تحويل القبلة وكشف الأوراق

تحويل القبلة وكشف الأوراق | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

2180 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

في أحداث السيرة النبوية مواقف صنعها الله عز وجل لتكون اختبارًا لأفراد الجماعة المسلمة، فيمحِّص الصفوف، وينفي عنها الخبث، كما يكشف بها سبحانه وتعالى أوراق أعداء الأمة من منافقين ومشركين؛ وذلك لكي تنشأ هذه الأمة نقيَّة خالصة لله عز وجل، خاضعة لأمره سبحانه دون شك أو ارتياب.

 

ومن هذه المواقف الجليلة والفاصلة في تاريخ الأمة، حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في النصف من شعبان من العام الثاني للهجرة، حيث كان المجتمع المسلم ما زال حديث البناء نسبيًّا في المدينة المنورة، وما زالت قريش والعرب متربصين به، وينتظرون له أي هفوة للتشنيع عليه.

 

كما أن اليهود في المدينة المرتبطين مع المسلمين بمعاهدات ومواثيق كانوا في باطنهم يحملون أشد العداوة لهم، ويتلهفون على أية فرصة للإساءة إلى الإسلام والمسلمين، مقرِّين في أنفسهم أنهم ما عقدوا هذه المعاهدات إلا لضعفهم عن مواجهة المسلمين، وإثارة الشبهات حول الإسلام.

 

في ذات الوقت كان هناك بعض حديثي الإسلام الذين لم يثبت الإسلام في قلوبهم بعدُ، ويمكن أن تؤثر فيهم بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.

 

تحويل القبلة وموقف المؤمنين

 

إذن كان المناخ في المدينة مهيّأً لإجراء الاختبار الكاشف لأوراق كل فريق، وجاء الأمر بتحويل القبلة ليعلن بدء الاختبار فعليًّا؛ قال تعالى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. وبدأ كل فريق في كشف أوراقه.. كانت البداية من المؤمنين المخلصين الذين صبروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتوا أمام كل ما مضى من محن الإيذاء، والتكذيب والتعذيب، والتضحية بالجاه والمال والرياسة، بل والتضحية بالأهل والوطن، وهؤلاء لم يكن الاختبار الجديد عسيرًا عليهم؛ لذا فإنهم -كشأنهم منذ أسلموا- سلموا لأمر الله عز وجل، ونفذوه موقنين أنه الحق، فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر -وهي أول صلاة يصليها متوجهًا إلى الكعبة- ثم داوموا على القبلة الجديدة، ثابتين على عقيدتهم.

 

بل كان من هؤلاء المؤمنين الصادقين من ضرب المثل في التصديق والاتّباع، مع الأخذ في الاعتبار أن الأمر جاء فجأةً، ودون تمهيد مسبق؛ فلم تؤثر فيهم المفاجأة، ولم يصدمهم الحدث، وهم بنو حارثة الذين وصلهم الخبر وهم يصلون عصر نفس اليوم؛ إذ مر أحد المسلمين الذين صلَّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزِل عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا إلى الكعبة"[1]؛ فسمِّي مسجدهم من يومها (مسجد القبلتَيْن).

 

موقف المنافقين ومذبذبي الإيمان

 

فهكذا كان شأن المؤمنين الصادقين، فكيف كانت حال من لم يستقر الإيمان في قلوبهم بعدُ، أو كانوا مذبذبي الإيمان؟ لقد قلق هؤلاء من مصير من مات من المسلمين قبل تحويل القبلة، هل تُقبل صلاتهم أم لا؟

كما تساءلوا عن جزاء صلاتهم السابقة نحو بيت المقدس، وكأنهم ظنوا أن الصلاة إلى القبلة السابقة كانت اجتهادًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وحي من الله؛ لذا لن يُثابوا عليه بل قد يعاقبون.

وهذه الفئة تظهر دائمًا في المجتمع المسلم وقت المحن، إذ تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر؛ فيبدأ هؤلاء في التشكُّك والظن في الثوابت.

 

موقف اليهود

 

أما الفئة الثالثة في المدينة فكانت اليهود، هؤلاء الذين كانوا فرحين مبتهجين عندما اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس قبلة عقب الهجرة؛ لأنها قبلتهم، فظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيتبعهم في دينهم بعد فترة، فلما جاء الأمر بتحويل القبلة أصيبوا بالإحباط واليأس من غرضهم؛ فأطلقوا لسانهم ليشككوا المسلمين في دينهم، قائلين: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. فجاء الرد الإلهي {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، وأنزل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177].

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجَّهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يومٍ مراتٍ إلى جهات متعددة؛ فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه"[2].

 

موقف قريش

 

أما قريش التي كانت متربصة بالمسلمين، فقد قالت: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. ولكن الله سبحانه وتعالى ردَّ عليهم: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150]. فنعتهم الله عز وجل بالظلم؛ ليكشف مكنون قلوبهم.

وانكشف باطن الكافرين، ومُحِّص المذبذبون، ومَرَّ الاختبار بعد أن تعلم منه المسلمون واستفادوا ما ينبغي لنا الاستفادة به؛ من أهمية اليقين والتسليم لأمر الله عز وجل، والانقياد لأوامره، وأهمية الثبات أمام الشبهات التي يلقيها أعداء الأمة دون انقطاع، وعدم التأثر بها، بل الرد عليها؛ لنحمي ضعاف الإيمان من التأثر بها.

ونسأل الله عز وجل النصر للإسلام والمسلمين.

 


 

المصدر:

  1. د. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ص92
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
من آداب الإسلام: إكرام الجار | مرابط
اقتباسات وقطوف

من آداب الإسلام: إكرام الجار


مقتطفات من كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم للإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب رحمه الله وهو من أشهر وأبرز المؤلفات الجامعة لأصول وكليات الدين

بقلم: ابن رجب الحنبلي
411
العلاج النفسي موضة العصر | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

العلاج النفسي موضة العصر


إن موضة الاضطرابات النفسية أصبحت متقلبة مثل شعبية نجوم الغناء والمطاعم ورحلات السفر ويحكي فرانسيس: خلال عملي في مجال علم النفس لمدة 35 عاما لم أجد متخصصا واحدا يسعى إلى تقليل عدد مرضاه فالطفل الأكثر حركة في الفصل لم يعد مجرد طفل نشيط بل أصبح مريضا باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ويحتاج إلى تناول عقار والحزن على وفاة أحد أقاربك لم يعد مجرد حزن بل هو اكتئاب حاد يجب أن تخضع للعلاج النفسي من أجل التغلب عليه

بقلم: إسماعيل عرفة
434
لا يقبله العقل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا يقبله العقل


تعد معارضة نصوص الوحي بالعقل واحدة من أعظم أبواب الانحراف وأحد مسببات الضلال الكبرى فإذا ما أورد نص شرعي على بعض الناس ولم يستوعبه عقله بادر قائلا: هذا الكلام لا يقبله العقل قاصدا رد دلالة ذلك النص والطعن فيه وفي المقال رد على هذه الشبهة وتفصيل لأصلها بأسلوب علمي دقيق

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2282
تحمل مسؤولية التكليف | مرابط
مقالات

تحمل مسؤولية التكليف


عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته.

بقلم: أحمد يوسف السيد
194
حكاية السينما والمتشددين | مرابط
فكر مقالات

حكاية السينما والمتشددين


قصة السينما في هذه الأيام تبدو كنموذج مجهري لانكشاف حقيقة هذا العبث المستتر بالضوابط الشرعية وتعرية متقنة للممارسة السلبية الخفية التي تنافق هذا المجتمع المبارك فلا تقدر على تمرير المحرمات إلا عبر بوابة التأكيد على الالتزام بقيود الشريعة السمحة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2035
السياسة الرشيدة في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

السياسة الرشيدة في الإسلام


أتى على العالم حين من الدهر وهو يتخبط في جهل وشقاء ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله عليه- بعزم لا يحوم عليه كلال وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض فأخذ يضع مكان الباطل حقا ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة وما لبثت الأمم أن تقلدت آدابا أصفى من كواكب الجوزاء وتمتعت بسياسة يتجلى بها العدل في أحسن رواء وأرفع سناء

بقلم: محمد الخضر حسين
1055