابن رجب
366
شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم


بين يديكم رد على الشبهة المتكررة التي يزعم مروجوها أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شك في ربه وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فيقول البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الشك إلى إبراهيم وإلى نفسه.. بين يديكم رد على هذا الزعم.

بقلم: قاسم اكحيلات
388