الشعر الجاهلي واللهجات ج1

الشعر الجاهلي واللهجات ج1 | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

726 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الشعر الجاهلي القحطاني والعدناني

قال المؤلف في ص٣١: «على أن الأمر يتجاوز هذا الشعر الجاهلي القحطاني إلى الشعر الجاهلي العدناني نفسه. فالرواة يحدثوننا أن الشعر تنقل في قبائل عدنان، كان في ربيعة ثم انتقل إلى قيس ثم إلى تميم فظل فيها إلى ما بعد الإسلام؛ أي: إلى أيام بني أمية حين نبغ الفرزدق وجرير، ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين؛ لأننا لا نعرف ما ربيعة وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة؛ لأننا ننكر أو نشك على أي تقدير شكًّا قويًّا في قيمة هذه الأسماء التي تسمى بها القبائل، وفي قيمة الأنساب التي تتصل بين الشعر وبين أسماء هذه القبائل، ونعتقد أو نرجح أن هذا كله أقرب إلى الأساطير منه إلى العلم اليقين.

يقول بعض الكاتبين في تاريخ الأدب كابن سلام الجمحي: كان الشعر في الجاهلية في ربيعة، ثم تحول إلى قيس، ثم آل إلى تميم واستقر بها.

يقولون هذا وهم يريدون أن أقدم من عُرفوا بالشعر الجيد كانوا في ربيعة مثل مهلهل وطرفة والمتلمس والحارث بن حلزة والأعشى، ثم ظهر في قيس شعراء فائقون كالنابغين الذبياني والجعدي وزهير بن أبي سلمى ولبيد والحُطيئة، ثم أصبح أكثر البارعين في الشعر من بني تميم إلى عهد الفرزدق وجرير، وفي شعراء تميم أوس بن حجر وعلقمة بن عبدة ومالك ومتمم ابنا نويرة.»

سمع المؤلف هذا الحديث فعرض لنفسه حال لم يدر هل هو إنكار أو شك، وقد توجه هذا الإنكار أو الشك إلى أن هناك قبيلة تسمى ربيعة وأخرى تسمى قيسًا وثالثة تسمى تميمًا، ثم توجه هذا الحال الذي هو إنكار أو شك إلى قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء وبين أسماء هذه القبائل.

أما الإنكار أو الشك في أن هناك قبائل تسمى بهذه الأسماء فلا يمكنك علاجه إذا استطعت أن تعالج أصم ينكر أن في الأصوات مزعجًا وآخر لذيذًا.

وأما الإنكار أو الشك في نسبة هؤلاء الشعراء إلى هاتيك القبائل فمنشؤه أن المؤلف لا يقدر عناية العرب بالمحافظة على أنسابها ويضعها بالموضع اللائق بها من البحث، ولا نريد بهذا إغلاق باب البحث في أنساب الشعراء أو غيرهم، بل أعني أنه متى أجمع علماء التاريخ على أن الحارث بن حلزة — مثلًا — من ربيعة، أو أن الأعشى من قيس، أو أن الفرزدق من تميم، وثقنا بهذا الطريق العلمي وليس لنا أن ننكر أو نشك في هذه الأنساب إلا أن يقع في أيدينا ما يحل عقدة ذلك الإجماع.

أما سلسلة النسب التي تصل الشاعر باسم القبيلة فقد يحف بها من الشواهد ما يلحقها بالظنون الراجحة، وكثير من هذا النوع ما يذكرونه على أنه رُوي وتُحدث به، فيدونونه وهم عارفون بقيمته التاريخية، ويقرؤه الناس دون أن يضلوا به أو يضعوه في سلك العلم أو الظن القريب منه؛ لأنهم لا يبنون عليه إرثًا أو مصاهرة أو مناصرة. فإن أراد المؤلف أن يتعاظم أمام طلابه في الجامعة بأنه يشك أو ينكر حيث يتيقن أهل العلم أو يتفقون، فقد تصور هذه الطائفة القليلة المستنيرة بمكان البله والغباوة.

وإذا ضل عن المؤلف الطريق العلمي لمعرفة أنساب هؤلاء الشعراء فليمش إليه على الطريق الذي عرف به أن في قبائل العرب قبيلة يقال لها: كندة، وأن عبد الرحمن الأشعث هو ابن محمد الأشعث، وأن محمد الأشعث هو ابن الأشعث، وأن الأشعث هو ابن قيس، وأن نسب آل الأشعث يتصل بقبيلة كندة.(1) ومن بديع منطق المؤلف أن يتماثل الطريقان إلى الغاية فيرضى عن أحدهما ويسخط على الآخر، كأن إنكاره أو شكه اختياري يستدعيه متى شاء، ويصرفه في الوقت الذي يريد!

 

مسألة النسب

ذكر المؤلف أن مسألة النسب لا تعنيه الآن، وأنه سيعرض لها إذا اقتضت مباحث هذا الكتاب أن يعرض لها، ثم قال في ص٣١: «إنما المسألة التي تعنينا الآن وتحملنا على الشك في قيمة هذه النظرية (نظرية تنقل الشعر في قبائل عدنان قبل الإسلام) مسألة فنية خالصة. فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية وتتباين لهجاتها قبل ظهور الإسلام.»

تختلف لهجات القبائل العربية اختلافًا لا يخرجها عن أن تعد لسانًا واحدًا، وأن يكون هذا اللسان ذا قوانين تجري في هذه اللهجات بأسرها.

تختلف في معاني بعض الكلمات، أو بتغاير بعض حروفها، أو هيئتها من حركة وسكون، أو صفتها كالإمالة والتفخيم، أو بقلبها، أو بالزيادة فيها أو النقص منها، وتختلف في حروف معدودة بالإعراب والبناء، وبإعمال بعض الأدوات وإهمالها.

ولا تزال هذه الوجوه من الاختلاف محفوظة في كتب اللغة والنحو، بيد أن علماء العربية قد يعزون الكلمة أو اللهجة إلى القبيلة المختصة بها، وربما ذكروا أنها لغة من غير عزو إلى قبيلة بعينها.

ولم تشتد عنايتهم بذكر اسم القبيلة عند كل كلمة ترد على وجهين أو وجوه؛ لأنهم أصبحوا ينظرون إلى هذه اللهجات بمرآة عامة هي اللغة العربية، فصارت تلك الحروف على اختلاف وجوهها وأحوالها مندرجة تحت اسم هذا العنوان الشامل، ولهذا تسمعهم يجعلون للمتكلم الخيار في أن ينطق بأي حرف شاء وعلى أي وجه اتفق له، وهو معدود في كل حال ناطقًا بالعربية. قال ابن فارس بعد أن ذكر الوجوه التي تختلف بها لغات العرب: «وكل هذه اللغات مسماة منسوبة لأصحابها لكن هذا موضع اختصار، وهي وإن كانت لغة قوم دون قوم فإنها لما انتشرت تعاورها كلٌّ.»(2) وقال ابن جني في كتاب الخصائص: «اللغات على اختلافها كلها حجة والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ.» وقال أبو حيان في شرح التسهيل: «كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه.»

فلغات العرب العدنانية تختلف على حسب الوجوه التي أومأنا إليها، وهذا الاختلاف المعقول لا يجد فيه المؤلف دليلًا أو شبه دليل على أن الشعر الجاهلي مختلق وإن ساقه هنا بتوهم أنه قائم مقام مقدمتين صادقتين لا مردَّ لهذه الدعوى عن أن تكون وليدتهما، وقد أريناك فيما سلف نوعًا من الأسباب التي تجعل هذا الاختلاف قليل الظهور في أشعار الفصحاء، وسيوافيك البحث بعد هذا بما يدحر هذه الشبهة عن سبيلك.

 

نظرية العزلة العربية

قال المؤلف في ص٣٢: «ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية، وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجة.»

أتدري ما هي نظرية العزلة التي أشار إليها آنفًا وود في هذا الفصل أن تصح وتستقيم له؟ هي تلك النظرية التي رماها على أكتاف «الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي من درس الحياة العربية قبل الإسلام»، وشن عليها الغارة بنكير لا هوادة فيه، وكنا قد أمطناها عنهم ببيان أن في الشعر الجاهلي نفسه ما يدل على أنهم كانوا يتصلون بالأمم المجاورة لهم بمقدار.

أنكر المؤلف نظرية العزلة العربية حين رآها تعترض ما أراده من أن للجاهليين اتصالًا بالعالم الخارجي! وودَّ في هذا الفصل أن تستقيم له؛ لأنها تؤيد نظرية عدم التقارب بين لغات القبائل العربية!

ولعله يعود فيقول: إنما أنكر اعتزال العرب للأمم الأخرى، وأما حالهم فيما بينهم فالتقاطع والتباعد، ويلزمه على هذا التأويل أن يكون العرب الواقفون على سياسات الأمم الأجنبية إنما هم النازلون بأطراف الجزيرة؛ لأن القبائل النازلة في أحشاء الجزيرة لا يمكنها أن تتصل بالفرس والروم والحبشة ومصر إلا أن تجوس خلال من يجاورها أو يجيء على طريقها من القبائل الأخرى.

وليس بمستبعد على مثل المؤلف أن يقول لك في صراحة وعجل: إن تلك القبائل كانت على مدنية شائقة، وكانت تمتطي طيارات تمخر بها في الجو حتى تتصل بالأمم الأجنبية ولا تلقى في سبيلها شخصًا من قبيلة أخرى عربية، تفعل ذلك حذرًا من أن تتقارب لهجاتها ويتماثل شعرها!

 

لكل قبيلة لهجة ولغة؟

قال المؤلف في ص٣٢: «فإذا صح هذا كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة، ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي.»

هذه الشبهة علقت بذهن المؤلف فيما علق من مقال مرغليوث، وهي مطرودة بنظرية وجود لغة أدبية يحتذيها الشعراء على اختلاف قبائلهم منذ عهد الجاهلية، وهذا لا يقوله أنصار القديم وحدهم، بل يقوله كثير ممن هم أخلص لمذهب الجديد وأعرق فيه من المؤلف، فهذا البستاني يقول في دائرة معارفه:(3) «وكان أشد الخلاف بين أهل نجد والحجاز وأهل اليمن الحميريين، وكانوا كلهم مولعين بقول الشعر، وأرادوا أن تبقى الاتصالية في الأخبار والأحوال بين قبائلهم على اختلافها، ولم يكن لهم كتب يدونون فيها الوقائع بحيث يفهمها الجميع، فأجمع الشعراء على أن ينظموا شعرهم بألفاظ فصيحة مشهورة شائعة بين كل القبائل، وبذلك اشتركت ألفاظ اللغة العربية وشاعت بمنطوق واحد وتقررت من الجميع.»

وهذا سيديو يقول في خلاصة تاريخ العرب:(4) «كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة ثم مالوا إلى الوحدة السياسية … ورأوا الأشعار وسيلة لانتشار فخارهم في بحيث جزيرة العرب وسبيلًا لوصول أعمالهم العجيبة ومآثرهم إلى ذراريهم فأحيوها وعكفوا عليها، لكن كلام مؤلفي نجد والحجاز لم يفهمه مؤلفو اليمن، بل لم تتفق قبائل بلد واحد على لغة واحدة، إلا أن شعراء العرب الموكول إليهم اختراع لغة أعم من تلك اللغات رُويت أشعارهم في كل جهة فتعينت الألفاظ المعدة للدلالة على الأفكار والتصورات، فإن العشائر المستعملة للعبارات المختلفة للدلالة على فكرة واحدة متى سمعت قول الشاعر اختارته في ذلك الموضوع وفهمت مع ذلك فوائد التمدن، فلذا قابلت الأمة العربية هذه الابتكارات العقلية بالاعتبار، وأنشأوا في عكاظ والمجنة وذي المجاز للمفاخرة بالشعر مجالس حافلة خالية من التحكم على النفوس.»

وقال الدكتور «تشارلس ليال» في مقدمة المفضليات بعد أن أمتع الرد على مرغليوث: «إنه مما لا شك فيه أنه وجد بجزيرة العرب قديمًا كما يوجد اليوم في كثير من أنحاء الجزيرة لهجات وفروق عظيمة، ولكنا نرى فرق اللهجات في لغة الشعر قليلًا — إلا في أشعار طيئ — ومعناه أن لغة الشعر في أنحاء الجزيرة صارت واحدة، ومجموعة لغات الشعر الجاهلي وكثرة المترادفات العظيمة إنما وجدت في الشعر بامتصاص تدريجي، وبذلك نشأت لغة شعرية هضمت لهجات القبائل المختلفة. ولا محالة أن هذا يستغرق زمنًا يكون المشتغلون فيه لوضع هذه اللغة الشعرية وأوزانها في أقصى ما يمكن من العزم والنشاط.» ثم قال: «ويظهر لنا أن هنالك أثرًا من الصحة للرواية القائلة بأن سوقًا سنوية كانت تعقد في الأشهر الحرم بجوار مكة ويتنافس فيها الشعراء بمآثر الفصاحة، وأن مثل هذه المجتمعات والأسواق هي المدرسة التي رقت الشعر وأسلوبه وأحكمت قواعده.»

وفي دائرة المعارف الإسلامية الإنكليزية: «نتساءل كيف أمكن الشعراء وأكثرهم أميون أن يوجدوا لغة أدبية واحدة، ففعلوا ذلك رغبة منهم في انتشار أشعارهم بين جميع القبائل، وهم إما أن يكونوا قد استعملوا كلمات وجدت في جميع لهجات القبائل بسبب الصلات التجارية بين القبائل المختلفة فأتى الشعراء وهذبوها، وإما أنهم اختاروا بعض لهجات خاصة فأصبحت هذه اللهجة لغة الشعر.» وفيها: «كان جميع شمال جزيرة العرب في أوائل القرن الخامس للميلاد لهم لغة واحدة وهي لغة الشعر، ويمكننا القول بأنها نشأت تدريجيًّا بمناسبات واختلاطات بين القبائل المختلفة مثل هجرة القبائل في طلب المرعى، وحجهم السنوي إلى أماكنهم المقدسة أمثال مكة وعكاظ، ويظهر أن هذه اللغة استقت من لهجات كثيرة.»

وقد أخذ «أدور براونلشر» في رد هذه الشبهة على مرغليوث بتسليم أن لغة الجنوب مخالفة للغة العربية، وذهب إلى أن اللغة الأدبية وحدت لهجات القبائل الشمالية، ولم يمنع مع هذا أن ينظم أناس من القحطانيين أشعارًا بهذه اللغة؛ لأن كثيرًا منهم يتكلمون باللغتين، فقال: «إن اختلاف الشعر العربي عن نصوص المخطوطات الموجودة في جنوب بلاد العرب لا يدل إلا على أمر واحد وهو أن سكان هذه الممالك الجنوبية لا نصيب لهم في صنع الشعر العربي، على أن هذا لا ينفي اشتراك بعض أشخاص منهم في وضع الشعر؛ لأن كثيرًا من سكان جنوب بلاد العرب كانوا يتكلمون باللغتين قبل أن يظهر عامل التوحيد الإسلامي بأزمان عظيمة.» ثم قال: «إن اختلاف لغة جنوب بلاد العرب عن لغة الشماليين ليست بالأمر المستغرب، ولا سيما إذا علمنا أن لغة الجنوب ليست بلهجة عربية بل هي لهجة سامية، بينما لهجات العربية الشمالية المختلفة أمكن توحيدها في لغة أدبية راقية.»

فهؤلاء الباحثون المتمرنون على منهج ديكارت قد قرروا نظرية وجود لغة أدبية زمن الجاهلية، إلا أن من هؤلاء من يجعلها للعرب قاطبة عدنانية وقحطانية، ومنهم من يجعلها للقبائل العدنانية، ولا يمنع مع هذا أن ينظم بعض القحطانيين في هذه اللغة أشعارًا حيث إن فيهم من هو قائم على اللغتين. وعلى أي حال لا يستقيم لأحد أن ينكر شعرًا يعزى لقيسي أو ربعي أو كِندي لمجرد ما يوجد بين لغات هذه القبائل أو لهجاتها من اختلاف.

 

المعلقات وأصحابها

ذكر المؤلف المطولات أو المعلقات وأصحابها وقال في ص٣٣: «تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة أو تباعدًا في اللغة أو تباينًا في مذهب الكلام. البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين والمذهب الشعري هو هو.»

لا يشعر القارئ في هذه المطولات بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة؛ لأن للشعر والخطابة منذ عهد الجاهلية لغة واسعة النطاق بعيدة ما بين الأطراف.

وليس كل ما تسمعه فيما يصوغه الفصحاء من شعر أو نثر هو لغة قبيلة واحدة، بل هو مستخلص من لغات شتى، وفي هذه اللغة الضاربة في نواحي الجزيرة يمينًا ويسارًا نزل القرآن وتفقهت فيه سائر القبائل حتى القحطانية من غير أن يحتاجوا في فهمه إلى ترجمان، ومن يسمي هذه اللغات المهذبة لغة قريش فلأن لغة قريش كانت المبدأ الذي شبت عليه هذه اللغة وأخذت تجتني من لغات القبائل ما يخف وقعه على السمع والذوق واللسان، فأنت إذا قرأت قصيدة من هذه المطولات قد تمر على كثير من لهجات القبائل ولكنك لا تشعر بها؛ لأنها أصبحت بفضل هذه اللغة سائرة في شعر كندة وربيعة وقيس وتميم كسيرها في شعر قريش.

ومن آثار وحدة اللغة الأدبية هذه المترادفات الفائقة كثرة، وهذه الكلمات التي تنقلها من معنى إلى معنى أو معان، وهذه الألفاظ التي يحق لك أن تنطق بها في هيئات متعددة، وقد تكون هذه الأوزان الشعرية متفرقة في لهجات القبائل ووقع اختيار الفصحاء عليها وأخذوا ينسجون في النظم على مثالها، فلا عجب أن تظهر هذه المطولات في لهجة مماثلة وأوزان متشابهة، وأن تكون ألفاظها مستعملة في معانيها كما نجدها عند شعراء المسلمين.

قال المؤلف في ص٣٣: «كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما. فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حمل عليها حملًا بعد الإسلام. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث.»

لتختلف اللغات، لتتباين اللهجات، ليكن البعد بين اللغات واللهجات مثل ما بين مطلع الشمس ومغربها، ليقم على اختلافها سبعون برهانًا، لتكن براهينها أجلى من الشمس في رونق الضحى. والذي لا يهتدي المؤلف إلى نفيه سبيلًا هو قيام لغة أدبية باسطة أشعتها في كل ناحية، ولا سيما بعد أن كانت قدومه القاسية إحدى الضاربات في أساس نظرية العزلة العربية.

أما ما يدعيه من أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما، فناشئ من قلة خبرته بحقيقة نوع يسمى المترادف، وآخر يسمى المشترك، وثالث يستعمل على وجهين أو وجوه، والألفاظ المترادفة والمشتركة وذات الوجوه المتعددة موجودة في الشعر الجاهلي، وهي من تأثير اختلاف القبائل ولغاتها؛ لأن «العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي»، و«لم يكن العرب كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين»، و«إذا كانوا أصحاب علم ودين وأصحاب ثروة وقوة وبأس وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها فما أخلقهم أن يكونوا» على اتصال فيما بينهم وأن تتربى على ألسنتهم لغة ينطق بها فصحاؤهم إذا ألقوا خطبة أو نظموا شعرًا.


 

الإشارات المرجعية:

  1. تحدث بهذا في ص١٣٤–١٣٧.
  2. الصاحبي ص٢٢.
  3. ج١٠ مادة «شعر».
  4. ص٣٦.

 

المصدر:

محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي، ص85

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#طه-حسين #في-الشعر-الجاهلي
اقرأ أيضا
الفزعة للأصدقاء والتراخي في البر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفزعة للأصدقاء والتراخي في البر


تجد في كثير من المراهقين والشباب إظهار التفاني في الفزعة للأصدقاء حتى أنني كنت أتعجب من قصص أسمعها من بعض القريبين تجد الشاب يسافر مسافة 300 كلم ويعود في نفس اليوم لأن صديقه خارج الرياض طلب منه أن يوصل له غرضا يحتاجه وفي نفس الوقت تجد هذا الشاب المتفاني في قطع المسافات الطويلة مع أصحابه يكون أحيانا في المنزل مضطجعا في وقت راحة فتطلب منه والدته أن يأتي بخبز أو لبن من البقالة المجاورة فيتلكأ ويتأفف وربما قال لوالدته: الله يهديك ليه ما أرسلتوا لي قبل آصل البيت ما تجي طلباتكم لين أجي أرتاح

بقلم: إبراهيم السكران
461
الخوف من الله حقيقته وفضله ج2 | مرابط
تفريغات

الخوف من الله حقيقته وفضله ج2


من العبث ومن الكلام الباطل المعسول أن ينقل عن بعض المتصوفة سواء كانوا نساء أو رجالا أن أحدهم كان يقول في مناجاته لربه تبارك وتعالى: ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك إلى آخر الخرافة المزعومة لا يتصور من إنسان عرف الله حق معرفته ألا يخشى من ربه تبارك وتعالى بل -كما ذكرنا- كلما كان مقربا إلى الله كلما كان أخوف من الله وأخشى لله عز وجل وما المقصود من مثل هذه الخرافة الصوفية إلا أن يحمل الناس أن يعيشوا هكذا ليس هناك خوف منهم لله يحملهم على تقواه ولا -أيضا- عندهم رغبة فيما عند الله يطمعهم ف...

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
631
أتباع الرسل أكمل الناس عقولا | مرابط
اقتباسات وقطوف

أتباع الرسل أكمل الناس عقولا


وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد فأكمل الناس عقولا أتباع الرسل وأفسدهم عقولا المعرض عنهم وعما جاءوا به ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب سبحانه به فإنه يفسده على صاحبه

بقلم: ابن القيم
309
الهجرة إلى الله ورسوله | مرابط
مقالات

الهجرة إلى الله ورسوله


لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه أحدث له ذلك نظرأ فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله وينفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد

بقلم: ابن القيم
645
حدود النظر إلى المخطوبة أثناء الرؤية | مرابط
المرأة

حدود النظر إلى المخطوبة أثناء الرؤية


هل يجوز للخاطب رؤية شعر المخطوبة في الرؤية الشرعية؟ وما يحل له رؤيته؟ أثير مؤخرا بعض الجدل حول ما يجوز للخاطب أن يراه في الرؤية الشرعية واختلاف الفقهاء والمذاهب في هذه المسألة وبين يديكم تأصيل علمي لحدود الرؤية بقلم د. قاسم اكحيلات

بقلم: قاسم اكحيلات
264
حضارة الصورة | مرابط
فكر ثقافة

حضارة الصورة


الحضارة الحديثة هي حضارة الصورة التي تدور حول مركزية البصر والاستعراض والثقافة الاستهلاكية التي تعطي القيمة الكبرى للجسد في مسار حياتها مقابل إهمال الروح وكل عناصر حضارة الصورة معادية للسر والغموض إذ ترتبط غايتها بمسألة التداول والشفافية المالية حول الإنسان والأشياء

بقلم: سامي الحربي
1146