من أدلة وجود الله: القيم المطلقة

من أدلة وجود الله: القيم المطلقة | مرابط

الكاتب: مجموعة كتاب

415 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

تتعدد ثقافات البشر وتختلف مشاربهم، وتتفاوت مراتبهم، وتفترق معتقداتهم على تطاول الأزمان، لكن عقلاءهم لم يختلفوا يومًا على جمال الفضائل، وقبح الرذائل.. على حسن العدل، وقبح الظلم.. على سموّ الأمانة، وسفول الخيانة.. وما برح الناس يمتدحون الصادق، ويذمّون الكاذب.. بل حتى من طغى نجده يحرص على ادعاء الأخلاق واستجلاب من يمدحه بمكارمها، وهذا فرعون الذي بلغ طغيانه ادعاء الربوبية يقول عن موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.

وهكذا يتوافق الناس في النظر إلى القيم، ولا يحتاج الإنسان إلى كبير علم أو طول نظَر ليدرك هذه النظرة إلى القيم، بل هو أمر ضروري متجذر في النفس الإنسانية، يجد المرء من داخله ما يجذبه إليه ويحثه عليه، مع أنه لا يفكر في البرهنة عليه، تماما كما يعرف العقلاء -صغارهم قبل كبارهم- أن الجزء أصغر من الكل، أو أن ١+١= ٢، فثبات هذه القيم في النفس كثبات هذا القانون في العقل، فكلاهما يتسم بالرسوخ والثبات.

قيم مطلقة:

وهذا يوضح أن نداء القيم في أصله ليس مرتبطا بزمان أو مكان دون آخر، فلا يمكن أن تصير الخيانة معنى جليلًا أو تصير الأمانة معنى مشينًا مهما اختلفت الظروف، ومهما تخيلنا من عوالم أو وقائع ستظل القيم على استقرارها وإطلاقها، لا تنخرم قواعدها. فلا السرقة يمكن أن تُعدَّ فضيلة، ولا الأمانة يمكن أن تصير رذيلة. إنّه إذًا نداء مطلق لا يخضع للتبدل بحسب الظروف، ولذلك تسمّى هذه القيم بالقيم المطلقة.

إنّ هذا الإطلاق في القيم ينفي عنها الخضوعَ للرغبة الذاتية، فهي ليست من تلك المسائل التي يُدلي فيها كل إنسان برأيه، أو تتواضع فئة من الناس على تقريرها، أو تنتجها الثقافات المختلفة وفق ما يلائمها، بل هي معانٍ موضوعية لا تتقيد بالرأي الذاتي، بمعنى أنها لا تنشأ من آراء الناس بل تكون هي الحاكمة على آرائهم.

ووصف القيم عموما بالإطلاق والموضوعية لا يتعارض مع اختلاف المجتمعات في تحديد قواعد السلوك عموما بحسب الثقافة أو المعتقد، فلا أحد ينكر الاختلاف بين الثقافات في تحديد الآداب المتعددة، وأثر ذلك على عادات الفرد وأفعاله، لكن هذا لا يحدث بالنسبة للقيمة العامة؛ فقد تختلف الثقافات والعقائد مثلا حول كون ضوابط تعامل مالي معيّن من لوازم العدل أم لا، لكن العقلاء لا يختلفون حول فضيلة العدل، ولذلك تأتي الرسالات السماوية بتأكيد هذه القيم المطلقة وتفصيل ما يلزم لتحقيقها بالشرائع التفصيلية التي تفصل النزاع بين الخلائق وتهديهم للحقّ تفصيلًا.

ونحن لا نزعم عدم إمكانية وقوع الضعف والخلل في التعاطي مع بعض القيم لدى بعض الثقافات أو المجتمعات، بل إن هذا قد وقع قديما وما زال يقع في دنيا الناس لكنه لم يغير شيئا من حقيقة القيمة وأصالتها، فشيوع الرذائل في مجتمع من المجتمعات مع تنكُّرِه للفضائل يدل على فساد المجتمع لا على أن القيم صارت نسبية أو مقيدة بالثقافة، كما أن وجود شخص ينكر أن الكل أكبر من الجزء يدل على أنه فاقد العقل أو مكابر، ولا يغير هذا من ثبات تلك الحقيقة شيئا.

بل لو تخيّلنا شخصًا يتكلّف ويكابر فينكر أصالة القيم ويقول بنسبيّـتها

لما استطاع هذ الشخص التزام قوله هذا في حياته العملية، فلن يرضى أن يعامل بخلاف القيم المطلقة فيظلم ويساء له بأنواع الإساءات بحجة أنّ الظالم والمسيء يبرّر فعله وفق نظرته النسبيّة للقيم!

كما أن فكرة النسبية عموما متناقضة في حد ذاتها؛ فمن يقول أننا لا يجب أن نحاكم الأشخاص لمعايير قيمية لأن لكل شخص قيمه الخاصة، سيواجه مأزقًا في أنّ قوله هذا مطلق لا نسبي، فهو إذًا يتناقض ولا يستطيع التزام النسبية!

علاوة على ذلك، فإن القائلين بالنسبية القيمية لا يجترئون على نقد القرارات القيمية للثقافات الأخرى أصلا، لأن هذا سيوقعهم في مآزق كبيرة، فمع القول بالنسبية القيمية لا يحق للمرء الاعتراض على أي رؤية تخالف ما يعتقده، لأنه سيقابل جوابًا يضعه في مأزق، وهو: “هذه أمور نسبية”، ولا يستطيع أن يضع أساسًا للأحكام الأخلاقية على الأفعال، مهما كانت هذه الأفعال ظاهرة البطلان، فلا يمكنه أن يجيب عن أسئلة مثل: لماذا كانت مجازر هتلر ظلمًا؟، أو لماذا يعد تعذيب الأطفال أمرا سيئًا على الإطلاق؟ إذا كان أصحاب هذه الأفعال يرون أنّ لها ما يبرّرها وفق نظرتهم النسبية للقيم!فلا مفهوم للعدل أو الصواب المطلق وفق النسبية الأخلاقية.

وبهذا تتجلَّى الطبيعة الأصيلة للقيم ويتهاوى ادعاء نسبيتها، ليلحّ علينا سؤال مثير عن نشأتها.

دلالة القيم المطلقة على وجود الله عز وجل:

فإذا كانت القيم بهذا الرسوخ والثبات، وكانت متجاوزة للرغبات الذاتية وتفاوت الثقافات، فما منشؤها؟ ومن الذي أودعها في الوجود؟

لا نستطيع أن نقدّم جوابا صحيحًا عن هذا السؤال المهم دون الإيمان بالله سبحانه خالقًا فطر الإنسان على هذه القيم، وذلك لما يلي:

أولًا: تصوّر العالم بلا ربّ خالق تصوّر يختزل الوجود في المادة، والمادة لا شأن لها بالمعاني المطلقة والقيم ، فلا معنى للخير والشر أو الحُسن والقُبح أو العدل والظلم في عالم المادة المجردة. 

ثانيًا: أنّنا نجد أنّ تلك المعاني ضرورية في نفوسنا لا خلاف عليها بين عموم الناس، وبما أننا كائنات حادثة فلابد لهذه المعاني من مُحدِث أودع فينا فطرة إدراكها ضرورة على أنّها قيم مطلقة، ومهما التفتنا بحثًا عن مصدر غير الربّ سبحانه، لن نجد إلاّ النقص والحاجة والمحدودية، وفاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن أن ننسب الإطلاق إلى المحدودية والنقص والتغير والقابلية للنقض والتعديل والاستدراك، فلا تصلح الظروف الاجتماعية ولا ابتكارات البشر في تفسير هذا الإطلاق ، فهذه المعاني لا تتغير بتغير الظروف الاجتماعية كما وضحنا ، ولا تتعرض للنقد والتعديل والإبطال كما يحصل مع القوانين التي يبتكرها البشر لمعالجة حاجاتهم وظروفهم الاجتماعية.

وإذا كان مودِع هذه القيم في نفوسنا لابد أن يتنزّه عن التقيد بالنسبيات والمحدودية، وذلك باتصافه بالكمال وتنزّهه عن النقص في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فليس ثمّة من يتّصف بذلك سوى الله سبحانه. فبلا وجود الربّ الحميد المتعالي عن النقص والتقييد والتغير، تكون هذه القيم مجرد ألفاظ جوفاء لا تعكس أي معنى ذي بال، نفقد المعيار للحكم على الأمور، ويصبح إسداء الحقوق لأصحابها مساويًا للسلب والنهب والطغيان، وتصير الفضائل مثل الرذائل، وهذا لا يقول به عاقل.

ومن هنا ندرك أنّ هذا الدليل –كشأن أدلة وجود الله سبحانه- يستلزم أيضًا كمال الله تعالى وتسبيحه وتحميده ،  وبدون ذلك لا يكون الإنسان إلاّ في تخبط وضلال، وصدق الله تعالى:

{فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}.


المصدر:
الميسر في تعزيز اليقين، مجموعة مؤلفين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أدلة-وجود-الله #القيم-المطلقة
اقرأ أيضا
لماذا نصوم الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الثاني


لقد عرفنا الكثير من موجبات صيامنا ومقتضياتها وأول موجب للصيام: أن صيام رمضان قاعدة من قواعد الإسلام الخمس فمن قال: لا أصوم جاحدا منكرا لما شرع الله فقد أسقط بناء الإسلام ولم يبق له حظ فيه كمانع الزكاة الجاحد لفرضيتها وكتارك الصلاة الجاحد لفرضيتها فالكل يكفر والعياذ بالله إذا نصوم لتلك الفضائل التي اشتمل عليها الصيام والميزات العظيمة التي ينالها المؤمنون في الدنيا والآخرة

بقلم: أبو بكر الجزائري
759
أهل العزة | مرابط
اقتباسات وقطوف

أهل العزة


إن العزة قد تكون في الحق فيكون صاحبها عزيزا ولو كان ضعيفا مستضاما لا يذل للخلق ولا يتنازل عن شيء من دينه.. عزيز بعزة الله تعالى لأنه قد شرف بعبوديته له والانتساب لدينه والفخر بإسلامه وتطبيق شريعته ولو سخر منه الساخرون واستهزأ به المنافقون

بقلم: د. إبراهيم بن محمد الحقيل
504
هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء


تعليق ماتع من شيخ الإسلام ابن تيمية على قوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم ۖ هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ۚ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون فالمتأمل لهذه الآية يجد فيها أعظم دلالة على عقيدة التوحيد

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2137
الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصفات المعينة على الفتوى أو الحكم


مقتطف من كتاب إعلام الموقعين لابن القيم يعرض لنا فيه نوعين من الفهم لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بهما وهما فهم الواقع ثم فهم الواجب في الواقع وفي المقتطف شرح للنوعين مع التدليل بالأمثلة العملية التي توصل الغاية والمراد من كلامه رحمه الله

بقلم: ابن قيم الجوزية
1286
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الثاني


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1637
نظرة الإسلام للثقة بالنفس | مرابط
فكر

نظرة الإسلام للثقة بالنفس


يقول بعض المنتسبين إلى العلم يقول: إن لفظ الثقة بالنفس لا يجوز وعللوا ذلك بأن على المرء أن يثق بالله في كل شؤونه لا بنفسه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء: ولا تكلني لنفسي طرفة عين ويتناول علم النفس وبعض المختصين فيه من المسلمين هذا اللفظ الثقة بالنفس على أنه ضرورة ملحة لكل مسلم فما حقيقة هذا القول

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر البراك
462