العقل وإدراك الحقائق

العقل وإدراك الحقائق | مرابط

الكاتب: عمر الأشقر

353 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وإن كثرة المذاهب والعقائد والفرق جعلت الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الشك والحيرة والتردد، بل تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين، التي لا تجد النفس لها مدفعًا، والتي تأسر النفوس وتخضع لها العقول.

 

الفكر الإنساني لا يستطيع أن يقيم من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تأريخ الإنسان وواقعه أصولًا توقفه على اليقين المنافي للشك، والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يحسن العقل الإنساني النظر فيه.

 

إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، فليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟ لذلك قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" [الإسراء:85].

 

إذا كان هذا هو شأن الإنسان مع الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم في البحث العقلي المجرد عن خالق الوجود، وعن العوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، وعن العوالم التي سيصير إليها الإنسان بعد الموت كالبرزخ واليوم الآخر؟ إن الإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، وسيبقى طيلة عمره حائرًا مترددًا.

 

ومتى لم يجد الإنسان برد اليقين في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم عليها حياته، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة وغايته التي يرمي إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته وأوجدت الكون، فإنه سيعيش في شقاء، وسيضل المسار في حين أنه يظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف المقصد، وأوشك أن يصل، ثم يكتشف أن ذلك وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، ثم ينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.

 

إقحام العقل فيما لا مجال له فيه لا يؤدي إلى نتيجة

ولن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي الوحي من الفلاسفة والمفكرين، ولكنني سأحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئًا ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا ورائه طويلًا.

 

فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيرًا من العنت، ثم يعلن أخيرًا أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه ( أقسام اللذات ) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

 

ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه:5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر:10]، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، "وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا" [طه:110]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

 

ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) فيقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم

 

ولا أنسى الجويني، وهو الذي كان يدعى ب(إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول:

لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.

 

وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئًا، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول:

اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئًا.

 

الوحي هادٍ للعقل الإنساني العاجز

إن الله العليم القدير الحكيم هو الذي خلقنا، وهو أعلم بنا من أنفسنا، فهو يعلم أننا بحاجة إلى معرفته لأنه خالقنا، ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف الذي خلقها، وما لم تعرف الطريق إليه، ويعلم كذلك أن العقل الإنساني الذي وهبه لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى معرفة صفات وأسماء خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده.

 

فتكفل لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى، وهو الوحي الذي يعرفهم بربهم، وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل أيضًا لمن اتبع نوره المنزل على الأنبياء بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، وبالنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وقد توعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الشقية في الدنيا، وفي الآخرة توعده بحياة أشد ضنكًا وشقاء.

 

قال تعالى: "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة:38].

وقال: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى" [طه:124-127].

 

ولقد بقيت البشرية بعد أن هبط آدم إلى الأرض، وتكاثرت ذريته على التوحيد، فكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر فيما بعد ضلوا في إلههم ومعبودهم، فعبدوا من دونه أولياء؛ فاتخذوا ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، فكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله، وهو نوح عليه السلام، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل واستكبر منهم الكثير، فأهلكهم الله تعالى.

 


 

المصدر:

محاضرة التراث العقائدي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العقل
اقرأ أيضا
في أخبار الآحاد | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

في أخبار الآحاد


أخبار الآحاد هو أن يخبره عدل يثق بخبره ويسكن إليه بأمر فيغلب على ظنه صدقه فيه أو يقطع به لقرينة به فيحمل ذلك مستندا لحكمه وهذا يصلح للترجيح والاستظهار بلا ريب ولكن هل يكفي وحده في الحكم هذا موضع تفصيل

بقلم: ابن القيم
679
الاعتبار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاعتبار


ومن اعتمد في هدايته وسداده على نفسه ومواهبه ومهاراته واستغنى عن ربه فلن تزيده إلا حيرة وضلالا وطغيانا ومن استعان الله واهتدى به هداه الله بأقل ما يبلغه من العلم ووفقه للعمل به ومن حاز الدنيا بكل ما فيها من زينة ومتاع ولم يطلب الباقيات الصالحات فهو أعظم الناس خسارة وهو الظالم والمظلوم ولا يظلم ربك أحدا

بقلم: حسين عبد الرازق
395
في القرآن كفاية الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

في القرآن كفاية الجزء الثاني


في القرآن كفاية تأتي هذه الشبهة في مقولة تظهر صاحبها في صورة المكتفي بالقرآن مصدرا للحجة والاستدلال فإذا استدللت لحكم شرعي بدليل من السنة النبوية قذف بهذه المقولة في وجهك مدعيا كفاية القرآن في إقامة الدين دون الحاجة لمصدر آخر وقد يعضد صاحب هذه المقولة مقولته ببعض الأدلة القرآنية كمثل قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء أو قوله سبحانه: ما فرطنا في الكتاب من شيء

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2339
القياس والاجتهاد عند الصحابة | مرابط
اقتباسات وقطوف

القياس والاجتهاد عند الصحابة


الصحابة - رضي الله عنهم - مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله وهل يستريب عاقل في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان

بقلم: ابن القيم
517
مرحلة ما قبل الزواج: تحدي الشهوات | مرابط
مقالات

مرحلة ما قبل الزواج: تحدي الشهوات


نحن نعيش في زمن ربما لم يمر على البشرية منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى يومنا هذا زمن مثله من ناحية طبيعة انتشار الشهوات وبواعثها والتفنن في الدعوة إليها بشتى صور الدعاية والإعلامن حتى صارت الإباحيات صنعة متكاملة لها أهلها ومنتجوها وممثلوها وشركاتها ومصانعها ومخرجوها ومروجوها وأصبحت تجارة ضخمة تدخل أموالا طائلة على عرابيها.

بقلم: أحمد يوسف السيد
461
الحركة العلمية في عهد عمر بن عبدالعزيز والدولة الأموية | مرابط
تاريخ

الحركة العلمية في عهد عمر بن عبدالعزيز والدولة الأموية


نشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة كما أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة وشكلت جيلا من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويرجع الفضل في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى -بعد الله- إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبص...

بقلم: د علي الصلابي
1218