من أدلة وجود الله: القيم المطلقة

من أدلة وجود الله: القيم المطلقة | مرابط

الكاتب: مجموعة كتاب

276 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

تتعدد ثقافات البشر وتختلف مشاربهم، وتتفاوت مراتبهم، وتفترق معتقداتهم على تطاول الأزمان، لكن عقلاءهم لم يختلفوا يومًا على جمال الفضائل، وقبح الرذائل.. على حسن العدل، وقبح الظلم.. على سموّ الأمانة، وسفول الخيانة.. وما برح الناس يمتدحون الصادق، ويذمّون الكاذب.. بل حتى من طغى نجده يحرص على ادعاء الأخلاق واستجلاب من يمدحه بمكارمها، وهذا فرعون الذي بلغ طغيانه ادعاء الربوبية يقول عن موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.

وهكذا يتوافق الناس في النظر إلى القيم، ولا يحتاج الإنسان إلى كبير علم أو طول نظَر ليدرك هذه النظرة إلى القيم، بل هو أمر ضروري متجذر في النفس الإنسانية، يجد المرء من داخله ما يجذبه إليه ويحثه عليه، مع أنه لا يفكر في البرهنة عليه، تماما كما يعرف العقلاء -صغارهم قبل كبارهم- أن الجزء أصغر من الكل، أو أن ١+١= ٢، فثبات هذه القيم في النفس كثبات هذا القانون في العقل، فكلاهما يتسم بالرسوخ والثبات.

قيم مطلقة:

وهذا يوضح أن نداء القيم في أصله ليس مرتبطا بزمان أو مكان دون آخر، فلا يمكن أن تصير الخيانة معنى جليلًا أو تصير الأمانة معنى مشينًا مهما اختلفت الظروف، ومهما تخيلنا من عوالم أو وقائع ستظل القيم على استقرارها وإطلاقها، لا تنخرم قواعدها. فلا السرقة يمكن أن تُعدَّ فضيلة، ولا الأمانة يمكن أن تصير رذيلة. إنّه إذًا نداء مطلق لا يخضع للتبدل بحسب الظروف، ولذلك تسمّى هذه القيم بالقيم المطلقة.

إنّ هذا الإطلاق في القيم ينفي عنها الخضوعَ للرغبة الذاتية، فهي ليست من تلك المسائل التي يُدلي فيها كل إنسان برأيه، أو تتواضع فئة من الناس على تقريرها، أو تنتجها الثقافات المختلفة وفق ما يلائمها، بل هي معانٍ موضوعية لا تتقيد بالرأي الذاتي، بمعنى أنها لا تنشأ من آراء الناس بل تكون هي الحاكمة على آرائهم.

ووصف القيم عموما بالإطلاق والموضوعية لا يتعارض مع اختلاف المجتمعات في تحديد قواعد السلوك عموما بحسب الثقافة أو المعتقد، فلا أحد ينكر الاختلاف بين الثقافات في تحديد الآداب المتعددة، وأثر ذلك على عادات الفرد وأفعاله، لكن هذا لا يحدث بالنسبة للقيمة العامة؛ فقد تختلف الثقافات والعقائد مثلا حول كون ضوابط تعامل مالي معيّن من لوازم العدل أم لا، لكن العقلاء لا يختلفون حول فضيلة العدل، ولذلك تأتي الرسالات السماوية بتأكيد هذه القيم المطلقة وتفصيل ما يلزم لتحقيقها بالشرائع التفصيلية التي تفصل النزاع بين الخلائق وتهديهم للحقّ تفصيلًا.

ونحن لا نزعم عدم إمكانية وقوع الضعف والخلل في التعاطي مع بعض القيم لدى بعض الثقافات أو المجتمعات، بل إن هذا قد وقع قديما وما زال يقع في دنيا الناس لكنه لم يغير شيئا من حقيقة القيمة وأصالتها، فشيوع الرذائل في مجتمع من المجتمعات مع تنكُّرِه للفضائل يدل على فساد المجتمع لا على أن القيم صارت نسبية أو مقيدة بالثقافة، كما أن وجود شخص ينكر أن الكل أكبر من الجزء يدل على أنه فاقد العقل أو مكابر، ولا يغير هذا من ثبات تلك الحقيقة شيئا.

بل لو تخيّلنا شخصًا يتكلّف ويكابر فينكر أصالة القيم ويقول بنسبيّـتها

لما استطاع هذ الشخص التزام قوله هذا في حياته العملية، فلن يرضى أن يعامل بخلاف القيم المطلقة فيظلم ويساء له بأنواع الإساءات بحجة أنّ الظالم والمسيء يبرّر فعله وفق نظرته النسبيّة للقيم!

كما أن فكرة النسبية عموما متناقضة في حد ذاتها؛ فمن يقول أننا لا يجب أن نحاكم الأشخاص لمعايير قيمية لأن لكل شخص قيمه الخاصة، سيواجه مأزقًا في أنّ قوله هذا مطلق لا نسبي، فهو إذًا يتناقض ولا يستطيع التزام النسبية!

علاوة على ذلك، فإن القائلين بالنسبية القيمية لا يجترئون على نقد القرارات القيمية للثقافات الأخرى أصلا، لأن هذا سيوقعهم في مآزق كبيرة، فمع القول بالنسبية القيمية لا يحق للمرء الاعتراض على أي رؤية تخالف ما يعتقده، لأنه سيقابل جوابًا يضعه في مأزق، وهو: “هذه أمور نسبية”، ولا يستطيع أن يضع أساسًا للأحكام الأخلاقية على الأفعال، مهما كانت هذه الأفعال ظاهرة البطلان، فلا يمكنه أن يجيب عن أسئلة مثل: لماذا كانت مجازر هتلر ظلمًا؟، أو لماذا يعد تعذيب الأطفال أمرا سيئًا على الإطلاق؟ إذا كان أصحاب هذه الأفعال يرون أنّ لها ما يبرّرها وفق نظرتهم النسبية للقيم!فلا مفهوم للعدل أو الصواب المطلق وفق النسبية الأخلاقية.

وبهذا تتجلَّى الطبيعة الأصيلة للقيم ويتهاوى ادعاء نسبيتها، ليلحّ علينا سؤال مثير عن نشأتها.

دلالة القيم المطلقة على وجود الله عز وجل:

فإذا كانت القيم بهذا الرسوخ والثبات، وكانت متجاوزة للرغبات الذاتية وتفاوت الثقافات، فما منشؤها؟ ومن الذي أودعها في الوجود؟

لا نستطيع أن نقدّم جوابا صحيحًا عن هذا السؤال المهم دون الإيمان بالله سبحانه خالقًا فطر الإنسان على هذه القيم، وذلك لما يلي:

أولًا: تصوّر العالم بلا ربّ خالق تصوّر يختزل الوجود في المادة، والمادة لا شأن لها بالمعاني المطلقة والقيم ، فلا معنى للخير والشر أو الحُسن والقُبح أو العدل والظلم في عالم المادة المجردة. 

ثانيًا: أنّنا نجد أنّ تلك المعاني ضرورية في نفوسنا لا خلاف عليها بين عموم الناس، وبما أننا كائنات حادثة فلابد لهذه المعاني من مُحدِث أودع فينا فطرة إدراكها ضرورة على أنّها قيم مطلقة، ومهما التفتنا بحثًا عن مصدر غير الربّ سبحانه، لن نجد إلاّ النقص والحاجة والمحدودية، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن أن ننسب الإطلاق إلى المحدودية والنقص والتغير والقابلية للنقض والتعديل والاستدراك، فلا تصلح الظروف الاجتماعية ولا ابتكارات البشر في تفسير هذا الإطلاق ، فهذه المعاني لا تتغير بتغير الظروف الاجتماعية كما وضحنا ، ولا تتعرض للنقد والتعديل والإبطال كما يحصل مع القوانين التي يبتكرها البشر لمعالجة حاجاتهم وظروفهم الاجتماعية.

وإذا كان مودِع هذه القيم في نفوسنا لابد أن يتنزّه عن التقيد بالنسبيات والمحدودية، وذلك باتصافه بالكمال وتنزّهه عن النقص في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فليس ثمّة من يتّصف بذلك سوى الله سبحانه. فبلا وجود الربّ الحميد المتعالي عن النقص والتقييد والتغير، تكون هذه القيم مجرد ألفاظ جوفاء لا تعكس أي معنى ذي بال، نفقد المعيار للحكم على الأمور، ويصبح إسداء الحقوق لأصحابها مساويًا للسلب والنهب والطغيان، وتصير الفضائل مثل الرذائل، وهذا لا يقول به عاقل.

ومن هنا ندرك أنّ هذا الدليل –كشأن أدلة وجود الله سبحانه- يستلزم أيضًا كمال الله تعالى وتسبيحه وتحميده ،  وبدون ذلك لا يكون الإنسان إلاّ في تخبط وضلال، وصدق الله تعالى:

{فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}.


المصدر:
الميسر في تعزيز اليقين، مجموعة مؤلفين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أدلة-وجود-الله #القيم-المطلقة
اقرأ أيضا
مجتمع ما بعد التحضر | مرابط
اقتباسات وقطوف

مجتمع ما بعد التحضر


يبدو أن بريق كلمة التحضر أو التقدم قد أسر قلوب عامة الناس حتى ظنها الكثيرون من أسمى الأهداف التي من الممكن السعي إليها في الحياة ولكن الحقيقة أن الذي حدث هو العكس وباتت المجتمعات المتحضرة تتراجع إلى الوراء خصوصا في المجال الأخلاقي والإنساني وهذا مقتطف ماتع لمالك بن نبي يشير إلى هذه الإشكالية

بقلم: مالك بن نبي
2190
شبح الحروب الصليبية الجزء الثالث | مرابط
تاريخ مقالات

شبح الحروب الصليبية الجزء الثالث


إن العالم الغربي اليوم لا يزال تائها تماما في إجلال الإنتاج الماضي وفي الاعتقاد أن الرفاهية الرفاهية وحدها إنما هي الهدف الذي يستحق أن يكدح الإنسان إليه إن مادية الغرب وجحوده للتوجيه الديني في التفكير يزدادان كل يوم قوة ولا ينقصان كما يظن بعض المتتبعين لهذه القضية من المسلمين المتفائلين

بقلم: محمد أسد
2010
التوحيد معجزة الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

التوحيد معجزة الإسلام


أما الغلو في الحرية والتهتك وراء الشهوات البهيمية- فلا تجيزه الشريعة الإسلامية. والدين الإسلامي هو الدين الذي يعمم النظام بين الورى ويقمع النفس عن الهوى ويحرم إراقة الدماء والقسوة في معاملة الحيوان والأرقاء ويوصي بالإنسانية ويحض على الخيرات والأخوة.

بقلم: د. عبد المعطي أمين
341
نسبية الحق والإنسان المؤله | مرابط
اقتباسات وقطوف

نسبية الحق والإنسان المؤله


إن هذا المؤمن بنسبية الحق هو شخص مؤله لنفسه وذاته وما ادعاؤه لحب البشر واحترامه لهم ورحمته بهم إلا محاولة أخرى لتشبيه نفسه بالرب الرحيم العطوف كأنه في منافسة خفية مع ذلك الرب الأعلى الذي يؤمن به كثير من البشر تاركينه هو ذلك البشري الإله بلا عبادة ولا حمد برغم عطفه وحبه لهم

بقلم: عمرو عبد العزيز
639
قصة الحروب الصليبية الجزء الأول | مرابط
تاريخ

قصة الحروب الصليبية الجزء الأول


الحروب الصليبية هي سلسلة الحروب التي شنها المسيحيون الأوربيون على الشرق الأوسط للاستيلاء على بيت المقدس ومنذ أن انتصرت القوات الإسلامية على القوات البيزنطية في معركتي اليرموك وأجنادين في عام 13 هجريا منذ ذلك الوقت والإسلام يهاجم الصليبيين ويفتح أراضيهم وظل الصليبيون يترقبون الفرصة والزمن المناسب للأخذ بالثأر ورد الفعل وهكذا كانت أحسن الفرص للانتهاز في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي والمقال الذي بين يدينا يقف بنا على أهم مراحل الحروب الصليبية وأبرز أحداثها ونتائجها

بقلم: موقع قصة الإسلام
1611
موافقة الغرب باسم الإسلام | مرابط
مناقشات المرأة

موافقة الغرب باسم الإسلام


إن المؤلف يلح في كتابه على خروج المرأة من بيتها وانخراطها في العمل العام المختلط من أجل تقدم المجتمع وازدهاره ومن أجل المصلحة العامة وهذا كله وهم فقد خرجت المرأة في غالب دولنا إلى الشارع العام واختلطت بالرجال وأظهرت زينتها كما يدعو إليه المؤلف فما هي النتيجة زاد تأخرنا وانحطاطنا وإذلالنا ن قبل الشراذم

بقلم: د عادل بن حسن الحمد
418