المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1 | مرابط

الكاتب: عبد الرحيم السلمي

679 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ظهور المذاهب في الغرب

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

أما بعد:

فتحدثنا في الدرس الماضي عن نشأة المذاهب في الغرب، وقلنا: إن المذاهب بالمعنى الاصطلاحي: هي المذاهب المعاصرة الفكرية التي نشأت في أوروبا، وبينا الدين الذي آمنت به أوروبا وأنه ليس دين الله عز وجل الحق الذي نزل على عيسى بن مريم عليه السلام، وإنما هو دين محرف حرفه بولس اليهودي وقد اعتنقت الدولة الرومانية الدين النصراني في سنة (325) ميلادي، واختارت مذهب التثليث، وبينا بعض البدع وبعض العقائد الضالة المنحرفة التي كانت موجودة في النصرانية التي اختارتها أوروبا عن طريق قسطنطين الحاكم الروماني في تلك الفترة، وبينا أن الكنيسة والأباطرة قد طغوا وبغوا وآذوا الناس إيذاء كبيرًا، وكان من طغيانهم الطغيان الديني والطغيان العلمي والطغيان المالي والسياسي.. ونحو ذلك، وأشرنا إلى نماذج من هذا الطغيان الذي قاموا به، وفي القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا بدأ كثير من الأوربيين يجتهدون في عالم الصناعة، وبدءوا يخترعون، وبدأت حركة تحرر عند الغربيين.

فواجهت الكنيسة والأباطرة هذه الحركة بالقمع والإيذاء والتكفير والحرمان، وقلنا: إن الكنيسة أعطت نفسها حق الحرمان، فأحرقت عددًا من هؤلاء وحرمت آخرين، وسجنت بعضهم وأحرقت كتبهم، ونهت نهيًا باتًا عن تحريك العقل في الماديات المعاصرة، وأنه يلزمهم أن يستقوا من الكنيسة، وأن النصوص التي يتكلمون بها من عند أنفسهم هي معصومة يلزمهم جميعًا الإيمان بها، من جراء هذا الطغيان تكونت في فترات متعددة حركة عارمة وكبيرة من هؤلاء المتحررين، الذين يطالبون بالمشاركة في عالم السياسة مع الأباطرة، وبتحريك العقل في فهم الإنجيل وفي فهم الدين، وفي فهم الماديات الموجودة في الكون، وفي الاختراعات والصناعة، وكان من آخرها الثورة الفرنسية التي كانت في القرن الثامن عشر الميلادي في سنة (1789)م.

ولما ظهرت الثورة الفرنسية استغل اليهود هذه الثورة ووجهوها توجيهًا سيئًا، بناء على خططهم السابقة وهي أنه حتى يرتقي اليهود وحتى تكون لهم مكانة فلا بد أن يضل الناس في عقائدهم ويفسدوا في أخلاقهم، فلما قام اليهود بهذا الدور اتجهوا لضرب الكنيسة واتجهوا أيضًا لضرب الأباطرة، فأما ضرب الكنيسة فإنهم لم يقولوا بأن الكنيسة كانت مخطئة، وأن عليها ملاحظات، وأنه بالإمكان أن يبقى العالم الأوروبي على الدين النصراني، وإنما وجهوا الطعن إلى الدين نفسه، فأصبح في حس الأوربيين أن كل من التزم بالدين فهو متخلف، فسموا الدين تخلفًا، واعتبروا الدين رجعية، واعتبروا الدين هو أساس التأخر، وأنك إذا أردت أن تتقدم وإذا أردت أن يكون لك دور في الحياة وأن تتعامل مع سنن الله عز وجل بشكل صحيح فعليك أن تترك الدين أولًا ثم تنطلق، أما إذا بقيت على الدين فإنك لن تنطلق، ولن يكون لك أي تحرك، هذا من جهة، فانتشر الإلحاد، وانتشرت النظريات الخبيثة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي النفس وفي الآداب وفي مجالات متعددة سيأتي شيء من الحديث عنها بإذن الله تعالى.

واتجهوا أيضًا إلى الطعن في طريقة الحكم التي كان يحكم بها الأباطرة للإقطاعيات، وأنه لا بد من وجود ديمقراطية، والديمقراطية معناها: أن الشعب يملك مصير نفسه في الجوانب النظامية، وفي الجوانب التشريعية، ولهذا يعتبرون أن الشعب هو الذي يحكم نفسه، وسيأتي الحديث عن مذهب الديمقراطية بالتفصيل إن شاء الله، فطالبوا بالمشاركة في السياسة، بغض النظر عن العنصر وعن اللون وعن الدين، فيمكن لأي إنسان أن يشارك إذا كان له عدد كبير من المرشحين حتى لو كان ملحدًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وبهذا استطاع اليهود أن يتسلقوا إلى أعلى المراتب أو الأماكن والولايات في الدول الغربية، هذا تقريبًا ما حصل في أوروبا بشكل مختصر وذكرنا ذلك في الدرس الماضي.

 

نشأة العلمانية

من جراء الثورة الفرنسية وظهور النظريات الإلحادية نشأ عند الغرب مذهب واسع وكبير يبتلع عددًا من المذاهب، وسمي بالعلمانية، والعلمانية معناها: اللادينية أو الدنيوية، فاللادينية أو الدنيوية هي فكرة العلمانية، ومعناها: بناء الحياة على غير الدين، وبعيدًا عن الدين، وفهم الدين على أنه مجرد شعائر تقام في أماكن محدودة بطريقة روحانية فقط، وأما جانب السياسة وجانب الاقتصاد وحياة الناس فلا دخل للدين فيها بأي وجه من الوجوه، هذه الفكرة التي هي فكرة العلمانية كانت نتيجة لهذه الأحداث التي سبق أن أشرنا إليها، وهذه الفكرة التي هي العلمانية هي فكرة فضفاضة وكبيرة وواسعة، تبتلع كل المذاهب الفكرية المعاصرة، فالشيوعية تدخل في العلمانية، والاشتراكية تدخل في العلمانية، والرأسمالية تدخل في العلمانية، والديمقراطية تدخل في العلمانية أيضًا.

والمذاهب الأدبية مثلًا: الحداثة تدخل في العلمانية، وهكذا المذاهب الفنية مثل: الكلاسيكية وغيرها تدخل في العلمانية، وهكذا أيضًا المذاهب الإنسانية مثل: الوجودية، ومثل: الرمزية وغيرها من المذاهب هي داخلة في العلمانية، فالعلمانية باختصار هي أن يبني الإنسان عقله ونفسه وفكرته ويبني المجتمع في واقعه بعيدًا عن الدين، أيًا كان هذا الدين، سواء كان دينًا صحيحًا أو دينًا باطلًا، ولهذا فإن حديثنا عن العلمانية، لن يكون في لقاء واحد، إذا تحدثنا عن الديمقراطية كما قلت فنحن نتحدث عن العلمانية، لكن من الجهة السياسية؛ لأن العلمانية لها عدة جهات، فمن الجهة السياسية تكون أكثر من مذهب، أشهر هذه المذاهب في الجانب السياسي الشيوعية أو الديمقراطية والديكتاتورية الشيوعية، ومذاهب أخرى سيأتي الإشارة إليها، في الجانب الاقتصادي وجد المذهب الرأسمالي والاشتراكي، في الأدب وجدت بعض المذاهب، الأدب يدخل فيه الشعر والفن التشكيلي مثلًا ونحو ذلك، في الاجتماع وجدت مذاهب، في علم النفس وجدت مذاهب، هذه المذاهب جميعًا هي أوجه مختلفة لفكرة العلمانية.

إذًا: فكرة العلمانية التي ظهرت أفرزت كثيرًا من المذاهب وكثيرًا من الأفكار، بعضها صارت مشهورة ومعروفة عند الناس، وبعضها صارت مغمورة، وبعضها أقل من ذلك، وبعضها أكثر، وصارت هناك عشرات النظريات، بل مئات النظريات الغربية التي انطلقت من هذا المنطلق وهو العلمانية وأنه ينبغي لك أن تبحث وأن تفكر بغض النظر عن الدين، ويسمون الدين اللاهوت، ويقولون: اللاهوت هو عبارة عن أشياء روحانية تؤديها في مكانها المخصوص، وهو الكنيسة بالنسبة للغربيين، والعلمانيون المنتسبون للإسلام يقولون: المسجد، وأما بقية الحياة فلها شأن آخر.

 

المذاهب المعاصرة في بلادنا

في اللقاءات القادمة سنتحدث إن شاء الله عن العلمانية في جوانب مختلفة، نأخذ جانبًا ونتحدث عنه، ونذكر المذاهب المشهورة فيه، ثم اللقاء الذي بعده نأخذ جانبًا آخر، ونحن في حديثنا كله سنتحدث عن العلمانية، ولكن أيضًا سنتحدث عن المذاهب الأخرى بشكل مفصل إن شاء الله، أما في هذا اللقاء سنتحدث بإذن الله تعالى عن نشأة المذاهب المعاصرة في العالم الإسلامي، لم يعرف العالم الإسلامي هذه المذاهب إلا بعد سقوط أو في أثناء سقوط الخلافة العثمانية أو قبلها بقليل وبعدها، فبعد أن سقطت الخلافة وصار العالم الإسلامي فرقًا متعددة، أعجب كثير من المسلمين بهذه المذاهب ونقلها إلى العالم الإسلامي، وكان المسلمون في فترة ماضية ينظرون إلى الغرب على أنهم حمير، وعلى أنهم خنازير، وعلى أنهم ليس عندهم من الفكر الحقيقي الصحيح ما يمكن أن يستنار به، وهم يرون أنهم ليس عندهم عقيدة صحيحة حتى يستفاد منهم، وليس عندهم فكر نير حتى يهتدى بهم، ولهذا ذكر في التاريخ أنه عندما حصلت بعض الحروب بين الأوربيين جاء مبعوث من فرنسا إلى الدولة العثمانية، وطلب أن يقابل الخليفة من أجل أن يطلب منه الإعانة على تلك الدولة الأوروبية الأخرى.

فرده من كان دون الخليفة وقال: إن خليفة المسلمين لا يهمه أن يقتتل كلبان ليس له علاقة بهما، فليس هناك داع لأن تلتقي بالخليفة فذهب الرجل، وهكذا كان ينظر العالم الإسلامي للغرب، هكذا كانوا ينظرون له، وهكذا كان واقعه، فإن الغرب وما زال في جاهلية وفي ضلال وانحراف وفي بعد عن الله سبحانه وتعالى، وكان المسلمون في تلك الفترة يعتزون بدينهم، وكانت رايات القتال والجهاد في سبيل الله ماضية، وقد دخلوا من جهة تركيا على أوروبا حتى وصلوا إلى فيينا عاصمة النمسا، وقد دخلوا من قبل من جهة أوروبا الغربية حتى وصلوا إلى مشارف فرنسا، فلما حصل أن اجتاح الأوربيون والصليبيون الأندلس، كان المسلمون في الوقت نفسه يجاهدون في أوروبا الشرقية من جهة تركيا، ولهذا البوسنة والهرسك كيف دخلها الإسلام؟ وكسوفا كيف دخلها الإسلام؟ دخلها الإسلام عن طريق الجهاد الذي كان يتم من الدولة العثمانية في تلك الفترة.

 

لماذا انتشرت المذاهب الغربية في عالمنا الإسلامي

إذا كان هذا هو الحال وهذا هو الواقع فما هو السبب الذي جعل العالم الإسلامي يتقبل المذاهب الغربية الفكرية والعلمانية، وأصبح لها أحزاب ولها أشخاص يدافعون عنها، وسيأتي شيء عن واقعها، أقول: الأمور التي جعلت المذاهب الغربية تنتشر في العالم الإسلامي يعود إلى سببين:
السبب الأول: سبب ذاتي أو داخلي، وهو ذات الأمة نفسها كانت عندها قابلية، هذه القابلية بسبب الانحراف الذي حصل من المسلمين عن منهج الله سبحانه وتعالى.

والسبب الثاني: سبب خارجي وهو التآمر على هذه الأمة من قبل اليهود والنصارى ومن كان معهم.

أما السبب الأول وهو السبب الذاتي: فهو الانحراف الذي حصل عند المسلمين، فإن المسلمين حصل عندهم انحراف عن دين الله عز وجل وعن منهج الله، وأنتم تعلمون أن هذه الأمة منصورة بدين الله عز وجل، فإذا انحرفت عن دين الله فإنها ستغلب، وهذا الذي وقع بالفعل، وهذا يصدق مقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: (نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية
اقرأ أيضا
لماذا أنتم تعانون من فوبيا الجنس؟! | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا أنتم تعانون من فوبيا الجنس؟!


من احتجاجات الاختلاطيين كثرة قولهم: لماذا تعانون من هذا التشكك والارتياب وبث القلق من نشوء العلاقات المحرمة؟ لماذا تتوهمون أن الناس مهجوسين بالجنس بهذا الشكل؟ لماذا ننظر للمرأة على أنها كائن جنسي؟ لماذا لاتنظرون للأمور نظرة طمأنينة وثقة؟! .. بين يديكم الرد على هذه الشبهات المتكررة على ألسنة العلمانيين ومؤيدي الاختلاط

بقلم: إبراهيم السكران
325
شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم


بين يديكم رد على الشبهة المتكررة التي يزعم مروجوها أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شك في ربه وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فيقول البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الشك إلى إبراهيم وإلى نفسه.. بين يديكم رد على هذا الزعم.

بقلم: قاسم اكحيلات
391
خصائص أدلة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

خصائص أدلة القرآن


كلام هام لابن القيم رحمه الله يشير فيه إلى خصائص أدلة القرآن الكريم مثل السهولة واليسر والمباشرة والقرب من فطرة الإنسان وعقله واعتماد أيسر الطرق وأقصرها وأقلها تكلفا وأكثرها نفعا ويمكننا أن نقارن بين هذه الصفات وبين الطرق المعوجة التي سلكها أهل الكلام في الاستدلال

بقلم: ابن قيم الجوزية
1948
عجز العقل عن إدراك الحقائق كاملة | مرابط
تفريغات

عجز العقل عن إدراك الحقائق كاملة


الفكر الإنساني لا يستطيع أن يقيم من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تأريخ الإنسان وواقعه أصولا توقفه على اليقين المنافي للشك والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يحسن العقل الإنساني النظر فيه.

بقلم: عمر الأشقر
555
نسبية الحق والإنسان المؤله | مرابط
اقتباسات وقطوف

نسبية الحق والإنسان المؤله


إن هذا المؤمن بنسبية الحق هو شخص مؤله لنفسه وذاته وما ادعاؤه لحب البشر واحترامه لهم ورحمته بهم إلا محاولة أخرى لتشبيه نفسه بالرب الرحيم العطوف كأنه في منافسة خفية مع ذلك الرب الأعلى الذي يؤمن به كثير من البشر تاركينه هو ذلك البشري الإله بلا عبادة ولا حمد برغم عطفه وحبه لهم

بقلم: عمرو عبد العزيز
647
هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور


والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة: تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى قال الله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا النساء: 69

بقلم: ابن القيم
663