العجيبة الثامنة ج1

العجيبة الثامنة ج1 | مرابط

الكاتب: علي الطنطاوي

735 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

عجائب العالم القديم

عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها. وهي عجائب حقًّا، ولكنها هياكل شيدت من حجارة قطعت من صخور الجبل أو آجر جبل من تراب الأرض ونضج على جمر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان. تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصناع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية... إنها كتبٌ لو جمعت لبني منها هرم صغير أو لشيد برج هائل.

 

تراث المسلمين

فهل يقاس أثر لا روح فيه- وإن لم يخل من عبقرية تروع ناظريها ويكبرها المتأمل فيها- بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتحرك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟

هل عرفتم (القاموس المحيط)؟ إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟ من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخًا؟ فكيف بمن ألفه تأليفًا؟! و(لسان العرب)، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟ و(تاج العروس شرح القاموس)؟ و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان على أمويته يتشيع؟ و(نهاية الأرب)، و(صبح الأعشى)، و(تفسير الطبري)، و(فتح الباري)، و(المبسوط)، و(شرح المواقف) للسيد الجرجاني، والزرقاني على (المواهب)، و(معجم البلدان)... وأمثال هذه الكتب التي تعد بالعشرات، بل بالمئات؟ إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلًا عن كتابتها كتابة.

فتصوروا كيف ألَّفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخًا؟ حتى كان في مكتبة العزيز بن المعز، وهو من ملوك الدولة العبيدية التي تُدعَى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب (العين). وهو أول المعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغًا إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعًا، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع علمًا جاء به كاملًا، هو علم العروض. استنبطه من أصوات القصارين وهم يخبطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميز منها (السبب) (طق) من (الوتد) (ططق)، وطبق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان.

وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها - كما يقول المقريزي في (خططه)- نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مائة نسخة من (الجمهرة) لابن دريد. وكل ذلك في عهد لم تكن عرفت فيه المطابع ولا الطابعات.

 

المكتبة الإسلامية

المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب، ذهب جلها ولم يبق منها إلا قُلُّها. وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل، وهو – على ذلك – شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول – كما نقلوا – أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما.

ولا نزال مع ذلك نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجودًا، آتيكم عليها بأمثلة. فهذا كتاب (الفصول والغايات) الذي قالوا إن المعري عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهم بريء، والكتاب مفقود، وفقده يؤكد التهمة ويقويها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لما كان محرر (القبلة) التي حلت محلها الجريدة الرسمية (أم القرى) رآه بيد أحد الباعة، فاشتراه بثمن بخس، وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا (التي ضُمَّت بعدُ إلى دار الكتب)، ثم طبعة الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: الزيات، وطه حسين، والزناتي.

وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه (الإبدال) -الذي كان يعتقد بأنه مفقود- ضمن مجموعة من المخطوطات. وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله ... فوجدت كتابًا عظيمًا هو ركيزة من ركائز علم اللغة، كان المعتقد أنه فقد فيما فقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو (معجم الأصلين)، أي الكتاب والسنة، للإمام الهروي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة (النهاية) وعدَّه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع. وجدت منه نسخة صحيحة، مشكولًا أكثرها مكتوبة من ثمانمائة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد، وكان يومئذ مدير معهد المخطوطات، فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أمريكا، ونسخة أخرى ناقصة أيضًا في إسطنبول. وهذا الكتاب إذا طبع كان أصلًا من الأصول، وصحح عليه القاموس ولسان العرب. وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتمامًا ولا تلقيت منه جوابًا!

وبيعت مرة تركة عالم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرد أولاده- وهم جهلة- الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي. وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن رأوا بينها كتابًا فيه صور ملونة أعجبتهم، فسلُّوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه, عرضوه على الوراقين، فإذا هو نسخة من (عجائب المخلوقات) للقزويني مكتوبة من أكثر من أربعمائة سنة، ميزتها أن فيها صورًا ملونة مذهبة كأنما صورت الآن، لها قيمة فنية لا تقدر، فباعوه بمئة ليرة (يوم كانت لليرة منزلتها)، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك.

 

المصائب والنكبات

هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات، العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لما انحدر علينا سيلهم المدمر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا – من جهلهم – كتبها في دجلة يمرون عليها يتخذونها جسرًا! حتى نقلوا أن ماء دجلة حيال الضفتين قد اسود مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونتاج العقول.

ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهارًا مما صعد منها من اللهب. وحسبكم أن تعلموا أن واحدة من مكتبات قرطبة كانت فهارس دواوين الشعر فيها – كما يقول ابن خلدون – أربعة وأربعين دفترًا كبيرًا. فهارس دواوين الشعر فقط! أحرقها الإسبان فأضاءت ليالي الأندلس...
هذا عدا ما أصابها من النكبات الفردية، من التحريق والتخريق والتمزيق والتغريق، حتى لم يبق من هذه المكتبة إلا الأقل الأقل، وهذا الأقل لا تزال المطابع في الشرق والغرب تطبع منه من مئتي سنة إلى الآن، ولم تطبع إلا بعض هذا القليل الذي بقي.

لقد اطلع عالم تركي على طرف من هذا التراث، هو حاجي خليفة صاحب (كشف الظنون)، فوصف في كتابه العظيم ما اطلع عليه فكان نحو عشرين ألف كتاب، وألفت ذيول لكشف الظنون تزيد عليه أضعافًا، وكلها مطبوع معروف تتداوله أيدي الناس.

وعالم تركي آخر هو طاش كبري زاده، صاحب (مفتاح السعادة)، وصف جانبًا آخر اطلع عليه فكان في ثلاثمائة وستة عشر علمًا (أو بحثًا إذا شئتم التدقيق والتحقيق).
وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن مكتبة الخليفة العبيدي- الذي يسميه الناس الفاطمي- لما استولى عليها صلاح الدين الأيوبي كانت كتبها تقرب من المليون.

إن من هذه الكتب ما لا يستطيع الواحد منا أن يقرأه قراءة، فكيف إذا حاول أن ينسخه نسخًا؟ فكيف وكثير منها أملاه مؤلفوه إملاء لأنهم كانوا من مكفوفي البصر؟ كـ(المخصص) لابن سيده، أوسع كتاب في اللغة، أملاه إملاء. و(الاستيعاب) لابن عبد البر، أملاه إملاء وهو ضرير لا يقدر أن يأخذ من الكتب.

و(المبسوط) أوسع كتاب في الفقه، أملاه مؤلفه وهو محبوس في الجب تحت الأرض لكلمة حق قالها عند حاكم ظالم، فكان تلاميذه يقفون في الطريق يستملون ويكتبون، وهو يملي عليهم من بطن الجبِّ، ما عنده كتاب ينظر فيه، ولا مرجع يرجع إليه، وقد بين ذلك في كتاب العبادات في آخر باب الإقرار.
 


 

المصدر:

فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون - دار المنارة، ط1، 2007هـ (ص 89)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#علي-الطنطاوي #تراث
اقرأ أيضا
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
291
الموسيقى .. حين تكون عقيدة فكرية! | مرابط
فكر

الموسيقى .. حين تكون عقيدة فكرية!


تجاوز الأمر هذا الحد حتى أصبحت الموسيقى عند بعضهم: هي فطرة إنسانية مما فطر الله الناس عليها فمن يحرمها فهو معاد لفطرة الله ومصادم للطبيعة.وحتى تدرك عمق هذه العقيدة الفكرية: لك أن تتخيل أن بعض الناس كان يعارض تدريس القرآن في الفصول الدراسية بدعوى عدم الحاجة إلى ذلك في نفس الوقت كان متحمسا بشراسة إلى ضرورة تدريس الموسيقى في المدارس!

بقلم: فهد العجلان
284
إنه لقرآن كريم | مرابط
اقتباسات وقطوف

إنه لقرآن كريم


يقسم رب العزة بمواقع النجوم أي: منازلها في السماء ثم يقول: إن هذا القسم لو تعلمون عظيمأي: هذا الذي أقسم الله تبارك وتعالى به وهو مواقع النجوم قسم عظيم اليوم نحن نعرف شيئا من عظمة هذا القسم بعد أن اخترعت هذه المكبرات والمناظير التي نرى بها نجوم السماء فعلى ماذا أقسم رب العزة

بقلم: عمر الأشقر
601
الأدلة السمعية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأدلة السمعية


مقتطف هام لابن القيم رحمه الله يذكر فيه نوعين للأدلة السمعية وفيه رد ضمني على من يقول أن الوحي مضاد للعقل أو أن العقل في جانب والأدلة السمعية في جانب آخر فالحقيقة أن الأدلة السمعية تدل وتشتمل على الكثير من الأدلة العقلية وهذا ما يقرره ابن القيم

بقلم: ابن قيم الجوزية
2870
التوجه الأخلاقي في علم الحديث | مرابط
تعزيز اليقين

التوجه الأخلاقي في علم الحديث


لا يستطيع من يدرس علم الحديث ألا يلحظ بوضوح التوجه الأخلاقي في بنية هذا العلم ليس مرتكزا يدور حول الصفات الشخصية للمتعلم والدارس والباحث فقط كما هو العصر الحاضر أي متعلق بالأمانة والصدق ونحو ذلك إنما مرتكزا للنشاط العلمي أيضا..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
390
الباطل على درجات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الباطل على درجات


مقتطفات متفرقة لشيخ الإسلام ابن تيمية يبين فيها أن الباطل على درجات متفاوتة فبعض الفرض لديها من الباطل أقل من غيرها ويقاس ذلك بحسب قربهم أو بعدهم عن الحق فمثلا اليهودي أو النصراني أفضل من الملحد الذي لا يؤمن بإله وهكذا كلما اقترب السلم من الحق كلما كان أفضل فهناك باطل خير من باطل آخر وهناك باطل شر من باطل آخر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1809