بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس

بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس | مرابط

الكاتب: د فهد بن صالح العجلان

2043 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الإشكالية

(نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعيّة) و(لا بدّ من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدّث عن هذه القضية).
وعبارات أخرى مختلفة، ستراها –ولا بدّ– عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعيّة، فعامّة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بدّ في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له أن يرفع لافتة (المقاصد الشرعيّة) كتصريح شرعيّ للمارسات غير الشرعيّة.
 

المقاصد الشرعية

المقاصد الشرعيّة التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءًا من الجويني والغزالي والعزّ بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافًا تامًّا عن هذه المقاصد التي يشيع كثير من الناس الحديث فيها، فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كليّة مستخرجة من استقراء كلّي لكافّة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصحّ أن يردّ بها أي حكم أو نصّ جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترجم المقاصد التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لردّ جملة من النصوص والأحكام  غير المرغوب فيها.

من أهم قواعد المقاصد الشرعيّة أنّ لا يردّ بها أي حكم جزئي، فإذا ثبت نصّ شرعي أو حكم فقهي فلا يجوز أن ينقض ويتجاوز بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصديّة  فهذا باطل لا علاقة له بعلم المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحقّ في نفسه) ([1])

وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار (الكليّات) فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك (كما أنّ من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه) ([2])
 
 فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاصيل الأحكام الجزئية، تقوم عليها، ولا تنكرها، بل حتى ولو وجد تعارض بين قاعدة مقاصديّة وحكم جزئي تفصيلي فإن المنهج الصحيح في ذلك ليس إنكار الجزئي بل  (إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كليّة ثم أتى النصّ على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بدّ من الجمع في النظر بينهما) ([3])
 

تعارض الكليات والفروع

فإذا وصل الأمر إلى حصول تعارض بين (الكليات) و ( الفروع) فهذا يستدعي الجمع بينهما لأهمية كلّ من الكليات والفروع التفصيلية، وهو شيء لا يفهمه (مقاصديّو النفوس) حيث ينكرون النصوص والأحكام الشرعية ثمّ يبحثون بعد هذا عن الطريقة المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه الأحكام!

لقد كان الشاطبي مدركًا غاية الإدراك خطورة استعمال المقاصد من غير المؤهلين،  ولأجله منعهم من  موافقاته وجعلهم في حرج من قراءته أو الاستفادة منه (لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة أصولها وفروعها معقولها ومنقولها) ([4])
 
كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات، وأن المقاصد لا تقوم إلا عليها، وهذا كلّه لإدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيها من كليات عامة يستدعي دخول غير المؤهلّين واستغلال بعض المنحرفين مما يؤدّي إلى تعطيل الشريعة، وهذا ما دعا بعض المنحرفين الذين يفهمون حقيقة المقاصد الشرعيّة أن يسمّي المقاصد بأنها (تبرير) للأحكام الشرعية ليس إلإ، وقد صدق، فالمقاصد ليست إلا بحثًا عن (فلسفة) لقواعد وعلل للشريعة من خلال الأحكام والنصوص، فإذا وجد نصّ مخالف فإن المقاصد تعدّل في (الفلسفة) حتى تدخل هذا الحكم لا أن تلغيه لمخالفته للمقاصد.
 

المقاصد وإسقاط الأحكام الشرعية

إنّ دعوتهم للأخذ بالمقاصد لإسقاط بعض الأحكام الشرعية يؤدّي إلى نسف الشريعة بكاملها، وتعطيل كافّة أحكامها، وإسقاط قطعياتها وضرورياتها، وليس عسيرًا على أي أحد أن ينفي أي حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد عليا، وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا الله، فـ (الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الامن و(حدّ الردةّ) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحريّة  و(الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة و(كلّ فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و(الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتعارض مع مقصد إرساله رحمة للعالمين و(حرمة الربا) أو (منع المحرّمات) يؤدّي إلى حصول حرج ومشقة تنافي مقصد الشريعة.

ولأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية بصيرًا بأمر عموميات المقاصد حين قال: (فمن (استحلّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر). ([5]) فهذه المقاصد الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيها عامة الناس، فاختصاص الشريعة إنما يكون بتفصيل هذه المقاصد وشرحها وتقييدها فإذا ألغى الإنسان الاعتبار بها  لم يكن قد أخذ من الشريعة بشيء.
 
وهكذا تغيب أحكام الشريعة الجزئية، بسبب مخالفتها لمقاصد (النفوس) كما يسمّيها بعض الفضلاء، فهي مقاصد لما تريده نفوسهم وأهواؤهم وما يتوافق مع شهواتهم جعلوها قواعد كليّة تحاكم إليها النصوص والأحكام الفقهية، وتلك (النفوس)  تكاد تحصر مقاصدها في الجانب الدنيوي المحضّ، وهو ما يختلف تمامًا عن المقاصد الشرعيّة المستفادة من نصوص الكتاب والسنّة  التي تدلّك على أنّ (الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية) ([6])    
 
بل إن المصالح الدنيوية تابعة للمصالح الأخرويّة  فـ (المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية). ([7])

وإذا كان إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريًا في مرحلةٍ ما لشيوع التعصّب والجهل والتضييق على الناس فإنّ المبالغة في تقرير المقاصد الشرعيّة وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عند عامة الناس  وقد اختلف الحال سيكون على حساب تعظيم النصّ الشرعي والانقياد له، وسيكون سببًا لظهور مقاصد النفوس لتشيع عبثها وانحرافها بدعوى (مقاصد الشريعة).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الموافقات للشاطبي 2/556
  2. الموافقات 3/8
  3. الموافقات 3/9
  4. الموافقات  1/78
  5. منهاج السنة النبوية 5/130
  6. الموافقات 2/350
  7. الموافقات 2/351

 

المصدر:

  1. د. فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الثانية، ص52
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص #مقاصد-الشريعة
اقرأ أيضا
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعلان الحرب ضد الرجال | مرابط
مقالات النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إعلان الحرب ضد الرجال


أعلنت الأنثوية حربا شعواء ضد الرجل ورفعت شعارات من قبيل الرجال طبقة معادية والحرب بين الجنسين بل وصل حد المطالبة بالقتال من أجل عالم بلا رجال ووصل الحد بالمناداة باستعمال القسوة والعنف مع الرجال إلى حد أن هناك منظمة أنثوية أمريكية معرفة بحركة تقطيع أوصال الرجال تنادي باستئصال شأفة الرجال في المجتمع

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2342
ضرورة الحكمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرورة الحكمة


كلام بديع لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن قيمة الحكمة وضرورة وجودها في كل شيء تقريبا وكيف يتحول الأمر من قمة الخير إلى قاع الشر إذا حرم الشيء وجود الحكمة فيه حتى لو كان ظاهره خيرا مثل العلم والقدرة والقوة فكل هذا يفصله عن الشر وجود الحكمة

بقلم: ابن القيم
2016
التكليف والحرية | مرابط
فكر مقالات

التكليف والحرية


من شروط التكليف طاعة وحرية وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين في قضية القدر وفي قضية الإيمان وفي قضية التكليف والجزاء فيقصرون النظر على شرط الحرية ويهملون شرط الطاعة كأنه مناقض للجزاء وكأنه من اللازم عقلا أن يكون الجزاء مقرونا بالحرية المطلقة وهي في ذاتها استحالة عقلية بكل احتمال يخطر على البال في فهم خلق الإنسان

بقلم: عباس محمود العقاد
1789
من صور إنكار الذات في حياة الصديق | مرابط
تفريغات

من صور إنكار الذات في حياة الصديق


يقف بنا الدكتور راغب السرجاني في إحدى محاضراته الماتعة على بعض المواقف من سيرة الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه والتي تعلمنا المعنى الحقيقي للإيثار وإنكار الذات في حياة هذا الصحابي الجليل حتى وهو خليفة وأعلى رأس في الدولة

بقلم: د. راغب السرجاني
298
محاورة دينية اجتماعية الجزء الثاني | مرابط
مناظرات مقالات الإلحاد

محاورة دينية اجتماعية الجزء الثاني


محاورة بين رجلين كانا متصاحبين مسلمين يدينان الدين الحق ويشتغلان في طلب العلم فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة ثم التقيا فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه فسأله صاحبه عن ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون فحاوره صاحبه لعله يرجع فأعيته الحيلة في ذلك وعرف أن ذلك علة عظيمة ومرض يفتقر إلى استئصال الداء ومعالجته بأنفع الدواء وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حولته والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة وإلى فحصها وتمحيصها و

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
1753
مختصر قصة التتار الجزء الأول | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الأول


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1464