تعلمت من أوقات الفراغ

تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

5253 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

 

أوقات العمل تملكنا ..... 

 

 

ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد ، فهي من أجل هذا  ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله ، وليست قيمة الوقت إلا  قيمة الحياة.

 

 

فالذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة  التي لا تساويها ثروة الذهب، لأن مالك وقته يملك كل شيء، ويصبح في حياته سيد  الأحرار. 

 

 

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه وعندنا في الشرق كثيرون بل  كثيرون جدا من هؤلاء الفراغين.   على القهوات وعلى أفاريز الطرقات ، في الصباح
وفي المساء ، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء ....

 

 

في كل وقت وكل موسم وكل مكان ألوف من الشباب الأقوياء والرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد  والورق أو في تعاطي الراح والدخان ، أو في مراقبة الغادين والغاديات والرائحين والرائحات      ليس هذا وقتا فارغا لأنهم مشغولون فيه ، وليس هذا زقتا مملوءا لأنهم يملئونه بما هو أفرغ من الفراغ.

 

 

هذا ليس بوقت على الاطلاق...

 

 

وليس معنى " وقت  الفراغ" أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدده ونرمي به مع الهبا ،ولكن وقت  الفراغ هو الوقت الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه ، بعد أن قضينا وقت العمل
مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة.

 

 

قرأت مرة في تاريخ  امريكا الشمالية ان انجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار "كندا" فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون ..لماذا؟

 

 

زعموا في تعليل ذلك – وأصابوا- أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة  عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض لأنهم يستطيعون أن  يقضوا أوقات الفراغ منعزلين منفردين ، وأن الفرنسي لا يطيق العزله ولا يحتمل أن يفرغ    لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل  بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه...

 

 

ويصدق علينا في الشرق ما  يصدق على الفرنسيين ، فإن الانسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات ، ولا يهتدي بعد البحث  الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.

 

 

إن كان قصارى ما أصاب  الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار "كندا" .. فالأمر معنا   أخطر وأعظم ، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون ، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه.

 

 

قيل عن أهل إسبرطة ..

 

 

قيل عن أهل اسبرطة أنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في الغراء ، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في  إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقاً بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم عناء التربية ، ومن ظهر عليه التخدُّر والسبات أهملوه ونبذوه ..

 

 

ولو أنني أردت امتحان  الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم ، فمن صبر عى هذه الساعات فهو  رجل ملآن بقوة  الفكر وقوة الخلق وقوة الاحتمال ، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير  فيه...   

 

 

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ

 

 

نتعلم منها كل شئ ولا نتعلم  شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال، إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت  فراغ .. فالمعارف التي نجمعها من التجارب  والكتب محصول نفيس ، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من  خزائن العقل والضمير ..  ولن تتيسر لنا هذه  الغربلة وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ ..

 

 

إن معارف التجربة والإطلاع  زرع في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين ، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ذلك ساعة التخزين...

 

 

وهي ســـاعة الفراغ

 

 

ساعة هي أَلْزم لنا من  ساعات العمل، لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير  فراغ الحياة. ولولا أننا نخشى أن يُقدّس الناس الفراغ لقلنا  أن تاريخ الانسانية من أوله إلى عهده الحاضر مَدينٌ لساعات الفراغ. 
لقد عرف التاريخ  الإنساني أقواما فارغين جَنَوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات ودفعوا به إلى الحرب  تارة وإلى الفتنة تارة أخرى لأنهم وجدوا أمامهم متسعا من الفراغ يعيشون فيه. ولكننا – حتى مع هذا – لا  نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ  الإنسان .

ماذا يبقى من تاريخ الانسانية لولا الفارغون الذين اتسعت أوقاتهم للبذخ والترف بين الحلي والحلل في ظلال القصور؟ 
من كان يجوب الأرض ويمخر  عباب البحر ليجلب الحرير والبهار والحجر النفيس والحجر الذي تبنى به الصروح؟

 

 

من كان يتعلم الملاحة؟

 

 

من كان يتعلم صناعة السفن؟ من كان يتعلم النسيج؟ من كان يستخرج اللآليء أو يبحث عن  شذور الذهب والفضة؟ من كان يرسل القوافل ويحذق فنون التجارة ؟ من كان يرصد النجوم ويدرس حركة الأفلاك في السماء؟

 

 

من كان يعرق هذه الأعمال

 

 

التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم؟

 


لقد  كان فراغا ذميما في  أكثر نواحيه ، ولكنه على مذمته قد أفادنا درسا خالدا لا يصح أن ننساه . ذلك الدرس  الخالد هو حاجة الناس جميعا إلى أوقات الفراغ، فهي شيء لا غنى عنه في حياة أمة ولا  في حياة أحد .. وحبذا قضاء الفراغ كله  فيما هو خير. ولكننا إذا خيرنا بين الفراغ بين الفراغ بخيره وشره  وبين ضياع الفراغ كله لاخترنا أهون الشرَّيْن.


إن العقلاء من أصحاب الأعمال يطلبون اليوم  متسعا من الفراغ لعمالهم بعد أن كان طلب الفراغ مقصورا على العمال.

 

فالعامل الذي يتسع وقته  للرياضة ينشط في عمله بعد عودته إليه..

 

 

والعامل الذي ينفق بعض  الوقت ينفق بعض المال فتدور الحركة – حركة البيع والشراء في الأســـواق.

 

 

حسبة من حساب الحرص لا من  حساب الإسراف , وحسبة يرضى عنها علم الاقتصاد ولا يرضى عليها علم الأخلاق .

 

 

لا بد من فـــراغ ...

 

ولا بد من فراغ نحفظه... والفراغ الذي نحفظه هو الذي  يحفظنا , لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعِضات.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أوقات-الفراغ #عباس-العقاد
اقرأ أيضا
النساء: مفصل الصراع بين الإسلام والغرب | مرابط
فكر المرأة

النساء: مفصل الصراع بين الإسلام والغرب


يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.. والحقيقة أن المرأة في الأسرة هي بمثابة هذا القلب إذا صلحت صلح أبناؤها وقامت الأسرة وإذا فسدت فسد أبناؤها وانهارت المنظومة الأسرية

بقلم: محمود خطاب
540
أن تكون أبا | مرابط
مقالات

أن تكون أبا


أن تكون أبا فليس ذلك بالأمر الهين..أن تكون أبا فيعني ذلك أن الخوف والقلق والفزع البشري الطبيعي لم يعودوا من المشاعر التي يحق لك أن تجدها وإن حدث ووجدتها يوما فليس من حقك أن تستسلم لها أو تنساق خلف تبعاتها إلا لثوان ثم تتدارك بعدها نفسك لتستطيع إكمال المهمةمهمة أن تكون أبا..

بقلم: محمد علي يوسف
400
ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟ | مرابط
فكر مقالات

ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟


إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما هم في ذاتهم أي كما كانوا فعلا لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقا لميول المستهلك الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما عاش فعلا بين حرات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.

بقلم: إبراهيم السكران
1017
المثالية الزائدة | مرابط
اقتباسات وقطوف

المثالية الزائدة


لدنيا ليست كما تظن والناس أيضا ليسوا كما تتخيل ففيهم الكاذب على الله والخائن للناس وفيهم الظالم والجبار والمرتشي وشاهد الزور وفيهم القاتل والسارق إلى غير ذلك مما هو كفيل بعقلنة نظرتك للحياة هذا كله لا إشكال فيه بل الإشكال عند الذين يسبب لهم ذلك صدمة في مثاليتهم

بقلم: م أحمد حسن
585
الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء


من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته

بقلم: ابن القيم
1380
الإيمان بالملائكة | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

الإيمان بالملائكة


الإيمان بالملائكة الذين هم عباد الله المكرمون والسفرة بينه تعالى: وبين رسله عليهم الصلاة والسلام المرام خلقا وخلقا والكرام على الله تعالى: البررة الطاهرين ذاتا وصفة وأفعالا المطيعين لله عز وجل خلقهم الله تعالى: من النور لعبادته ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا ولا شركاء معه ولا أندادا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون والملحدون علوا كبيرا قال الله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارت...

بقلم: حافظ بن أحمد الحكمي
1372