خلاصة في المجاز

خلاصة في المجاز | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1751 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله وبعد،،
 
مسألة المجاز في العربية والقرآن مسألة تشعب الخلاف فيها، وقد جرت مباحثتها مع بعض الأفاضل، ولا أحب أن أدخل فيها مدخل الجدل والمناظرة، وإنما سأحرص على تلخيص وجهة نظري فيها بهدوء علمي بإذن الله:
 
1-المجاز في جوهره أن يأتي المتكلم لكلمة وضعت لمعنى معين، فيلتقطها ويعبر بها عن معنى آخر، لعلاقة بينهما يدركها الذهن فيلتذّ بها بيانيًا، وإذا كانت العلاقة المشابهة فيسمى المجاز "استعارة" أو غير المشابهة فيسمى "مجاز مرسل"، في تفاصيل أخرى ما هذا بموضعها.
 
2-من أخذ بالقول بنفي أصل المجاز في العربية، أو بإثبات أصل المجاز فيها، فكلاهما اجتهادان سائغان، قال بكل قولٍ منهما أعلام كبار في العلم والسنة.
 
3-من نقل "أصل" المسألة من باب الاجتهاد السائغ إلى باب السنة والبدعة، أو باب الجهل والعلم، كجعل مثبت المجاز مبتدعًا، أو منكر المجاز جاهلًا باللغة؛ فكلامه غير دقيق علميًا.
 
4-القول الذي يرى منع المجاز في القرآن وإثباته في العربية لأن شرط المجاز جواز النفي والنفي في القرآن تكذيب؛ هو -في رأيي- أضعف الأقوال في المسألة، ومن لازمه: هل يثبت المجاز في كلام رسول الله؟ فإن أثبته نقض حجة عدم جواز النفي، وإن نفاه فيه خالف تخصيصه القرآن، ولأن القرآن جرى على معهود الأميين في الاستعمال العربي فما ثبت من أساليب اللغة فالأصل جواز ثبوته في أسلوب القرآن والسنة إلا لمانع ظاهر، وأما حجة "عدم جواز النفي" فليس المراد بها نفي المراد المطلوب بل نفي المراد المتوهم، وهذا نظير نفي التفسير الباطل عن كلمات القرآن.
 
5-من قال أن إثبات المجاز في اللغة أو القرآن يلزم عليه تعطيل الصفات فيقال له: الجهة منفكّة بينهما، فقد وُجِد من العلماء من يثبت المجاز ولا يعطل الصفات، ووجد العكس وهم الذين ينفون المجاز ومع ذلك لم يمنعهم هذا من تعطيل الصفات.
 
فمثال من أثبت المجاز و"الاستعارة" وأثبت الصفات الإلهية سويًا: الإمام الدارمي في نفس كتابه الذي هو من أجل وأعظم ما صنِّف في الرد على المعطلة "النقض على المريسي" أثبت المجاز بل استند عليه في مواضع كثيرة جدًا، ومنهم: شيخ مفسري أهل السنة ابن جرير الطبري استند على المجاز والاستعارة في تفسير التولي والشغف وغيرها، ومنهم: ابن كثير –وتفسيره له جلالة في نفوس أهل السنة المعاصرين- استند على المجاز والاستعارة في تفسير ملكية الدنيا وإضافة الإرادة للجدار في قصة الخضر، وغيرها. وغيرهم كثير من أئمة أهل السنة الكبار والمقصود هنا التمثيل فقط.
 
وأما من نفى وقوع المجاز ولم يمنعه ذلك من تعطيل الصفات الإلهية: فمنهم الاسفراييني (أشعري)، أبو علي الفارسي (معتزلي). والظاهرية نفوا المجاز في القرآن وابن حزم معطل، وله تفصيلات أخرى يميل فيها لكون استخدام القرآن حقيقة وغيره يمنع من نقل اللفظ لمعنى آخر، ومع هذا جهّم ابن حزم دلالات نصوص الصفات حتى جعل صفة الاستواء معناها "الانتهاء"، ومعنى استوى على العرش أي انتهى خلقه إليه فليس بعد العرش شيء، فإذا كان هذا في الاستواء المشهور كلام السلف فيه فكيف بغيره.
 
6-يقال لمن احتج بأن "المجاز سند للمعطلة"، بأنه ليس بحجة لهم، بل هم استغلوه بالباطل، كما استغلوا دليل العقل، ودليل القياس، قديمًا، وليس هذا حجة لإبطالهما، بل كان المنهج الحق بيان انفصال الدليلين عن دعواهما، وكما استغل عبيد الثقافة الغالبة حديثًا دليل المصلحة ومقاصد الشريعة ونحوها، وليس هذا مدعاة للتنصل منهما. وهكذا أيضًا: كما احتج رؤوس الغلاة اليوم بوجوب تحكيم الشريعة ومنع تولي الكفار لسفك دماء المسلمين، فلا نترك التوحيد لأجل توظيف الغلاة له، فالقاعدة "لا يترك الحق لاستغلال المبطل له".
 
7-ضلال المعطلة المتذرعين بالمجاز لا يقابل بأن المجاز غير موجود، بل يقال لهم: أن شرط المجاز قيام القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وتأويلاتكم للصفات الخبرية والاختيارية لا قرينة فيها صحيحة تمنع المعنى الحقيقي، بل القرائن قائمة على إثبات النقيض.
 
8-كثرة ربط أيلولة المجاز للتعطيل قد ينتج العكس، لأنه سيظن بعض الناس أنه إذا ثبت المجاز وجب التعطيل، فإذا رأى عامة علماء اللغة والأصول والبيان والتفسير وشراح الحديث لا يشكون في الاستعارات أورثه هذا قوة القول بالتعطيل لظنه التلازم بينهما، فإيضاح انفكاك الجهة بين المجاز والتعطيل أنصر للإثبات من التعطيل، وإيضاح أن دعواهم المجاز في نصوص الصفات لا ينطبق عليها شروط المجاز أمكن في رد الشبهة من نفي أصل المجاز.
 
9-يختلف القول في أصل المجاز عن القول في فروعه وتفاصيله، فمن قال بأصله لا يلزمه أن يقول بكل تفاصيله التي يذكرونها في علوم البيان والأصول وغيرها.
 
10-إذا تأمل الباحث في أن أصل الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه ووجه شبهه وأداته، لم يبق لديه تردد أن المستعار منه نقل من أصل معناه وإلا لم يصح التشبيه، ومثاله: قولنا الفقيه الفلاني كالبحر في العلم، ثم قولنا: ألقى البحر فلان درسًا عظيمًا. فإذا قارنت المشبه به في الأولى بالمستعار منه في الثانية تبيّن أن المستعار منه نُقِل من أصل معناه وإلا لم يصح التشبيه في الأولى لأن المشبه به لا يشبه بنفسه.
 
11-الحجة التي تقول "أن العرب وضعت هذه الكلمات المجازية لهذا المعنى حقيقة" يردّه أن الكُتّاب والمصنّفون ما زالوا طوال العصور يبتكرون ويفتنّون في ألوان الاستعارات في ألفاظ ومعانٍ حادثة أصلًا، ومن عانى الكتابة والتأليف الأدبي يعرف ذلك من نفسه، كقولنا مثلًا "الجهم بن صفوان طاحونة المحدثات" فهل العرب وضعت كلمة الطاحونة لمن يكون منبع فكر معين؟
 
12-الذي لاحظته من الدراسات الحديثة في الاستعارة أنها ليست ظاهرة مختصة باللغة العربية أصلًا، بل هي عمل عقلي في الوضع اللغوي في أصل الذهن البشري وجماليات اللسان، ولذلك كل اللغات يوجد فيها ظاهرة الاستعارة، ويفتنّ أدباؤها في ذكاء نقل الكلمات من أصل وضعها للمزيد من الإيحاءات.
 
والمجاز والاستعارة في لغة العرب وأدبها وشعرها ونثرها فيه من العبقرية ما يجعل المرء أحيانًا يتوقف وهو يقرأ، لا يدري كيف يعبر عن دهشته وذهوله، حتى يشعر بشيء يتزاحم في حلقه لا يدري ما هو، فما في تاريخ العلوم أعجب من بلاغة لسان العرب وبيانهم.
 
والله أعلم،،

 


 

المصدر:

http://saaid.net/Doat/alsakran/83.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #المجاز
اقرأ أيضا
هنري ماكآو: بين النقاب والسفور | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف المرأة

هنري ماكآو: بين النقاب والسفور


إن المرأة التي تلبس النقاب قد اتصفت بمجموعة من الصفات النفسية والتي تبدو رائعة إنها لا تهتم بالشكل الخارجي لمظهرها -يقصد ملبسها- مما يعطيها فرصة أكبر لتهتم بجسدها وشكلها بداخل بيتها أكثر من خارجه ﻷن الضغوط النفسية التي تتعرض لها تكون أقل مما يعطيها مساحة للتأنق داخل البيت براحة كبيرة

بقلم: محمد علي فرح
633
الإحسان في كل شيء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإحسان في كل شيء


جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم الإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب الحديث الثاني وهو سؤال جبريل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان

بقلم: ابن رجب الحنبلي
473
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج3 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج3


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
859
ابن تيمية ونصرة مذهب السلف | مرابط
اقتباسات وقطوف

ابن تيمية ونصرة مذهب السلف


كان من الممكن لابن تيمية أن يعيش حياته ككثير من غيره من العلماء يشرح كلام العلماء قبله ويقرر المذاهب كما هي وينحاز لأحدها ويعيش مقلدا راضيا بترديد ما أضافه علماء الكلام للعلوم الشرعية من فلسفة وتكلف وكان سيعيش في سلام مع الآخرين وربما نال حظوة كبيرة بسبب قدراته العلمية واعتراف العلماء بفضليه لكنه فضل طريقا غير ذلك الطريق الأقل سلوكا وهو الانحياز للحق والدليل

بقلم: د راشد العبد الكريم
609
المؤامرة على المرأة المسلمة ج3 | مرابط
تفريغات المرأة

المؤامرة على المرأة المسلمة ج3


ثم ما الذي ينتج إذا عملت المرأة كما هو واضح إذا عملت المرأة أولا تنافس الرجال في الوظائف الدولة التي عندها عشرة آلاف وظيفة مثلا وتخرج عشرة آلاف خريج وعشرة آلاف خريجة إنها ستعطي خمسة آلاف منهن خمسة آلاف وظيفة فيتعطل خمسة آلاف شاب فيتحولون إلى مجرمين وإلى لصوص وإلى مدمني مخدرات وإلى ما لا يحتاج إلى أن يذكر لمعرفته في الإحصائيات العالمية

بقلم: سفر الحوالي
843
شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون


تقول الشبهة: جاء في القرآن أن كل المخلوقات في السموات والأرض طائعة وقاتنة لله تعالى فكيف يستوي ذلك مع ما نجده في حال الإنسان حيث نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر والمقال الذي بين يدينا يفند هذه الشبهة ويرد عليها ويوضح الخطأ فيها

بقلم: محمد عمارة
1589