
حين يطالع طالب العلم في هذا العصر عبودية السلف فإنه تمر به مشاعر ممزوجة بالعجب والاستغراب والحسرة على نفسه، تجد كثيرًا من طلبة العلم ربما لامهم من حولهم وعتبوا عليهم أنهم لا يرون فيهم عبودية تكافئ علمهم أو مطالعتهم مثلًا، بينما تجد في حياة علماء السلف من يتألم أهله لعبوديته، ويتوددون إليه أن يخفف عن نفسه، كما كان -مثلًا- الإمام مسروق بن الأجدع (ت 63هـ) وهو من كبار التابعين صلى خلف أبي بكر وروى عن عمر وغيره، وقد روى ابن سعد (230هـ) في كتابه الطبقات أخبارًا روتها زوجة مسروق نفسها:
(عن أنس بن سيرين، قال: بلغنا بالكوفة أن مسروقًا كان يفر من الطاعون، فأنكر ذلك محمد، وقال: انطلق بنا إلى امرأته فلنسألها، فدخلنا عليها فسألناها عن ذلك، فقالت: كلا والله ما كان يفر، ولكنه كان يقول: "أيام تشاغل فأحب أن أخلو للعبادة"، فكان يتنحى فيخلو للعبادة، قالت: فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه، قالت: وكان يصلي حتى تورم قدماه)
[طبقات ابن سعد: 6/81].
فانظر لعبارة مسروق "أيام تشاغل فأحب أن أخلو للعبادة"! رأى الناس منهمكين في أمور الدنيا فانصرف للعبادة، وانظر كيف يتهجد حتى تتورم قدماه فتنهمر دمعات زوجته من ورائه شفقةً عليه، وقارن ذلك كله بأحوالنا اليوم –إلا من وفقه الله- كيف تتقضى ساعاتنا في الفضول والترهات.