براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثالث

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الثالث | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1514 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

المذهب الأشعري والانتساب إلى السلف:

أكثر أئمة المذهب الأشعري من الانتحال لمذهب أهل السنة في مؤلفاتهم، ومن دعوى أنهم المحققون لما كان عليه الصحابة ومن جاء بعدهم من أئمة الدين[1].

وفي المقابل فإنهم يؤكدون كثيرا على أن ما قرره أئمة أهل السنة المشهورون, كابن خزيمة وعبد الله ابن الإمام أحمد وابن منده وابن عبد البر والأصفهاني وابن أبي زمنين وأبي بكر الإسماعيلي والصابوني، وغيرهم كثير، وصولا إلى ابن تيمية وابن القيم، لا يمثل حقيقة ما كان عليه الصحابة وأئمة الدين من بعدهم, وأن ما هو مقرر في تلك المؤلفات يعد انحرافا وخروجا عن طريقتهم التي كانوا عليها.

والكشف عما في هذا الكلام من خلل منهجي وعقدي يحتاج إلى تفصيل وكلام مطول, ولكن نريد في هذا المقام التأكيد على أن هذه الدعوى من قبل الأشاعرة لا تدل بمجردها على أنهم هم المحققون لما كان عليه الصحابة وأئمة الدين, ويمكن أن يوضح هذا الكلام بالأوجه التالية:

الوجه الأول: أن المرء لا يكون محققا للسنة وما لما كان عليه السلف الصالح بمجرد الانتساب, ولو كان هذا القدر كافيا لكانت أكثر الفرق العقدية محققة للسنة؛ لكونها تنسب إليها وإلى ما كان عليه السلف, فالانتساب إلى الصحابة، وادعاء الموافقة التامة لهم ليس خاصا بالأشاعرة, بل هو شأن عام في أشهر الطوائف العقدية, فالمعتزلة -الذين يعدهم الأشاعرة ضلالا، وبعضهم يحكم عليهم بالكفر- ينتسبون إلى السنة، ويدعون أنهم هم الممثلون للحق, فقد أكد القاضي عبد الجبار على أن التمسك بالسنة هو طريقة المعتزلة[2].

ونقل عن محمد بن يزداذ الأصبهاني: "أن المعتزلة هم المقتصدون, فاعتزلت الإفراط والتقصير, وسلكت طريق الأدلة, وذكر أن المعتزلة الأولى هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" [3], وعقد فصلا قال فيه: "فصل في نسبتهم المعتزلة إلى الخروج عن التمسك بالسنة والجماعة, وأنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة" وجاء فيه "فالمتمسك بالسنة والجماعة هم أصحابنا دون هؤلاء المشغبين"[4].

والمحصل من هذا: أن مجرد الانتساب إلى السلف ليس دليلا كافيا في إثبات تحقيق السنة, وإنما لا بد مع ذلك من الموافقة التامة لما كانوا عليه من العقائد والمنهج في الاستدلال والنظر.

الوجه الثاني: وإذا كان تحقيق الانتساب إلى السنة لا بد فيه من التوافق التام مع ما كان عليه الصحابة والأئمة من بعدهم, فإن حال المعتزلة والأشاعرة لا يتوافق مع هذا الشرط, فقد وقعوا في خلل منهجي كبير في محاولتهم إثبات صحة انتسابهم؛ لأنهم وقعوا في عملية اختزالية ضخمة للنصوص والمقالات المروية عن السلف, حيث إنهم لم يعتمدوا على كل النصوص، ولم يجمعوا بين كل ما صح عنهم, وإنما أبرزوا النصوص التي يوهم ظاهرها الدلالة على ما هم عليه، وأغفلوا النظر عن النصوص الأخرى الكثيرة المناقضة لأصل مذهبهم، أو قاموا بتأويلها وصرفها عن ظاهرها كما في نصوص الكتاب والسنة.

فتجد المعتزلة يوردون نصوصا عديدة عن الصحابة والتابعين، ليثبتوا أنهم يقولون بقولهم في باب الصفات والقدر والإيمان[5], وأعرضوا عن عشرات النصوص والمقالات الأخرى التي تدل على نقيض ما هم عليه.

وكذلك الأشاعرة تجدهم يعتمدون على النصوص والمقالات المجملة الواردة عن بعض السلف؛ ليثبتوا أنهم مفوضة في الصفات, ويعرضون عن عشرات النصوص الأخرى التي تدل دلالة واضحة على أنهم يثبتون معاني للصفات الإلهية من غير تشبيه بصفات المخلوقين[6].

وقد حاول بعض المعاصرين منهم أن يثبت صحة نسبة التفويض إلى السلف، فبادر إلى جمع نصوص كثيرة للسلف[7], ولكن حين نتأمل في تلك النصوص نجده انتقى من كلام الأئمة النصوص المجملة، واعتمد عليها, ثم إنه أعرض عن نصوص كثيرة هي أوضح في المعنى، وأحكم في الدلالة؛ لكونها تخالف ما يريد التوصل إليه, وكثير من أعلام العلماء الذين نقل عنهم لهم نصوص أخرى تدل على نقيض ما نسبه إليهم.

وأما في باب الإيمان فقد صرح بعضهم أن قول الأشاعرة مخالف لقول أهل الحديث ومناقض له, كما فعل الجويني[8], وبعضهم حاول أن يؤول ويعدل في مذهب أهل السنة والحديث ليكون متوافقا مع مذهب الأشاعرة في الإيمان، كما صنع تاج الدين السبكي[9].

وإذا تجاوزنا اختزالات المذهب الاعتزالي والمذهب الأشعري في التعامل مع نصوص الأئمة ومقالاتهم، وانتقلنا إلى مؤلفات أئمة أهل السنة, كالتوحيد لابن خزيمة، والسنة لعبد الله ابن الإمام أحمد، والإبانة لابن بطة، والشريعة للآجري، وشرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي وغيرها، نجد الأمر مختلفا, فإنهم قاموا بجمع كل ما جاء عن السلف من نصوص ومقالات, وقاموا بترتيبها وتبويبها وتنسيقها, وسعوا إلى شرح معناها وتقريب مفهومها, وبادروا إلى الجواب عما أوهم التعارض بين بعض الظواهر في تلك النصوص (وهو قليل)، والترجيح بين مختلفاتها, ولم يختزلوا منها شيئا ولم يبرزوا منها نوعا دون نوع.

وهذا يؤكد أنهم هم المحققون لمذاهب الأسلاف، والجامعون لعموم أقوالهم، فهم الأجدر في تحرير عقائدهم ومناهجهم.

 

أئمة المذهب الأشعري والتعدد في مذهب أهل السنة:

اختلفت مناهج علماء الأشاعرة في تحديد من يشملهم وصف أهل السنة, فمنهم من يظهر من كلامه أن لقب أهل السنة لا ينطبق إلا على أتباع المذهب الأشعري فقط[10], ومنهم من ذهب إلى أن من يشملهم ذلك الوصف طوائف متعددة, ومن ذهب إلى هذا القول اختلفت آراؤهم, فمنهم من ذكر أن مذهب أهل السنة تندرج ضمنه ثمان طوائف, كما فعل عبد القاهر البغدادي[11], ومنهم من جعل الأصناف المندرجة ضمنه صنفين فقط, وهما: الأشاعرة والسلفية من أهل الحديث, كما فعل الآمدي[12], ومنهم من جعلهم صنفين, وهما: الأشاعرة والماتريدية[13], وأما بعض المتأثرين بالمذهب الأشعري من الحنابلة، فقد جعل أهل السنة ثلاث طوائف: الأشعرية والماتريدية والأثرية, كما فعل السفاريني[14].

وليس المقصود هنا محاكمة صحة هذا التعدد المدعى, وإنما المقصود التنبيه على الخلل المنهجي الذي وقع فيه بعض الأشاعرة؛ فإنه ادعى أن هناك صنفا من السلفية متوافقا معه, ثم لم يذكر لنا النصوص الواضحة البينة لذلك الصنف، ولا المقالات البينة التي تثبت صحة دعواه, والآمدي حين شرع في شرح الأصول التي اتفق عليها الأشعرية والسلفية من أهل الحديث لم يذكر إلا جملا كلية وعامة جدا، وهي في مجملها سائرة على طريقة الأشاعرة, ولم يعرج على القضايا الإشكالية التي وقع فيها الأشاعرة, فأوهم بأنه لا خلاف بين الصنفين, مع أن الصنف الآخر وهم لا وجود له في الواقع[15].

 

خاتمة: ليس إلا خياران لا ثالث لهما:

ظهر لنا من خلال هذه الورقة أن أئمة أهل السنة، وعلماء الأشاعرة مجمعون على أن الخلاف بينهم خلاف منهجي وجوهري؛ ولأجل هذا سعى كل طرف منهما إلى إخراج الطرف الآخر من السنة, وهذا يؤكد على أنه ليس إلا واحد من خيارين لا ثالث لهما: إما أن يكون المذهب الذي قرره أئمة أهل السنة هو المذهب الحق المحقق لما كان عليه الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم, وإما أن يكون المذهب الذي يقرره أئمة المذهب الأشعري هو الحق المحقق لما كان عليه الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم.

وأما الخيار الثالث, وهو محاولة الجمع بين المذهبين وادعاء أن كلا منهما ممثل للسنة، وأن الخلاف بينهما خلاف لفظي فحسب, فهو رأي خطأ ومخالف لإجماع الفريقين ومخالف لواقع المذهبين ولمنهجهما الاستدلالي والنظري.

وظهر أيضا أن الحرص على التمايز بين المذهبين ليس ناتجا من قبل أهل السنة فقط, بل الأشاعرة أيضا لديهم حرص شديد على إظهار التمايز بينهم وبين من يسمونهم الحشوية والمجسمة.

وظهر أيضا أن الوضوح في التمايز بين المذهبين لم يبدأه ابن تيمية, وإنما هو موجود من قبله, ومنتشر في مؤلفات الأشاعرة بشكل كبير جدا.

وظهر أيضا أن الصراع بين المذهبين ليس مقتصرا على الحنابلة والأشاعرة فحسب, وإنما اشترك فيه عدد من أئمة أهل السنة من سائر المذاهب, فابن خزيمة ليس حنبليا، وإنما هو من أئمة المذهب الشافعي, وكذلك أبو حامد الإسفراييني الذي كان شديدا على الأشعري وأتباعه كان من الشافعية أيضا, وأبو نصر السجزي الذي رد عليه الأشاعرة ليس حنبليا، وإنما هو من علماء المذهب الحنفي كما يدل عليه عدد من المؤشرات, وكذلك عدد كبير من أئمة أهل السنة ليسوا من الحنابلة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: التبصرة في الدين، الإسفراييني (153)، والمقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى، الغزالي (157)، والتفسير الكبير، الرازي (14/186)،  وغيرها كثير جدا.
  2. انظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة (156).
  3. المرجع السابق (185).
  4. المرجع السابق (186).
  5. انظر مثلا: طبقات المعتزلة، ابن المرتضى (120-130).
  6. انظر في جمع بعض تلك النصوص: الأشاعرة في ميزان أهل السنة، فيصل الجاسم (89-143).
  7. انظر: القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف، سيف العصري (165)  وما بعدها.
  8. انظر: الإرشاد (333)
  9. انظر: طبقات الشافعية (1/ 98, 102، 129).
  10. انظر عقيدة أبي إسحاق الشيرازي -ضمن شرح اللمع (1/111).
  11. انظر: الفرق بين الفرق (113).
  12. انظر: أبكار الأفكار (5/96).
  13. انظر: الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي (370)، وإتحاف السادة، الزبيدي (2/6).
  14. لوامع الأنوار(73).
  15. انظر: أبكار الأبكار (5/96).

 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأشاعرة #الأشعرية
اقرأ أيضا
مقالة مفيدة لسفيان الثوري | مرابط
مقالات

مقالة مفيدة لسفيان الثوري


عليك بالصدق في المواطن كلها وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها فإنها وزر كله وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل فإنه شرك بعينه وإياك والعجب فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ولا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه كيف يعالج داء الناس وينصح لهم؟

بقلم: أحمد بن عبد الله الأصفهاني أبو نعيم
224
من مقومات المجتمع المسلم: حسن الخلق | مرابط
تفريغات

من مقومات المجتمع المسلم: حسن الخلق


هناك مقوم آخر مهم من مقومات المجتمع المسلم وهو حسن الخلق بين المسلمين ونحن طلبة العلم أحوج ما نكون إلى حسن الخلق فقد كان صلى الله عليه وسلم كما وصفته أم المؤمنين عائشة: كان خلقه القرآن وكما قال صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك فضلا: إن الرجل ليبلغ درجة الصائم القائم بحسن خلقه فبحسن الخلق مع الأخ والزوجة والابن ومع الصديق والعدو يبلغون تلك الدرجة العظيمة

بقلم: سفر الحوالي
455
إعادة تفسير الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

إعادة تفسير الإسلام


تعليق: يدور الحديث في هذا المقتطف حول التيار الإصلاحي الذي خرج من مدرسة الإمام محمد عبده والذي انتهى به الحال في النهاية إلى التلبس بمضامين علمانية وإن قيلت بعبارات إسلامية وهذا المقتطف للكاتب والمؤرخ الكبير المهتم بشؤون الشرق: ألبرت حوراني

بقلم: ألبرت حوراني
2003
ابتسامة عفوية | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

ابتسامة عفوية


اليوم ابتسامة عفوية وغدا لقاء عابر في حدود الأدب طبعا وبعده مجاملة رقيقة عابرة في مناسبة أو ما شابه.. ثم يأتي التعلق القلبي وتأتي المرأة تشتكي أنها لا تملك لقلبها شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بقلم: محمود خطاب
362
مناظرة أحمد مع المعتزلة | مرابط
مناظرات

مناظرة أحمد مع المعتزلة


جاء في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي رحمه الله: قال علي بن المديني رحمه الله: إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة وبين يدينا مناظرة الإمام أحمد مع المعتزلة في حضور المعتصم وموضوع المناظرة هو قولهم بخلق القرآن

بقلم: سليمان بن عبد الله السجزي
7741
فقه النصر والتمكين | مرابط
فكر

فقه النصر والتمكين


إن فقه التمكين يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس وتطبيق شرع الله عز وجل وفي هذا المقال المختصر يضغ أمامنا الكاتب علي محمد الصلابي بعض الإضاءات الموجزة فيما يخص هذا الموضوع

بقلم: د علي محمد الصلابي
2738