تعلمت من أوقات الفراغ

تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

4933 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

أوقات العمل تملكنا ..... 

 

 

ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد ، فهي من أجل هذا  ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله ، وليست قيمة الوقت إلا  قيمة الحياة.

 

 

فالذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة  التي لا تساويها ثروة الذهب، لأن مالك وقته يملك كل شيء، ويصبح في حياته سيد  الأحرار. 

 

 

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه وعندنا في الشرق كثيرون بل  كثيرون جدا من هؤلاء الفراغين.   على القهوات وعلى أفاريز الطرقات ، في الصباح
وفي المساء ، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء ....

 

 

في كل وقت وكل موسم وكل مكان ألوف من الشباب الأقوياء والرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد  والورق أو في تعاطي الراح والدخان ، أو في مراقبة الغادين والغاديات والرائحين والرائحات      ليس هذا وقتا فارغا لأنهم مشغولون فيه ، وليس هذا زقتا مملوءا لأنهم يملئونه بما هو أفرغ من الفراغ.

 

 

هذا ليس بوقت على الاطلاق...

 

 

وليس معنى " وقت  الفراغ" أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدده ونرمي به مع الهبا ،ولكن وقت  الفراغ هو الوقت الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه ، بعد أن قضينا وقت العمل
مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة.

 

 

قرأت مرة في تاريخ  امريكا الشمالية ان انجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار "كندا" فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون ..لماذا؟

 

 

زعموا في تعليل ذلك – وأصابوا- أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة  عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض لأنهم يستطيعون أن  يقضوا أوقات الفراغ منعزلين منفردين ، وأن الفرنسي لا يطيق العزله ولا يحتمل أن يفرغ    لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل  بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه...

 

 

ويصدق علينا في الشرق ما  يصدق على الفرنسيين ، فإن الانسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات ، ولا يهتدي بعد البحث  الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.

 

 

إن كان قصارى ما أصاب  الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار "كندا" .. فالأمر معنا   أخطر وأعظم ، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون ، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه.

 

 

قيل عن أهل إسبرطة ..

 

 

قيل عن أهل اسبرطة أنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في الغراء ، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في  إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقاً بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم عناء التربية ، ومن ظهر عليه التخدُّر والسبات أهملوه ونبذوه ..

 

 

ولو أنني أردت امتحان  الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم ، فمن صبر عى هذه الساعات فهو  رجل ملآن بقوة  الفكر وقوة الخلق وقوة الاحتمال ، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير  فيه...   

 

 

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ

 

 

نتعلم منها كل شئ ولا نتعلم  شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال، إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت  فراغ .. فالمعارف التي نجمعها من التجارب  والكتب محصول نفيس ، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من  خزائن العقل والضمير ..  ولن تتيسر لنا هذه  الغربلة وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ ..

 

 

إن معارف التجربة والإطلاع  زرع في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين ، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ذلك ساعة التخزين...

 

 

وهي ســـاعة الفراغ

 

 

ساعة هي أَلْزم لنا من  ساعات العمل، لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير  فراغ الحياة. ولولا أننا نخشى أن يُقدّس الناس الفراغ لقلنا  أن تاريخ الانسانية من أوله إلى عهده الحاضر مَدينٌ لساعات الفراغ. 
لقد عرف التاريخ  الإنساني أقواما فارغين جَنَوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات ودفعوا به إلى الحرب  تارة وإلى الفتنة تارة أخرى لأنهم وجدوا أمامهم متسعا من الفراغ يعيشون فيه. ولكننا – حتى مع هذا – لا  نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ  الإنسان .

ماذا يبقى من تاريخ الانسانية لولا الفارغون الذين اتسعت أوقاتهم للبذخ والترف بين الحلي والحلل في ظلال القصور؟ 
من كان يجوب الأرض ويمخر  عباب البحر ليجلب الحرير والبهار والحجر النفيس والحجر الذي تبنى به الصروح؟

 

 

من كان يتعلم الملاحة؟

 

 

من كان يتعلم صناعة السفن؟ من كان يتعلم النسيج؟ من كان يستخرج اللآليء أو يبحث عن  شذور الذهب والفضة؟ من كان يرسل القوافل ويحذق فنون التجارة ؟ من كان يرصد النجوم ويدرس حركة الأفلاك في السماء؟

 

 

من كان يعرق هذه الأعمال

 

 

التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم؟

 


لقد  كان فراغا ذميما في  أكثر نواحيه ، ولكنه على مذمته قد أفادنا درسا خالدا لا يصح أن ننساه . ذلك الدرس  الخالد هو حاجة الناس جميعا إلى أوقات الفراغ، فهي شيء لا غنى عنه في حياة أمة ولا  في حياة أحد .. وحبذا قضاء الفراغ كله  فيما هو خير. ولكننا إذا خيرنا بين الفراغ بين الفراغ بخيره وشره  وبين ضياع الفراغ كله لاخترنا أهون الشرَّيْن.


إن العقلاء من أصحاب الأعمال يطلبون اليوم  متسعا من الفراغ لعمالهم بعد أن كان طلب الفراغ مقصورا على العمال.

 

فالعامل الذي يتسع وقته  للرياضة ينشط في عمله بعد عودته إليه..

 

 

والعامل الذي ينفق بعض  الوقت ينفق بعض المال فتدور الحركة – حركة البيع والشراء في الأســـواق.

 

 

حسبة من حساب الحرص لا من  حساب الإسراف , وحسبة يرضى عنها علم الاقتصاد ولا يرضى عليها علم الأخلاق .

 

 

لا بد من فـــراغ ...

 

ولا بد من فراغ نحفظه... والفراغ الذي نحفظه هو الذي  يحفظنا , لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعِضات.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أوقات-الفراغ #عباس-العقاد
اقرأ أيضا
هم يوسف عليه السلام | مرابط
أباطيل وشبهات

هم يوسف عليه السلام


من الشبهات التي يروجها أعداء الإسلام أن القرآن قد نسب إلى الصديق يوسف عليه السلام الهم في الخطيئة مع زوجة العزيز وزعموا أن كتب التفسير مليئة بصور مشينة لهذا الهم الفاسد الذي لا يليق بنبي كريم وبين يديكم الرد المفصل على هذه الشبهة

بقلم: منقذ السقار
624
إن الحلال بين وإن الحرام بين | مرابط
اقتباسات وقطوف

إن الحلال بين وإن الحرام بين


قد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن. ومنه ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه. فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه.

بقلم: ابن رجب
365
الموقف من آيات الصفات | مرابط
تعزيز اليقين

الموقف من آيات الصفات


وأما ما ورد من آيات الصفات وأحاديثها فالذي يفهم منها هو أن لله جل ذكره مطلق يد ووجه ونحو ذلك مما ورد أما أن يدل على ماهية أو كيفية ونحوها فلا بل لو قيل: إن ملكا من الملائكة له رأس لما فهم منه إلا أن له رأسا فحسب فأما تفصيله فكلا

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
315
توصيف الليبراليين السعوديين | مرابط
فكر مناقشات الليبرالية

توصيف الليبراليين السعوديين


هذا الكتاب يمثل نموذج بحثي مختلف حقا يسير على آليات بحثية منظمة ومنهجية ولا أعرف في الكتب الفكرية المحلية كتابا التزم هذه الطرائق البحثية الحديثة لذلك أتوقع أن هذا الكتاب سيكون نموذج منهجي ملهم للدراسات الفكرية المحلية في تطوير وتحديث آلياتها البحثية حيث نقلها من الأجواء الأكاديمية الهادئة إلى الحلبة الفكرية الساخنة عبر نموذج تطبيقي وهذا الأسلوب من أكثر أساليب الرواج العلمي فعالية

بقلم: إبراهيم السكران
1076
إشكال الاختلاط في الطواف | مرابط
أباطيل وشبهات

إشكال الاختلاط في الطواف


نسمع بين الفينة والأخرى سؤالا يتكرر حول إشكالية الاختلاط أثناء الطواف فيقول صاحب الشبهة: نعلم أن الاختلاط محرم في الإسلام ولكن كيف يباح ذلك أثناء الطواف؟ كيف يختلط الرجال بالنساء دون فاصل؟ وبين يديكم رد مفصل على هذه الشبهة للشيخ قاسم اكحيلات.

بقلم: قاسم اكحيلات
499
الوسطيتان | مرابط
فكر مقالات

الوسطيتان


من الملاحظ أن مصطلح الوسطية قد كثر استخدامه في الساحات الفكرية والشرعية في بلادنا فيقول لك الإسلام الوسطي والشيخ الوسطي ويبدو أن الأمر يحتاج إلى فحص وتمحيص حتى نعلم مرادهم من هذه الوسطية ومن هنا يأتي المقال الذي بين يدينا للكاتب إبراهيم السكران ويوضح لنا نوعين من الوسطية: أحدهما مطلوب ومحمود والآخر مرفوض ومذموم

بقلم: إبراهيم السكران
2069