ليس هناك دليل قطعي

ليس هناك دليل قطعي | مرابط

أصل الإشكالية

من المقولات الغريبة في المشهد الفقهي المعاصر، المطالبة في مسائل الشريعة بالأدلة القطعية دون الأدلة الظنية، فإذا ما حكيت إيجاب مسألة أو تحريمها قال لك بعضهم: هل فيها دليل قطعي؟ وكأنَّ الأحكام الشرعية لا تنبني إلا على القطعيات، وأن ما لم يكن بهذه المثابة من الأدلة مُطرح الدلالة لا يؤخذ به.

وما من شك أن جعل مناط الالتزام بالنص كونه قطعي الثبوت قطعي الدلالة، قول باطلٌ، وما يلزم منه لوازم باطلة، إذ دائرة التعبد بمقتضيات النصوص أوسع دائرةً من هذا، فالعبد ليس مطالبًا بالعمل بما جزم بمراد الله تبارك وتعالى فيه وإنما هو مطالب بالعمل بما اعتقد أو غلب على ظنه أنه مراد له تبارك وتعالى، إن كان عالمًا مجتهدًا فبنظره في مصادر التلقي الشرعية، وإلا فباتباع أهل العلم عبر سؤالهم والاختيار من أقوالهم باجتهاد يصلح من مثله بما يرجو أن يبلغه مراد الله تبارك وتعالى.

وقد بين الله تبارك وتعالى مرجع الاحتكام في حال الخلاف فقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، وقال سبحانه: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

ثم إن الله بيّن لنا أنه أنزل هذا الوحي المحتكم إليه على طبيعة ثنائية، فمن نصوصه ما هو محكم ومن نصوصه ما هو متشابه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ).

القطعي والظني

فالنص الشرعي إما أن يكون قطعيًا يقينيًا أو يكون ظنيًا، والقطعية قد تكون في الثبوت والدلالة أو في واحد منهما، والظنية كذلك، والواجب الأخذ بالنص، فإذا كان:

النص قطعيًا في الثبوت والدلالة فالأخذ به متعينٌ واجبٌ والمخالف له مذمومٌ، فإن خالف مقتضى النص مع عدم اعتقاد قطعيته فقد يُعذر بالتأول والجهل ونحوه بحسب حاله، أما إن اعتقد قطعية النص ورده ولم يُسلِّم لمقتضاه فكأنه كافح النبي صلى الله عليه وسلم برد أمره وخبره فيترتب عليه أحكامه وآثاره من الكفر والإثم ونحوه.

أما إن كان النص ظنيًا فالأخذ به والإذعان لدلالته متعينٌ أيضًا، ولا يلغي وصف الظنية حجيته، وإنما يتعين الأخذ به بحسب ما ترجح لقارئه من المعنى، فمتى اعتقد المرء أن النص دالٌ على كذا فواجب عليه العمل بحسب اعتقاده، فإن اعتقد من النص معنىً أو غلب على ظنه ثم تركه فقد أخل بأداء واجب التسليم ولحقه الذم.

وينبغي ملاحظة أن ظنية النص تمنع من الحكم على من خالف في ثبوته أو فهمه بأنه تارك للتسليم ضرورةً، بل قد يكون مُسلِّمًا للنص بمقتضى فهمه شريطة أن يؤدي الاشتراطات الشرعية الصحيحة الموصلة لفهم معتبر من النص، أو سالكًا سبيلًا صحيحًا في ترجيح ثبوت النص من عدمه.

وفي مفهوم القطع والظن لا بد من إدراك أصلين مهمين:

الأول: أن معيار القطعية والظنية والتي تترتب عليه أحكامهما هو معيار أهل السنة والجماعة فيهما لا المعايير المبتدعة والتي قد توسع دلالة الظنية لتدخل في طياتها بعض النصوص القطعية، كجعل السنة ظنية كلها، أو رد خبر الآحاد في مسائل العمل، أو الاعتقاد مطلقًا، أو ادعاء ظنية الدلالة النقلية بإطلاق أو نحو ذلك، فهذه أقوال باطلة قائمة على معايير غير صحيحة في تحديد ما هو قطعي وما هو الظني.

الثاني: أن تقسيم القضايا والمسائل وتنويعها إلى قطعي وظني ليس حاسمًا في كل مسألة بحيث يمكن فرز المسائل جميعًا بضابط قطعي، وكأنَّ بين هذا القسم وذاك حدودًا فاصلة قاطعة، بل الأمر يتفاوت في بعضها من عالمٍ لآخر، ومن مسألة لأخرى، فمن المسائل ما يكاد أن يكون قطعيًا، ومنها ما يتأرجح بين القطعية والظنية، فالاجتهاد كما قد يقع في حكم المسألة فقد يقع أيضًا في تصنيف المسألة وإعطاءها الرتبة المناسبة لها، فلدينا إذن ثلاث دوائر من المسائل:

مسائل قطعية بلا إشكال.
مسائل ظنية بلا إشكال أيضًا.
مسائل مشتبهة يختلف في تقدير وزنها الشرعي أهل العلم، ويتردد الناظر فيها هل هي ملتحقة بالقطعيات أو الظنيات.

التردد في بعض المسائل

ووجود مثل هذا التردد في بعض المسائل هل هي قطعية أو ظنية، لا يلغي حقيقة هذه المراتب ذاتها، فإنه كثيرًا ما يقع التردد في بعض مفاهيم الشريعة وتقسيماتها إلحاق بعض الأفراد بها، فلا يكون مثل هذا التردد مبطلًا لها، مثل التردد في تعيين أفراد (الضروريات والحاجيات والتحسينيات) فلا يصح أن يكون التردد هذا سببًا للقول بأن لا وجود لأحكام ضرورية أو حاجية أو تحسينية!

وكالتردد في اليسير المعفو عنه، وهو مستعمل بكثرة في عددٍ من المسائل الفقهية في الطهارات والأموال والأشربة وغيرها، فهل يقال: لا يوجد فرق دقيق بين اليسير والكثير، وبناءً عليه فلا وجود لفرقٍ بين القليل والكثير في أي حكمٍ مطلقًا؟!

ومثل ذلك التردد في الذرائع الموصلة إلى الحرام، فلا يمكن الجزم في كل الأحوال بتفريق دقيق بين الغالب المؤثر وما ليس بمؤثر ، فهل يعني أنه لا أثر للذرائع في الشريعة مطلقًا!

والمراد: أن وجود إشكال في تعيين بعض أفراد المفاهيم والمعايير والضوابط الشرعية، لا يلغي أصل هذه المعايير والضوابط، بل الواجب استفراغ الوسع في بلوغ المراد الشرعي منها.

لوازم اشتراط القطعية

وبعد إدراك ما سبق، وأن سلب وصف القطعية لا يلغي حجية الدليل بإطلاق، بل الدليل الظني الثابت حجة أيضًا، وإلغاء حجيته واشتراط القطعية، له لوازم وآثار فاسدة، منها:

عدم إلزامية الوحي إلا في محال الإجماع القطعي، إذ إن النص الظني مظنة وقوع الخلاف غالبًا، وجعل هذا الشرط لإلزامية الوحي قول باطل ما قال به عالمٌ قط، يقول ابن حزم: (ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقًا بإجماع الأمة). ويقول: (وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع، بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافرٌ بلا خلاف، لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها).

هدر كثيرٍ من أحكام الشريعة، فإن دائرة الأحكام الظنية من أحكام الشريعة واسعة جدًا، فإذا جعلت من شرط الاحتجاج بالدليل قطعيته لزمك عدم إعمال الأدلة الظنية، وعدم إعمالها مفضٍ لاطراح العمل بهذه الدائرة الواسعة من الظنيات.

أنه قد يفضي بصاحبه إلى التهاون في الأحكام القطعية أيضًا، لأنه حين يتعامل مع نصوص الشريعة وأدلتها وهو يشترط عليها أن تكون قطعية، ويطرح من الوحي ما لم يكن بمثل هذه المثابة، سيضمحل من قلبه التعظيم الواجب للوحي، والشعور بواجب العمل به، ثم لا يلبث أن يقع أسير الهوى، فإذا أقبل على نص سَهَّلَ على نفسه ادعاء بأنه لم يُحصِّل القطع بعد، لأن القطع تابع للإيمان، وقد يكون النص مفيدًا للقطع فعلًا، ولكن لم تنشط نفسه لبذل النظر الذي يكشف له عن قطعية هذا النص، وهذه حال يدركها من تدبر في حال كثير من مشترطي القطعية في الأدلة تجدهم إن كوشفوا بدليل قطعي على خلاف آرائهم ادعوا متعجلين بأن الدليل ظني وليس محلًا للإلزام الشرعي.

وقد تزداد المشكلة عند بعض الناس حين يُضيق من دائرة القطعيات فيجعل أي مخالفة ولو كانت شاذة قادحةً في القطعية، وأي احتمال ولو كان ضعيفًا جارحًا لها، بل قد لا يتورع بعضهم عن التعلق بأدنى شبهة لنزع وصف القطعية عمّا خالف هواه من الأدلة.

وترى بعض من ابتلع هذا التصور المنحرف من المسلمين يشاهد تحريف دين الله وشريعته ولا يتحرك فيه ساكن، لأنهم بزعمه لم ينكروا قطعيًا! فكل ما يقولونه له شبهة في ثبوت أو دلالة! فيؤول الأمر إلى إسباغ الاحترام على ما كان قطعيًا عنده فقط، أما ما خرج عن هذه الدائرة فلا حرمة له ولا كرامة.

لماذا لا تكون أحكام الشريعة كلها قطعية؟

وإن سألت: لماذا لم تكن أحكام الشريعة كلها على طبيعة واحدة في القطعية؟
فالجواب: أن كمال حكمة الله تعالى اقتضت ذلك لأمورٍ منها:

الفتنة والابتلاء، وهو ما يظهر من آية الإحكام والتشابه، حيث قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). وقال صلى الله عليه وسلم بعد ذكره لهذه الآية: (فإذا رأيت الذين يَتَّبِعُونَ ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ).

استخراج عبودية الاجتهاد من أهل العلم، فإن العالم إذ أفرغ وسعه في تطلب مراد الله تعالى، كان في جهده هذا عبودية مطلوبة يثيب الله عليها، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

تفاوت الأحكام بحسب أهميتها وتحقيقها للمصالح ودفعها للمفاسد، فأحكام الشريعة ليست على درجة واحدة، فمن يشترط القطع يريد أن تكون الأحكام كلها على درجة واحدة، وهذا ينافي عموم الشريعة وشمولها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومراعاتها لمصالح المكلفين في الدنيا والآخرة.

والمقصود أن من المقولات الباطلة الرائجة توهم وجوب بناء الأحكام الشرعية على الأدلة القطعية، وهو وهم فاسد تكذبه طبيعة الأدلة الشرعية ذاتها، وممارسات علماء الأمة في القديم والحديث، ونظرة عجلى في المدونة الفقهية تكشف عن حجم الفروع الفقهية المبنية على الظنيات، بل مثار الخلاف بين الفقهاء إنما وقع في جمهور عريض منه على الطبيعة الظنية لكثير من أدلة الشريعة.


المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص69
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
الإسلام أسلوب حياة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإسلام أسلوب حياة


مقتطف ماتع للكاتب محمد أسد من كتاب الطريق إلى مكة يحدثنا عن بداية تعرفه على الإسلام وكيف أنه رأى هذا الدين أسلوبا شاملا للحياة يحكي لنا بعض اللمحات الجميلة حول اختلاف الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والمذاهب والعقائد

بقلم: محمد أسد
643
ما أحسن الرجوع إلى الله | مرابط
تفريغات

ما أحسن الرجوع إلى الله


ما أحسن الرجوع إلى الله! كلمة عظيمة رددها أخونا فهد بن سعيد ثلاث مرات وهي كلمة ذات معنى لأنها تخرج بعد معاناة معاناة رجل عاش فترة من الزمن في ظل البعد عن الله ثم رجع إلى الله فذاق لذة الرجوع إلى الله وليس من ذاق كمن لم يذق

بقلم: سعيد بن مسفر
312
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج1 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج1


ومسألة ذهاب الصالحين هي من أشراط الساعة التي يدخل فيها ذهاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبض العلم فإنه لا يمكن أن يوجد علم مع عدم وجود الصالحين الذين يقومون به وقبض الصالحين لازم لظهور الجهل وعدم العدل أيضا ومن الأصول ظهور الفتن في الناس ولازم ظهور الفتن ظهور الزنا وشرب الخمر والجهل والهرج وهو القتل وغير ذلك

بقلم: عبد العزيز الطريفي
697
المرأة ومطاردة الجمال الوهمي | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

المرأة ومطاردة الجمال الوهمي


إن المرأة بهذا الهوس اللا متعقل في مطاردة الجمال الذي يوهمها به الإعلام كل ما تقوم به هو تأخير موعد الخيبة التي تنتظرها تلك المرحلة اليائسة التي ستخامرها حين يسرق الزمن من عمرها السنوات ليقول جسدها الحقيقي كلمته ولينطق وجهها الحقيقي صدقه

بقلم: أمل الصالح
415
لماذا الاحتفال بغير أعيادنا ليس أمرا شكليا؟ | مرابط
مقالات

لماذا الاحتفال بغير أعيادنا ليس أمرا شكليا؟


انظر كيف حرص النبي صلى الله عليه وسلم على قطع عادات الجاهلية ووجه عنايته لها.. فالقصد لم يكن مجرد إحداث قطيعة مع شعائر الماضي بل بناء نظام اجتماعي جديد للأمة وما كان هذا ليحدث لولا القطيعة مع شعائر الماضي وعاداته وأعرافه! قطعا هذا الأمر ثقيل على النفس لضغط الداعي الاجتماعي لذلك لا تملك زمامه إلا النفوس القوية

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
244
فضائل سورتي الفلق والناس | مرابط
تفريغات

فضائل سورتي الفلق والناس


فمعلوم أن التعوذ هو الالتجاء وهو أيضا نوع من أنواع الرقية والدعاء فيكتفي الإنسان بذلك فتكون حينئذ رقية وتكون كذلك أيضا تعوذا من الجان وكذلك أيضا تعوذا من العين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ويتعوذ من العين فلما نزلت اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما

بقلم: عبد العزيز الطريفي
3924