بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم

بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

264 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وإحكام القرآن أصل، والتشابه عارض، عند كل عربي يفهم لغة الغرب التي أنزل عليها القرآن، وليست العربية المتأخرة التي دخلتها العجمة؛ فغيرت اللسان وبدّلته، فتسمّى عربية في مقابل العجمية، لا بالنسبة لفصاحتها وبيانها، وما زال اللسان العربي يضعف عند العامة والخاصة حتى استعجم كثير من القرآن على كثير من العرب.

والمحكم ضد المتشابه، وهو ما لا يحتمل في الشريعة إلا قولا ووجهًا سائغًا واحدًا، وعرّف أحمد المحكم: بأنه الذي ليس فيه اختلاف ومراده: ما استقلّ بالبيان بنفسه، فلم يحتج لغيره؛ فقد روى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، والطبري، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ قال: محكمات الكتاب: ناسخُه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمَن به ويُعمل به
وبنحو هذا قال عكرمه ومجاهد وقتادة وغيرهم.

والمتاشبه: ما تردد معناه بين معنيين أو أكثر بوجه سائغ.
روى ابن المنذر وغيره، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المتشابهات: منسوخُه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمَن به ولا يُعمل به

ما لا يُنتسخ من الوحي:

ويدخل النسخ الأحكام، ولا يدخل من الوحي المنزّل ثلاثة:

أولا: العقائد؛ لأنها إخبار عن الخالق وحقه، وهي سبب الإيجاد "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" يعني: يوحدوني ويطيعوني، ونسخها نسخ للحكمة الأولى من الخلق وإبطال لها؛ ولهذا تختلف شرائع الأنبياء، وتتفق عقائدهم وأصول عباداتهم لله، قال صلى الله عليه وسلم "والأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، رواه البخاري..،

ثانيا: الآداب والأخلاق؛ لأن الإنسان فطر عليها، وهي صلته مع جنسه ونسخها تبديل لفطرة وإفساد لصلة الخلق؛ كالصدق والأمانة والوفاء بالعهد وإكرام الضيف والعفاف. فنسخ العقائد إفساد لصلة المخلوق بالخالق، ونسخ الأخلاق والآداب إفساد لصلة الخلق فيما بينهم.

ثالثًا: الأخبار؛ لأن نسخها تكذيب للمُخبِر؛ لذا كل ما يُخبِر به نبي من أنبياء الله، فلا بد أن يقع لا يُنسخ، والنبي يخبر عن ربه، ونسخ الأخبار تكذيب له سبحانه.
ويدخل في الأخبار أحوال السابقين واللاحقين؛ من أشراط الساعة وأحوال الخلق بعد موتهم من حياة البرزخ والبعث والنشور وأخبار الغيب؛ كالأرواح والجن والملائكة، وعمار السماء، وصفة السماوات وسمكها وغير ذلك..،

معنى المحكم والمتشابه في القرآن

وللإحكام والتشابه في القرآن معان متغايرة من بعض الوجوه؛ فقد وصف الله القرآن كله بالإحكام، ووصفه كله بالمتشابه، وقسمه إلى محكم ومتشابه كما في آية آل عمران هذه، فلما وصف الله كتابه كله بالإحكام قال "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ" ولما وصفه كله بالمتشابه قال "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ" والتشابه في هذه الآية هو في معنى الإحكام؛ لأن المراد بالمتشابه هنا هو مشابهة أحكام القرآن بعضها بعضا، فلا يناقض موضع موضعًا آخر، وهذا نفي للتعارض والتناقض والاختلاف فيه الحاصل في قول البشر "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"

فقوله "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا" أي يشبه بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، ويدل بعضه على بعض؛ قاله سعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيره.

وأما في الآيات فقد تكون متشابهة بعينها، وإذا انضمت إلى بقية الآيات في بابها أحكمت وبينت وزال تشابهها؛ لأن القرآن يشبه بعضه بعضا فلا يتناقض وهذا المراد في قوله "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا"

أنواع المحكم والمتشابه:

وهذا هو الإحكام العام للقرآن، وهو المراد في قوله "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ" يعني: أن آيات الكتاب أحكمت جميعا؛ فما لم يُحكم بنفسه منفردا، أحكم بآيات أخرى من الكتاب تزيل لبسه وما تشابه منه في عقل القارئ وظنّه؛ ولذا كان إحكام القرآن على نوعين:
إحكام عام في القرآن كله
وإحكام خاص في آيات معينة

والتشابه على نوعين:
تشابه عام في القرآن كله؛ يشبه بعضه بعضا، ويؤكد بعضه بعضا، ولا يوجد منه ما يناقض الآخر.
وتشابه خاص في آيات معينة

والتشابه العام من معاني الإحكام العام، والإحكام الخاص جزء من الإحكام العام.
والمتشابه الخاص يخالف المحكم الخاص، والمخالفة يُقضى بها للمحكم، وقد تكون كاملة بالنسخ التام أو مخالفة لبعضه بتقييده وتخصيصه.

ولا يترك إحكام القرآن إلا من في قلبه مرض سابق؛ ليأخذ بغيته ليمرّها على الناس، فيستر هواه بحجة من القرآن، فالهوى سابق في قلبه لم يوجده القرآن؛ ولذا قال تعالى "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ"، ومن في قلوبهم زيغ هم المنافقون؛ فالمرض في قلوبهم مستقر قبل نظرهم في القرآن، فتعلقت بهم الشبهات، وأما القرآن فشفاء للمؤمنين "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ" وزيادة غي للمنافقين "وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ" لأن المؤمن يطلب المحكم فيشفيه، والمنافق يطلب المتشابه فيمرضه؛ قال الله عن المؤمنين "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" وقال عن المنافقين "فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ"

وأمراض القلوب بالشبهات تعدي كأمراض الأبدان بالعلل، فيجب الحذر من مجالسة أصحابها؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ" إلى قوله "وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذرهم.

وقد جعل الله علم المتشابه عند الراسخين لا مجرد العالمين؛ فليس كل عالم راسخا، وإن كان كل راسخ عالما، والعالم الراسخ الذي يعلم المحكم والمتشابه؛ فيقصد بطلبها منه، والعالم غير الراسخ الذي يعلم المحكم لا المتشابه، فيُقصد في المحكمات دون المتشابهات؛ قال تعالى "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" فيرجع في فصل المتشابه إلى أهل الرسوخ في العلم، لا إلى مجرد وصف العلم.

وفي قوله تعالى "كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" إشارة إلى أن القرآن لا يتناقض في الحقيقة، وربما يتناقض في الأذهان القاصرة، فيؤمنون بجميع القرآن، ويفصلون في متشابهه بمحكمه.

الحكمة من وجود المتشابه في القرآن

ووجود المتشابه في القرآن لا يناقي الحكمة من إنزاله، وهو الهداية والنور والبينة وإقامة الحجة على الخلق؛ فالله جعل في أصل الحكمة من الخلق ابتلاء الناس واختبارهم، والابتلاء على نوعين:
أولا: ابتلاء الأبدان بالآلام والأسقام، والجروح والقتل، وغيرها.
ثانيًا: ابتلاء الأذهان -وهي العقول والقلوب- بشهواتها ونزواتها وأطماعها.

وجعل لكل ابتلاء أسبابا تمكن له، ومن هذا ابتلاء الله للعقول بالمتشابهات ومدى ثبات النفوس وميلها مع وضوح المحكمات البينات؛ ليختبر الله الصادق من المنافق.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن ص573

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطريفي #النسخ #المحكم #المتشابه
اقرأ أيضا
القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد | مرابط
فكر مقالات

القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد


ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا من أبناء هذه الأمة يتناولون القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بقراءة عرفت ب الحداثية أو القراءة الجديدة للنص الديني وهي قراءة تأويلية تستمد آلياتها من خارج نطاق التداول الإسلامي بل تأتي وفقا للتجربة الغربية في فهم النصوص واللاهوتية منها خصوصا فلا تريد أن تحصل اعتقادا من النص بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه واستخداما لنظريات لغوية حديثة مثل: البنيوية والتفكيكية والسيمائية وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صر...

بقلم: الشيخ الدكتور محمد بن عبد الفتاح الخطيب
1903
إبراهيم عليه السلام يحاجج النمرود | مرابط
اقتباسات وقطوف

إبراهيم عليه السلام يحاجج النمرود


لم يكن إبراهيم بذلك الرجل يناقش الضعفاء والعامة ويترك الأقوياء والكبراء وإنما كان يثبت الحق عند الجميع لم يكن ليخاف في الله لومة لائم ولذلك لما وصلت القضية إلى النمرود قام إبراهيم لله بالحجة بين يديه فأمره ونهاه وقام لله بالحجة على هذا الطاغية

بقلم: محمد المنجد
616
من معينات الخشوع | مرابط
تفريغات

من معينات الخشوع


يجب أن يهيئ الإنسان لنفسه موضعا للصلاة الآن بالنسبة لمن يصلي في البيوت النساء الشيوخ الأطفال العجزة على كل حال من يصلي في البيت هذا يجب أن يهيئ له موضعا يكون هادئا وقد كان الأسلاف يتخذون في دورهم مساجد يصلون فيها

بقلم: سعيد الكملي
368
مش متدين لكنه طيب | مرابط
أباطيل وشبهات فكر تفريغات

مش متدين لكنه طيب


يناقش الدكتور إياد قنيبي العبارة الرائجة على ألسنة عوام الناس فلان مش متدين لكنه طيب في محاولة لتوضيح مفهوم التدين وكيف أنه يشمل كل خلق حميد وكل صفة حسنة وأن على المسلمين التحلي بكل هذه الصفات وإدخالها في مفهوم التدين لديهم وعدم حصره في بعض الشعائر والمظاهر فقط

بقلم: د إياد قنيبي
2088
الفصل فيما يتناجى الناس به | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفصل فيما يتناجى الناس به


مقتطفات من كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم للإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب رحمه الله وهو من أشهر وأبرز المؤلفات الجامعة لأصول وكليات الدين

بقلم: ابن رجب الحنبلي
2519
ما بين الإيمان والفكر | مرابط
فكر مناقشات

ما بين الإيمان والفكر


كتاب لا يبحث في أعيان وأفراد الخلل والتخلف الفكري المعاصر في شتى الحقول ولا يبحث في قضايا الإيمان والعقيدة بل يبحث في القناة التي تربط بينهما وهو وجه بديع جديد من البحث العلمي والفكري وعنوان هذا الكتاب يوحي فعلا بموضوع بحثه وهو ينبوع الغواية الفكرية للشيخ عبد الله العجيري وفي هذا المقال مراجعة للكتاب ومحتواه بقلم إبراهيم السكران

بقلم: إبراهيم السكران
1998