السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج1

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج1 | مرابط

الكاتب: عبد الله العجيري

983 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

اعتراف

لي مدَّةٌ ليستْ بالقصيرةِ لم أكتبْ فيها شيئًا ذا بالٍ؛ لذا فإنِّي أشعُرُ بثِقَل القَلمِ في يدي، وأجِدُه يزداد ثِقَلًا حين يَهُمُّ بكتابة نقديةٍ لأصدقاءَ لهم في القلبِ مكانةٌ، (ولو كان قولُ ما يراه الإنسانُ حقًّا يُتْرَكُ لشيءٍ= لَتَرَكْتُه كرامةً لصُحْبةٍ أخشى فَقْدَها. لكنَّ الحقَّ أمانةٌ، وإذا لم يوجَدْ من يقومُ به= لم يَجُزْ تَرْكُه لوَجْهِ أحدٍ من النَّاسِ)، وأنا على ثقةٍ تامَّةٍ أنَّ ما سأكتبه لن يؤثِّرَ على صحبةٍ أو يُزيلَ وُدًّا.

 

البداية

حين بدَأْتُ بمطالعةِ كتابِ "ما بعد السَّلفيَّة" للصَّدِيقينِ ش. "أحمد سالم" وش. "عمرو بسيوني"، كنتُ حريصًا على أن تتخلَّقَ في نفسي انطباعاتي الذَّاتيَّة عن الكتابِ بعيدًا عن ضَغْطِ تأثير انطباعاتِ الآخَرينَ، خصوصًا وأنا أعلَمُ أنَّ الكتابَ سيكون كتابًا جَدَليًا بامتيازٍ، وسيُحْدِثُ جدَلًا في المشهد الفكريِّ والشَّرعيِّ بشكلٍ عامٍّ، وفي الداخِلِ السَّلفيِّ بخاصةٍ. والذي ستتشكَّلُ فيه بُؤَرُ ممانعةٍ ذاتيةٍ طبَعِيَّةٍ مِن النَّقْد والمراجعة؛ فبَعضُ النُّفوسِ قد لا تحتمِلُ النَّقْد، وبعضُها قد تحتمله، ولكن لا تحتملُ أن يكونَ مُعْلَنًا. وأجدني -بحمد الله- كما أجِدُ غيري ميَّالًا إلى استيعابِ الممارسَةِ النَّقديَّة واسِعَ الصَّدرِ لها، بل داعيًا ومُرَحِّبًا بها كَوْنها ضرورةً لتصحيحِ المسار، ومعالجَةِ الأخطاءِ، وإذا أنتَ لم تسمَحْ للمُحِبِّ القريبِ بالمراجَعةِ والنَّقْد، فاحتَمِلْ جنايةَ البعيدِ بالبَغْيِ والتَّشْويهِ.

ومع قناعتي بأهميَّة الفِعْل النقديِّ إلا أنه لا يعني الرِّضا بأيِّ نَقْد وقبولَ أيِّ مراجعةٍ، بل أجدني متشوِّفًا جدًّا للتَّعرُّفِ على المضامينِ النَّقديَّة ذاتِها، وتَقْييمِها من جِهةِ الصَّوابِ والخطأ، بل وَفَرْزِ ما كان خطأً وصوابًا إلى درجاتٍ بحَسَب رُتَبِها من جهةِ القَطْع والظَّنِّ، ثم التفاعُلِ معها بحَسَب درَجاتِها حماسةً لما أَجْزِمُ بصوابِه، وحماسةً بالضِّدِّ لما أجزم بخَطَئِه، في مقابلِ شيءٍ من الفُتُور حيالَ بعضِ الأفكارِ الأقَلِّ درجةً.
نعم، كانت تتسرَّبُ إليَّ بعضُ المواقِفِ السَّاخِطَة على الكتابِ من هنا وهناك، والتي كانت تُعَبِّر في كثيرٍ من الأحيان عن حالَةٍ من الغَضَب دون أن تُقَدِّمَ في كثيرٍ من الأحيانِ مبرِّراتٍ واضحةً لهذا الغَضَب، أو تقدِّمَ مبرِّراتٍ لا ترقى لمستوى وطبيعةِ الغَضَب. فجاء بعضُ ما كُتِبَ حولَ الكتابِ وكأنَّه مجرَّدُ تقريرٍ وصفيٍّ للكتابِ، ولكنْ بِلُغةٍ غاضبةٍ متوتِّرةٍ.

وأعترِفُ أنِّي كنتُ متحيِّزًا للكتابِ تحيُّزًا ناشئًا عن طبيعةِ الوُدِّ والعَلاقة الجميلةِ التي تربطني بالأخَوَينِ الكريمينِ؛ ولذا فكنتُ أقرأُ الكتابَ قراءةَ مَن يُحْسِنُ ظنَّه بصاحِبِه، خصوصًا في تلك المواضعِ المجمَلَةِ التي تفتحُ لتعدُّد الفهومِ مجالًا، أو مواضِعِ الحيادِ التي أدرَجَها الكتابُ تحت بند (تأْريخ الأفْكار) وهو الموْقِف الذي أرى أنَّ الأخَوَينِ الكريمينِ لم يلتَزِماه حقيقةً، فجاءت تلك التحيُّداتُ في مواضِعَ لا تُناسِبُ الرِّساليَّة المعهودة منهما، وظَّلَتْ مع ذلك (تقييمات الأفكار) في غيرها متناثِرةً في مواضِعَ متعدِّدةٍ في طولِ الكتابِ وعَرْضِه. نعم، لم يَرُقْ لي تصنُّعُ الحيادِ بين السَّلفيَّة والأشْعَريَّة في مسألةِ تأويلِ الصِّفاتِ، والقَبول بالموقِفِ السلفيِّ فيها تنزُّلًا، أو تحقيق موقِفِ الصَّحابة من مسألَةِ الاستغاثة بغيرِ الله، وهل بالإمكانِ القَطْع بإثباتِ التكفير به عنهم؟ لكني لم أقرَأْها قراءةَ من يُفَتِّشُ بين السُّطُور، ويتطلَّبُ معنًى غائبًا، ويتساءلُ لعلَّ وراءَ الأَكَمَةِ ما وراءها، بل أنا أعْرِفُ صاحبَيَّ وأنَّهما ليسا أشعَريِّينِ مُتستِّرينِ، أو دعاةً لقبوريةٍ في طَوْرِ تَقيَّة.

أنهيتُ الكتابَ سريعًا لأعاوِدَ الْتِهامَه مرةً ثانيةً. ولستُ أكتمُ سرًّا إن قلتُ إنِّي شعرْتُ بمرارةٍ وقلقٍ عميقٍ حيالَ كثيرٍ من المسائلِ والمباحِثِ، وكنتُ مهمومًا بدرجةٍ أكبرَ بتلك المسائلِ العِلْمية المُشْكِلة والتي لم تصادِفْ في تقييمي منهجَ أهلِ السُّنَّة والجماعة، أما جدليَّاتُ وصْف واقع المشْهَد السلفيِّ وتجليَّاته المعرفيَّة والإصلاحيَّة ومدى دقَّة التقييماتِ التي قدَّمها الكتابُ في هذا المضمار فهي مسائِلُ وإن وقع فيها ما أَعُدُّه تجاوزًا وما يصلح أن يكونَ مادَّةً دَسمةً للمراجعة والبَحْث بل والانتقاد لكنَّها احتلَّت في نفسي موقعًا متأخِّرًا نسبيًّا، بل لو كانت مُشْكلة الكتاب في هذه الدَّائرة فقط لهان الأمرُ عليَّ -واللهِ- مع شِدَّتِه في نفسه. فضلًا عن تلك الرُّؤى والأفكار الاجتهاديَّة التي يُمكن أن يكون الأَخَوانِ مُصِيبينِ فيها فِعلًا.

وكتابٌ تُقارِبُ صفحاتُه السَّبْعَمائة صفحة لا يُمكنُ أن يَتِمَّ التعرُّضُ لكافَّةِ أفكارِه ورُؤاه وتقديمُ رؤيَةٍ نقديَّةٍ متكامِلَة من خلال مقالةٍ مُفْردةٍ، بل يحتاجُ الأمر إلى كتاب موازٍ أو سِلْسلةِ مقالاتٍ متتابِعةٍ يُكْمل بعضُها نقصَ بعضٍ لتُغطِّيَ كافَّة مساحات الكتاب، وهي مساحات شاسِعَةٌ فعلًا، وأرجو أن تُقدِّمَ هذه المقالة رؤيةً نقديَّةً متحلِّيَة بالعلم والعَدْل والموضوعيَّة لواحدة فقط من تلك الأفكارِ الموجودة في الكتاب. والتي أرى أنها شَكَّلت أحد المُرْتكَزات التي قام عليها، وواحدةً من أهمِّ القضايا التي قدَّم فيها مراجعةً ورؤيةً جديدةً، وهو مفهوم السَّلفيَّة ذاتِها، ومَوْقِعها من خارطة المسلمين، ومدى أهمِّية وجود السَّلَفِيين في عالم اليوم، بل وفي التاريخ الماضي والمستَقبل.

 

السلفية بين رُؤْيتينِ

حين تناوَلَ الكتابُ "مُصطَلَح السَّلفيَّة" قدَّم مفهومًا يتضمَّنُ قدْرًا من الزيادة والخصوصِيَّة على ما هو موجودٌ في الكتابة السَّلفية، وهو ما أنتج اختلافًا في تحديدِ مَوقع السَّلفية من الخارطة الإسلاميَّة، وما الذي يمكن أن يتولَّدَ من إزاحة هذا التيارِ عن الخارطة بالكُلِّية. "السَّلفيةُ" في الذِّهْنية السَّلفيةِ هي معنًى مطابِقٌ "لمفهومِ أهْلِ السُّنَّة والجماعة" بمفهومها الخاصِّ، وهو -أي اسْم أهل السُّنَّة والجماعة- اسمٌ عريق في تاريخ الإسلامِ، وهو من ألوانِ التَّميزاتِ العَقَدية المبكِّرة والتي تواضَعَ أهْلُ السُّنَّة عليها كشعارٍ مُمَيِّز عن الفِرَق البِدْعِيَّة في الأمة، وكُنْ على ذِكرٍ لهذا المعنى واستحْضِر في نفسك عباراتِ السلفِ في استعمالاتهم لهذا الشِّعار المُمَيِّز، بل استحْضِرْ عامَّةَ التداول العِلْمي لهذا المصطلح في المُدَوَّنة العَقَدية قديمًا وحديثًا؛ فإنه سيكون نافعًا فيما سيأتي إن شاء اللهُ.

ويمكن القولُ إجمالًا إنَّ هذا التميُّزَ عائدٌ في أصوله إلى المُكَوِّن العلمي والمنهجي للسلفيَّة؛ فالأصلُ في التداول السلفيِّ لمصطلح السلفيَّة أن تُستعْمَل كتعبيرٍ عن منهج خاصٍّ في النَّظر والاستدلال يُفْرِز مُكوِّنًا علميًّا يمثل قائمةً من المُحْكَمات الشَّرعيَّة، وهي مع تلك الأُسُس المنهجيَّة تمثِّل حالةَ الفَرْق بين الخطِّ السلفي السُنِّي والتيارات الخارجة عنها، وهذا المنهج هو في حقيقته التزامٌ واجبٌ بهَدْي السَّلف الصالح، والذي يمثِّل فيه صحابةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المَرْكزَ وتدور في فَلَكِه مقولاتُ ومواقِفُ التابعين وتابعيهم. وهذه الرؤيةُ السلفيةُ للسلفيةِ لم تَغِبْ عن الكتاب، بل أورد الكاتبانِ بعضَ المقولات لسلفِيِّينَ يُعبِّرون فيها عن هذه الرؤية لمفهوم السلفيةِ.

أمَّا رؤيةُ الكتابِ ذاتِه في تحرير واستعمالِ مفهومِ السلفيَّة فوَقَع فيه قَدْرٌ من الاضطراب والإشكال؛ فقد ظلَّ الكتابُ يُراوِحُ في استعمالاته للسَّلفية بين اعتبارها وصفًا إجرائيًّا وتأريخيًّا للتعبيرِ عن طائفةٍ من طوائف الأمَّة لها تميُّزُها العَقَدي الذي لا يلزم أن يكون صوابًا في نفس الأمرِ، وبين اعتبارها مفهومًا شرعيًّا ومنهجيًّا يتضمَّنُ قدْرًا من المَدْح والامتياز بالاعتزاءِ إلى السَّلَف الصالح وضرورة وَضْع اشتراطاتٍ شرعيَّةٍ خاصَّة لتصحيح مثل هذا الانتساب. إضافةً إلى المُراوَحَة بين الطبيعة العِلمية للخطاب السلفي وكَوْنه يُمثِّل رؤيةً منهجيَّة تُفرِزُ مقولاتِه العلميَّةَ، وأخرى تستجْلِبُ المُكَوَّن العمليَّ وتجعله شرطًا في صِدْق الانتساب للخطِّ السلفي؛ ففي أوَّلِ صفحة من الكتاب مثلًا بل في أوَّلِ جُمَلِه يصادف القارئُ العبارةَ التاليةَ في سياقِ شَرْح السلفية: (السَّلفيَّةُ: هي طلَبُ ما كان عليه صحابةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهي منهجٌ يُطْلَب وليست حقيقةً تُحازُ، وكلُّ سلفيٍّ فهو كذلك من حيث إنَّه يَطْلُب التشبُّهَ بالسَّلَف ومَنْهَجِهم، لا من حيث إنَّه سلفيٌّ حقًّا، ومَن زَعَم اكتمالَ سَلَفِيَّته=كَذَب. والسلفيةُ المراد بها: الإيمانُ بما أجمعت عليه صحابةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، إيمانًا بالقَوْل والعمل) [9].

ويزيد الأَمْر وضوحًا في إدخالِ المُكَوَّن العمليِّ في لُبِّ المفهوم السلفي: (فإنَّ السلفيَّةَ ليست مجرَّدَ مضامينَ معرفيَّةٍ مَن حازَها=فهو سلفيٌّ!) [11] وذلك عَقِبَ الحديث عن ضرورة طَلَب الدين الأوَّل ليس في بابَيِ التوحيد والقَدَر فحَسْب، بل في غيره من أبواب الأحكام والأخلاق والسلوك.

ويؤكِّد هذا المعنى بقوله: (بل إنَّ من أعْظَمِ البلايا: أن تتحوَّلَ السلفيةُ إلى حالة معرفيَّةٍ مجرَّدةٍ، ليس معها مقتضياتُها الإيمانيةُ من التحقُّقِ بأعمال القلوب، وعبادات الجوارح، ومكارم الأخلاق) [11] لكنه يعود فيقول: (السلفيةُ اسمٌ يَصْدُق على مفهومٍ معرفيٍّ / إبستمولوجيٍّ منهجيٍّ، ويَصْدُق على تحقُّقاتٍ تاريخيةٍ لأفرادٍ وجماعات حاولوا التزامَ هذا المنهج المعرفي ومقتضياتِه التطبيقيَّة) [81]. وما مِن شَكٍّ أنَّ لاستجلاب المُكَوَّن العملي بمخْتَلف تجليَّاته الأخلاقية والسُّلوكية والحُكْميَّة في تحرير مفهوم السلفية آثارَهُ العِلميَّةَ والعَمَليةَ، وأنَّ فروضَ الالتزام السلفي تبعًا لذلك ستكونُ بلا شكٍّ أوفَرَ وأكثرَ، ودائرة الإخلالِ بسلفيَّةِ الشَّخص ستكون بطبيعة الحال أوسَعَ وأكبرَ.

ومع قناعتي بأنَّ أصْلَ إدخالِ مُكَوَّن العمل في اسم السَّلفيَّة أو أهل السُّنة ليس فيه كبيرُ ضَيْرٍ إذا ما تحرَّر قَدْر هذا المكَوَّن ومنزلتُه مما أُدْخِلَ فيه. بل إنَّ أصْلَ هذا الإدخال مسألةٌ حاضرةٌ فعلًا في الوَسَط السُنِّي السلفي، وهو مَحَلُّ تداوُلٍ كبيرٍ في مصنَّفاتهم ومدَوَّناتهم بل ومُتُونهم العَقَدِية، يتم فيها الإشارةُ إلى مسائِلِ الأخلاق والعَمَل والتزكية كمُكَونات لمنهجِ أهلِ السُّنَّة والجماعة. ففي واحدٍ من أشْهَرِ المتون العَقَدية السُّنِّية المركزية مثلًا، والتي يتخرَّجُ عليها عامَّة طلبة العلم في الأوساطِ الشَّرعيَّة السلفيَّة -أعني العَقَيدة الواسِطيَّة لأبي العباس ابن تيمِيَّة- جاء النصُّ في آخرها على (جماع مكارِمِ الأخلاق يتخلَّق بها أهْلُ السُّنَّة والجماعة)، فالمقصود أنَّ سائر هذه المكونات حاضِرةٌ فعلًا في كثير من الكتابات العَقَديَّة المختَصَرة والمُطَوَّلة في الإطار السلفيِّ، يتِمُّ من خلالها التأكيدُ على أن طريقة السَّلَف ليست تصوُّراتٍ نظريةً فقط، وإنما هي عِلْم وعمل، وأنَّ المرء يزداد لُحوقًا بالسلف بقَدْر اعتقاده وعَمَله. فإذا كان الأمْرُ كذلك ولم يكُنْ ثمَّةَ إشكالٌ مبدئيٌّ مِن دخول مُكَوَّن العمل في المفهوم، فأينَ المَأْزِق والإشكال؟

في ظني أن القضيَّة التي لم يتمَّ تحريرُها بشكلٍ دقيقٍ في الكتاب هي تحريرُ منزلة هذا المُكَون العمليِّ من اسم (السلفية) أو (أهل السُّنة والجماعة)، فالمُكَونات المُؤَسِّسَة لهذه المفاهيم ينبغي التمييزُ بين رُتَبِها ومدى تأثيرِها في إعطاء الاسم وسَلْبه، إما إعطاءً وسلبًا مُطلقًا أو إعطاءً وسَلْبًا نسبيًّا. فلدينا (نواقضُ للمفهوم) و(أسبابُ القصور في تحقيق المفهوم) فالإسلام مثلًا له نواقِضُ يَخْرُج بها المرءُ من دائرته كالشِّرْك بالله، وسبِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والطَّعْنِ في الدين، وجَحْدِ معلومٍ من الدين بالضرورة، وهكذا، وله أسبابٌ لا ترفع الاسْمَ بالكلية، لكن يَنْقُص من الوصف بقَدْر ما ارْتُكِب من هذه الأسباب الموجِبَة لنقصانِ الوَصْف، فكذا مفهومُ أهل السُّنة ومنهج السلف له نواقِضُ كتعطيلِ الصِّفات، وإنكار القَدَر، والقَدْح في حُجِّيَّة النقل، يَخْرج بسببها المرءُ من دائرة أهل السُّنة، وله أسباب تَنْقُص من اتِّصاف المرء بالسُّنَّة وطريقة السَّلَف بقَدْر ما قَصَّر في الاجتهاد في أعمالهم وأخلاقهم دون أن تُوجِبَ خروجَه من الدائرة السُّنِّية أو السلفيَّة بإطلاق.

ولئن جاز لغةً نَفْيُ اسمِ السُّنَّة والسلفية عنه باعتبار انتقاصه من كمال السُّنة الواجبِ لكن لا يَصِحُّ اعتقادُ انتفاءِ الاسم عنه مطلقًا، بخلاف من أتى بناقِضٍ من نواقضه؛ فإن الاسم يزول عنه ولو قُدِّرَ أنه جاء بعد ذلك بشيءٍ مِن شُعَبِه وفروعه. وهذا أحدُ مواضع الافتراق عما قرَّره الكتاب قائلًا: (ومَن نَفى الاسْمَ عن غيره بسبب مخالَفَةِ هذا الغَيْرِ لِمَا أجمعَتْ عليه الصَّحابة إجماعًا قطعيًّا، فهذه طريقةٌ صحيحةٌ ما دام ينفي كمال التسلُّف الواجب؛ فإنه ليس ثَمَّ رجلٌ له حظٌّ من الإسلام إلا وله حظٌّ من السلفية بقَدْر ما معه من الإسلامِ، وكما صَدَّرْنا كلامنا= فإنَّه لا تكْمُل سلفيَّةُ رجلٍ ما دام معه شيءٌ من مخالفة السلفيَّة في القول أو العمل، كما أنَّه لا يكْمُل إسلامُ رجلٍ ما دام ضَيَّع شيئًا من الدين الواجب عِلمًا أو عملًا) [10] فالتَّسْوية بين مُكَوَّن العلم والعمل هنا في مَنْح وسَلْب اسم السلفية مُشْكِل..

إذ التقصيرُ في المكوَّن العملي فقط بالوقوع في الذُّنوب والمعاصي لا يصِحُّ أن يكون ناقضًا ينتَقِضُ بسببه المفهومُ بالكلية فيَخْرج المرءُ به من إطارِ أهلِ السُّنَّة والجماعة، وبالتالي من السلفية، بخلافِ أصولٍ علمية معيَّنة فإنها تصَحِّح ذلك الإخراجَ لا على وَجْه نفْيِ كمال التسلُّف الواجب فحَسْب بل بسَلْب اسمه المُطْلَق. ومِثْل هذا التناولِ الذي مارسه الكتابُ حيالَ مصطلح (السلفية) -وهو مصطلحٌ خاصٌّ وُضِع للدَّلالة على معنى مخصوص- يمثِّل إعادةَ إنتاجٍ اصطلاحيٍّ يعود بالإبطال على الفائدة التي وُضِعَ هذا المصطلح لأجله، ولتَنْدَرِس ملامحه بما يصحِّح إلباسَه على من قصد واضِعه عدمَ إلباسِه، فالمعتزلةُ والخوارج والشيعة والقَدَرية كلُّهم يمكن أن يكونوا سلفيينَ باعتبارٍ وإن لم تكْمُل سلفيَّتُهم، والسَّلفيون كذلك من أصحاب الذنوب والمعاصي ليسوا سَلَفيينَ باعتبارٍ.

ومع ظني أنَّ هذه المسألة جديرةٌ بالتحقيقِ والتحرير، وأنَّ قَدْرًا مما حرَّرَه الكتابُ فيها لا يخلو من إشكالٍ، فقد ظَلِلْتُ أتساءلُ هل نحن أمامَ مخالفة اصطلاحية مغتَفَرَة؟ أم أنَّ هذه الرؤية الاصطلاحيَّة، استتبَعَتْ مواقفَ عِلْمية تُخرِج الأمرَ عن إطارِ الخلاف التعريفي؟

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ما-بعد-السلفية
اقرأ أيضا
وضوح عقيدة الإسلام في الخالق | مرابط
تعزيز اليقين

وضوح عقيدة الإسلام في الخالق


إن الإسلام قد تميز على سائر الديانات بوضوح العقيدة في الإله من جهة الكمالات المتعلقة به ولذا فإن العقل لا يجد تكلفا في قبول الاعتقاد الإسلامي في الله سبحانه بخلاف الخرافات والأساطير الموجودة في تصورات كثير من البشر تجاه الإله وهذه القضية من أظهر القضايا في دين الإسلام والاستدلال عليها لا يحتاج إلى كبير عناء فالقرآن من أوله إلى آخره تمجيد وتعظيم وتنزيه لله سبحانه وتعالى والسورة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في القرآن هي السورة التي تبدأ بحمد الله والاعتراف بأنه رب العالمي...

بقلم: أحمد يوسف السيد
1157
الحكمة من خلق الإنسان؟ | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الإنسان؟


ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس له ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه ليسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي فإذا ما بصره الله وعلمه وأنبته وتملك وأصبح له وظيفة وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه نسي الله وتمرد على حدود الله وانتهك محارم الله وحدوده فأين العقول؟!

بقلم: د. عائض القرني
790
مآسي الروهنجيين | مرابط
توثيقات

مآسي الروهنجيين


الرجل الروهنجي لا يبكي على مال كان معه ثم ضيعه لا يبكي على منزل أتى الحقد البوذي عليه فاقتلعه إنه يبكي أسفا على أمة بلغت المليار ولم تردع عنه بطش الكفار يبكي على الإنسانية التي ماتت تحت ظروف غامضة الروهنجيا أكثر الأقليات تعرضا للاضطهاد في العالم هذه الجملة وحدها تكفي لإدراك كم تعاني هذه الأقلية المسلمة من أهوال

بقلم: عبد الله عبد القادر أحمد
681
فقه الفتيا | مرابط
اقتباسات وقطوف

فقه الفتيا


قال ابن عباس رضي الله عنهما: لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.. بين يدينا قصة هذا الحديث وهو من لطائف الأخبار الواردة عن ابن عباس رضي الله عنه هنا نتعلم منه التروي في الفتيا والتأني قبل التكلم.

بقلم: محمد بن إسحاق الفاكهي
217
المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج2


يقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئا فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئا من حقها ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة فكانوا بين إفراط وتفريط

بقلم: عمر الأشقر
668
التغريب: الأهداف والأساليب ج1 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج1


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2191