الوقت

الوقت | مرابط

الكاتب: مالك بن نبي

2303 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

"ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي، يا ابن آدم أنا خلق جديد: وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة"

 

الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل.

 

فهو يمر خلال المدن، يغذي نشاطها بطاقته الأبدية، أو يذلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء، وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد، بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيض، ولكنه في مجال ما يصير ثروة، وفي مجال آخر يتحول عدما. فهو يمرق خلال الحياة، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحها له ما أنجز فيه من أعمال.
 
ولكنه نهر صامت، حتى إننا ننساه أحيانا، وتنسى الحضارات، وفي ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض. ومع ذلك ففي ساعات الخطر في التاريخ، تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، إذا استيقظت، ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب، لا يقوم الوقت بالمال، كما ينتفي عنه معنى العدم؛ إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يُقدّر.
 
وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية أعني حينما يكون لازما للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود، والانتصار على الأخطار، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لا تعوض، ففي هذه الساعات، لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم، وإنما الساعات نفسها، فيتحدثون حيئذ عن ساعات العمل؛ أعني العملة الوحيدة المطلقة التي لا تبطل، ولا تُسترد إذا ضاعت: إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت.
 

الوقت في العالم العربي والإسلامي

 

وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، ولكن... عندما يدق الناقوس مناديا الرجال والنساء والأطفال إلى مجال العمل، في البلاد المتحضرة.. أين يذهب الشعب الإسلامي؟ تلكم هي المسألة المؤلمة.
 
فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئًا يسمى الوقت.. ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، ﻷننا لا ندرك معناه، ولا تجزئته الفنية. ﻷننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن الذي يتصل اتصالا وثيقًا بالتاريخ، مع أن فلكيًا عربيًا مسلمًا هو "أبو الحسن المراكشي" يعتبر أول من أدرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا.
 
وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء.
 
فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا.
 
وإنما يكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يوميًا. إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباء؛ كما يمر الماء من ساقية خربة، ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماما قيمة هذا الأمر، ولكن بأية وسيلة تربوية؟
 
إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.. ومع ذلك فكل علم له مرحلته التجريبية التي تتصف بالاحتمال والمحاولة، وهما يسبقان ضرورة الفكرة الواضحة التي يستخلصها العقل في المرحلة التالية.
 
فينبغي أن نحدد التجربة المطابقة لمقتضى الحال لكي نعلم المسلم علم الزمن، فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصحلة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية.
 
وسيثبت هذا (النصف ساعة) عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولًا في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة.
 

تجربة ألمانيا

 

ولا بد لنا في خاتمة هذا المقال أن نورد تجربة قريبة منا، وواقعة تحت أنظارنا، وهي أيضًا في متناول المقاييس العملية، هذه التجربة هي ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي خلفت وراءها ألمانيا عام 1945 قاعا صفصفًا، حطمت فيها كل جهاز للإنتاج، ولم تبق لها من شيء تقيم على أساسه بناء نهضتها، وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شؤونها تحت احتلال أربع دول، فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل سنة 1948، كان ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه.
 
واليوم، وبعد عشر سنوات تقريبًا نرى معرض ألمانيا يفتح أبوابه بالقاهرة في شهر مارس 1957 فتذهلنا المعجزة، إذ ينبعث شعب من الموت والدمار، وينشيء الصناعات الضخمة، التي شهدناها. ولو أننا حللنا تلك المعجزة لوجدنا فيها عوامل شتى لا سبيل إلى إنكارها، من بينها الاقتصاد في الجهاز الإداري، وفي التكاليف الإدارية، فقد أصبح كثير من أعمال الحكومة يقوم به أفراد الشعب كواجب عليهم، ولكن العامل المهم من هذه العوامل جميعها، هو: الزمن.
 
فقد فرضت الحكومة عام 1948 على الشعب الألماني كله، نساء وأطفالا ورجالا، التطوع يوميا ساعتين، يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان، من أجل الصالح العام فقط. ولقد سمي هذا التجنيد العام Roboter Arbeit وهو العمل للمصلحة العامة.
 
فهذه المعجزة الاجتماعية التي أتت بها ألمانيا، قد كان للزمن في إخراجها حظ موفور، ويمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان، والتراب، والزمن.
 
وهنالك، حيث تهدد الصحراء وجودنا، وحيث لا نملك في أيدينا سوى هذه العناصر الثلاثة، سيرى العالم ازدهار حياتنا من جديد، هنالك حيث يخيم الجهل والفقر سيشهد الناس سيطرة الصناعة والفن، والعلم والرفاهية.

 


 

المصدر:

  1. شروط النهضة، مالك بن نبي، ص 139
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مالك-بن-نبي #الوقت #شروط-النهضة
اقرأ أيضا
الضباب العقلي | مرابط
ثقافة

الضباب العقلي


إن قضاء الكثير من الوقت أمام شاشة التلفزيون يصيب العقل بنوع من الخمول فالشخص الذي يكثر من مشاهدة التلفزيون تجده ثقيلا بطيء الحركة ويميل بشدة إلى أحلام اليقظة ويتعب من إعماله لعقله وسرعان ما يفقد التركيز

بقلم: محمد علي فرح
442
الشخصية الغربية وعداء الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

الشخصية الغربية وعداء الإسلام


يبدو أن العداء الصريح للإسلام كان هو السمة التي ترسخت في الشخصية الجمعية الغربية وجاء ذلك نتاج الحروب الصليبية التي لم تتوقف على الصدام العسكري المسلح فقط وإنما نتج عنها الكثير من التشوهات الفكرية والثقافية التي ظلت باقية في المخيلة والعقلية الأوروبية فيما بعد

بقلم: محمد أسد
2077
التأثر بالأصول الكلامية | مرابط
مقالات

التأثر بالأصول الكلامية


وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإليهم المرجع في هذا الباب لا إلى من هو أجنبي عن معرفته ليس له معرفة بذلك ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
388
موقف الفكر الإسلامي من العلمانية ج2 | مرابط
تفريغات

موقف الفكر الإسلامي من العلمانية ج2


ولو نظرنا إلى العلمانية من هذه النظرة لوجدنا أن القضية قضية توحيد دعا إليه الرسل جميعا ونزلت به الكتب جميعا يقابله شرك وجهل وجاهلية وخرافات وردود فعل بشرية جاءت في فترات معينة في قوم معينين لا يصلح بأي حال أن يكون مبدأ أو منهجا يسير عليه البشر جميعا في كل مكان ولا سيما من كان الوحي النقي بين أيديهم وفي متناولهم ويقرءونه ويتلونه ليلا ونهارا فمن هذه القضية يبدأ الموضوع

بقلم: سفر الحوالي
742
لا أحد يملك الحقيقة المطلقة | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا أحد يملك الحقيقة المطلقة


من المقولات الفكرية الرائحة على كثير من الألسنة قولهم: الحقيقة نسبية أو لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة أو أن الحق ليس حكرا على أحد ونحو ذلك من عبارات تكشف عن رؤية سيالة تلغي وجود معيار ثابت يميز من خلاله الحق عن الباطل أو الصواب من الخطأ فما هو حق عندك لا يلزم أن يكون حقا عند غيرك ولا أن يكون حقا في الأمر نفسه والعكس بالعكس وعليه فلا يصح مصادرة آراء الآخرين أو الجزم بخطئهم فالحق في النهاية نسبي وهي وجهات نظر ليس إلا

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
3898
إضاءة في سبيل العلم وطلبه | مرابط
مقالات

إضاءة في سبيل العلم وطلبه


هل جربت يا طالب العلم قبل كل كتاب تقرؤه أو درس تحضره أو مادة تسمعها أن تتضرع إلى الله وتسأله أن يبارك لك في هذه القراءة وهذا الدرس وأن يفتح على قلبك وأن ييسر لك سبيل العلم النافع وأن لا يكلك إلى نفسك وأن يجعل ذلك كله سبيلا إلى رضوانه.

بقلم: د. طلال الحسان
1174