بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس

بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس | مرابط

الكاتب: د فهد بن صالح العجلان

2107 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الإشكالية

(نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعيّة) و(لا بدّ من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدّث عن هذه القضية).
وعبارات أخرى مختلفة، ستراها –ولا بدّ– عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعيّة، فعامّة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بدّ في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له أن يرفع لافتة (المقاصد الشرعيّة) كتصريح شرعيّ للمارسات غير الشرعيّة.
 

المقاصد الشرعية

المقاصد الشرعيّة التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءًا من الجويني والغزالي والعزّ بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافًا تامًّا عن هذه المقاصد التي يشيع كثير من الناس الحديث فيها، فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كليّة مستخرجة من استقراء كلّي لكافّة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصحّ أن يردّ بها أي حكم أو نصّ جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترجم المقاصد التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لردّ جملة من النصوص والأحكام  غير المرغوب فيها.

من أهم قواعد المقاصد الشرعيّة أنّ لا يردّ بها أي حكم جزئي، فإذا ثبت نصّ شرعي أو حكم فقهي فلا يجوز أن ينقض ويتجاوز بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصديّة  فهذا باطل لا علاقة له بعلم المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحقّ في نفسه) ([1])

وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار (الكليّات) فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك (كما أنّ من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه) ([2])
 
 فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاصيل الأحكام الجزئية، تقوم عليها، ولا تنكرها، بل حتى ولو وجد تعارض بين قاعدة مقاصديّة وحكم جزئي تفصيلي فإن المنهج الصحيح في ذلك ليس إنكار الجزئي بل  (إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كليّة ثم أتى النصّ على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بدّ من الجمع في النظر بينهما) ([3])
 

تعارض الكليات والفروع

فإذا وصل الأمر إلى حصول تعارض بين (الكليات) و ( الفروع) فهذا يستدعي الجمع بينهما لأهمية كلّ من الكليات والفروع التفصيلية، وهو شيء لا يفهمه (مقاصديّو النفوس) حيث ينكرون النصوص والأحكام الشرعية ثمّ يبحثون بعد هذا عن الطريقة المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه الأحكام!

لقد كان الشاطبي مدركًا غاية الإدراك خطورة استعمال المقاصد من غير المؤهلين،  ولأجله منعهم من  موافقاته وجعلهم في حرج من قراءته أو الاستفادة منه (لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة أصولها وفروعها معقولها ومنقولها) ([4])
 
كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات، وأن المقاصد لا تقوم إلا عليها، وهذا كلّه لإدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيها من كليات عامة يستدعي دخول غير المؤهلّين واستغلال بعض المنحرفين مما يؤدّي إلى تعطيل الشريعة، وهذا ما دعا بعض المنحرفين الذين يفهمون حقيقة المقاصد الشرعيّة أن يسمّي المقاصد بأنها (تبرير) للأحكام الشرعية ليس إلإ، وقد صدق، فالمقاصد ليست إلا بحثًا عن (فلسفة) لقواعد وعلل للشريعة من خلال الأحكام والنصوص، فإذا وجد نصّ مخالف فإن المقاصد تعدّل في (الفلسفة) حتى تدخل هذا الحكم لا أن تلغيه لمخالفته للمقاصد.
 

المقاصد وإسقاط الأحكام الشرعية

إنّ دعوتهم للأخذ بالمقاصد لإسقاط بعض الأحكام الشرعية يؤدّي إلى نسف الشريعة بكاملها، وتعطيل كافّة أحكامها، وإسقاط قطعياتها وضرورياتها، وليس عسيرًا على أي أحد أن ينفي أي حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد عليا، وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا الله، فـ (الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الامن و(حدّ الردةّ) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحريّة  و(الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة و(كلّ فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و(الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتعارض مع مقصد إرساله رحمة للعالمين و(حرمة الربا) أو (منع المحرّمات) يؤدّي إلى حصول حرج ومشقة تنافي مقصد الشريعة.

ولأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية بصيرًا بأمر عموميات المقاصد حين قال: (فمن (استحلّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر). ([5]) فهذه المقاصد الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيها عامة الناس، فاختصاص الشريعة إنما يكون بتفصيل هذه المقاصد وشرحها وتقييدها فإذا ألغى الإنسان الاعتبار بها  لم يكن قد أخذ من الشريعة بشيء.
 
وهكذا تغيب أحكام الشريعة الجزئية، بسبب مخالفتها لمقاصد (النفوس) كما يسمّيها بعض الفضلاء، فهي مقاصد لما تريده نفوسهم وأهواؤهم وما يتوافق مع شهواتهم جعلوها قواعد كليّة تحاكم إليها النصوص والأحكام الفقهية، وتلك (النفوس)  تكاد تحصر مقاصدها في الجانب الدنيوي المحضّ، وهو ما يختلف تمامًا عن المقاصد الشرعيّة المستفادة من نصوص الكتاب والسنّة  التي تدلّك على أنّ (الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية) ([6])    
 
بل إن المصالح الدنيوية تابعة للمصالح الأخرويّة  فـ (المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية). ([7])

وإذا كان إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريًا في مرحلةٍ ما لشيوع التعصّب والجهل والتضييق على الناس فإنّ المبالغة في تقرير المقاصد الشرعيّة وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عند عامة الناس  وقد اختلف الحال سيكون على حساب تعظيم النصّ الشرعي والانقياد له، وسيكون سببًا لظهور مقاصد النفوس لتشيع عبثها وانحرافها بدعوى (مقاصد الشريعة).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الموافقات للشاطبي 2/556
  2. الموافقات 3/8
  3. الموافقات 3/9
  4. الموافقات  1/78
  5. منهاج السنة النبوية 5/130
  6. الموافقات 2/350
  7. الموافقات 2/351

 

المصدر:

  1. د. فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الثانية، ص52
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص #مقاصد-الشريعة
اقرأ أيضا
مواجهة المشكلات | مرابط
تفريغات ثقافة

مواجهة المشكلات


ن اللجوء إلى الله جل وعلا هو من عتاد المسلم في الكروب وعلينا ألا نغفل عن هذا الجانب فلدى الله تعالى من أشكال المعونة وتفريج الكربات أكثر بكثير مما يظن الناس وأكثر بكثير مما يعرفون لنجعل من المشكلات والأزمات نقاط انطلاق جديدة ولنجعل منها مصدرا لتجديد الوعي واستخراج الإمكانات الكامنة ومصدرا للمراجعة والنقد الذاتي وبذلك تنقلب المحنة إلى منحة

بقلم: د عبد الكريم بكار
403
أوقات الإجابة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

أوقات الإجابة


نعلم أن أوقات الإجابة هي الثلث الأخير من الليل وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبات وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة من ذلك اليوم وآخر ساعة بعد العصر ولا يزال البعض يسأل لماذا ندعو في هذه الأوقات ولا يستجاب لنا؟ بين يديكم مقال مختصر للإمام ابن القيم يقف فيه على أوقات الإجابة وحال المؤمن وقت الدعاء وبعض التأسيسات الهامة فيما يخص الدعاء والاستجابة من الله رب العالمين

بقلم: ابن القيم
920
شبهات حول الحجاب: الحجاب في القلب ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب في القلب ج1


يردد المبغضون للحجاب من العالمانيين والمنصرين أن الحجاب الحقيقي هو حجاب القلب وليس هو مجرد قطعة قماش تلقى على الرأس والحقيقة أن الرد على هذا القول من أسهل ما يكون فهو ينطوي على الكثير من المغالطات العقلية والعقدية والمقال الذي بين يديكم يناقشها جميعا ويوضح الرد على هذه الفرية الحادثة

بقلم: سامي عامري
1647
عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول | مرابط
تفريغات

عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول


تمكن المسلمون من فتح الأندلس ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءا من ديار المسلمين في أول الأمر ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين وهي تطمع غدا في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق وتصل إلى منابع النفط وإلى المدينة المنورة وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي

بقلم: عمر الأشقر
1373
صناعة الحياة | مرابط
فكر

صناعة الحياة


استثمار النفس وبناء المستقبل وصناعة الحياة كلمات نسمعها كثيرا ولا مشاحة في الاصطلاح ولكن ثمة ملحظ على أغلب من يردد هذه المصطلحات.. وهذا الملحظ هو أنهم يريدون بهذا الإطلاق المعنى المادي الدنيوي الخالص ويغفلون عما هو أهم وهو المستقبل الحقيقي بعد الموت ذلك المستقبل الأبدي الذي لا يفنى.

بقلم: د. طلال بن فواز الحسان
445
يا شباب العرب | مرابط
مقالات

يا شباب العرب


ويقولون: إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبدا تبعة أمر عظيم ويزعمون أن هذا الشباب قد تمت الألفة بينه وبين أغلاطه فحياته حياة هذه الأغلاط فيه وأنه أبرع مقلد للغرب في الرذائل خاصة وبهذا جعله الغرب كالحيوان محصورا في طعامه وشرابه ولذاته ويزعمون أن الزجاجة من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عمل جندي أجنبي فاتح ويتواصون بأن أول السياسة في استعباد أمم الشرق أن يترك لهم الاستقلال التام في حرية الرذيلة

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
1195