شبهة: هل رويت السنة باللفظ أم بالمعنى؟

شبهة: هل رويت السنة باللفظ أم بالمعنى؟ | مرابط

الكاتب: محمد أبو شهبة

71 مشاهدة

تم النشر منذ 3 أشهر

لا خلاف بين العلماء أنَّ المحافظة على ألفاظ الحديث وحروفه أمر من أمور الشريعة عزيز، وحُكْمٌ من أحكامها شريف، وأنه الأولى بكل ناقل والأجدر بكل راوٍ المحافظة على اللفظ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، بل قد أوجبه قومٌ ومنعوا نقل الحديث بالمعنى.

والذين أجازوا الرواية بالمعنى إنما أجازوها بشروط وتَحَوُّطَاتٍ بالغة فقالوا: نَقْلُ الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ، أما العالم بالألفاظ الخبير بمعانيها، العارف بالفرق بين المُحْتَمَلِ وغير المُحْتَمَلِ، والظاهر والأظهر، والعام والأعمّ، فقد جَوَّزُوا له ذلك، وإلى هذا ذهب جماهير الفُقَهَاء والمُحَدِّثِينَ.

وقد كان السلف الصالح يحرصون على الرواية باللفظ ويرون أنَّ الرواية بالمعنى رُخْْصَةً تتقدَّر بقدرها، وكان منهم مَنْ يتقيد باللفظ ويَتَحَرَّجُونَ مِنَ الرواية بالمعنى، قال وكيع: «كان القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حَيْوَةَ - رَحِمَهُمْ اللهُ - يعيدون الحديث على حروفه» ومِمَّنْ كان يُشَدِّدُ في الألفاظ الإمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ - فقد منع الرواية بالمعنى في الأحاديث المرفوعة وأجازها فيما سواها، رواه البيهقي عنه في "المدخل".

ومن السلف من كان يرى جواز الرواية بالمعنى، قال ابن سيرين: «كان إبراهيم النخعي والحسن والشَعْبِي - رَحِمَهُمْ اللهُ - يأتون بالحديث على المعاني» (1).

ومِمَّا ينبغي أنْ يُعْلَمَ أنَّ جواز الرواية بالمعنى في غير ما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أنْ يُغَيِّرَ لفظ شيء من كتاب مُصنَّف ويُثْبِتَ بَدَلَهُ فيه لفظًا آخر بمعناه، فإنَّ الرواية بالمعنى رَخَّصَ فيها مَنْ رَخَّصَ لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب ولأنه إنْ ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره كما قال ابن الصلاح (2)

ومِمَّا ينبغي أنْ يُعْلَمَ أيضا أنهم استثنوا من الأحاديث التي جَوَّزُوا روايتها بالمعنى الأحاديث التي يُتَعَبَّدُ بلفظها كأحاديث الأذكار والأدعية والتشهد ونحوها كجوامع كلمه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرائعة.

فإذا علمنا أنَّ التدوين الخاص وجد في القرن الأول، وأنَّ التدوين العام كان في أول القرن الثاني، وأنَّ الرواية بالمعنى لا تجوز في الكتب المدونة، والصحف المكتوبة، وأنَّ الذين نقلوا الأحاديث وَرَوَوْهَا منهم من التزم اللفظ ومنهم من أجاز الرواية بالمعنى، وهؤلاء المُجِيزُونَ كانوا عربًا خلصًا غالبًا، وأنهم كانوا أهل فصاحة وبلاغة، وأنهم قد سمعوا من الرسول أو مِمَّنْ سمعوا من الرسول وشاهدوا أحواله، وأنهم أعلم الناس بمواقع الخِطاب ومحامل الكلام، وأنهم يعلمون حق العلم أنهم يَرْوُونَ ما هو دين، ويعلمون حَقَّ العلم حرمة الكذب على رسول الله، وأنه كذب على الله فيما شرع وحكم.

إذا علمنا كل ذلك - وقد دَلَّلْنَا فيما سبق - أَيْقَنَّا أنَّ الرواية بالمعنى لم تَجْنِ على الدِّينِ، وأنها لم تُدْخِلْ على النصوص التحريف والتبديل كما زعم بعض المُسْتَشْرِقِينَ وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُمْ، وأنَّ الله الذي تَكَفَّلَ بحفظ كتابه قد تَكَفَّلَ بحفظ سُنَّة نبيِّه من التحريف والتبديل، وقَيَّضَ لها في كل عصر من ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين، فذهب الباطل الدخيل، وبقي الحق مورَدًّا صافيًا للشاربين {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (3).


المصدر:
دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين، محمد أبو شهبة

الإشارات المرجعية:

  1. جامع الأصول ج ١ ص ٥٤، الباعث الحثيث ص ١٦٦.
  2. مقدمة ابن الصلاح ص ١٨٩.
  3. [سورة سبأ، الآية: ٤٩]
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السنة-النبوية
اقرأ أيضا
مكة: مدينة متعولمة المظهر أم مدينة مقدسة الشكل والمضمون | مرابط
فكر مقالات

مكة: مدينة متعولمة المظهر أم مدينة مقدسة الشكل والمضمون


خلال العقد الأخير تعرضت أكثر بقاع الأرض قداسة مكة المكرمة إلى موجات من التغيير والتحديث أثارت جدلا واسعا بين المسلمين في كل أنحاء العالم في العقد الماضي فقط كانت مكة المكرمة مهد الإسلام هدفا لبعض مخططات التنمية التجارية الأكبر والأسرع في العالم أكثر من مائة مبنى قيد البناء حول المسجد الحرام مما سيحول جذريا المناظر الطبيعية والتاريخية والمعمارية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المدينة النامية بتسارع غير مسبوق

بقلم: د علي عبد الرءوف
1763
تلبيس إبليس على جاحدي النبوات | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

تلبيس إبليس على جاحدي النبوات


ققد لبس إبليس على البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق ما يصل من الإله وقد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم على مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط وقد ألقى إبليس الكثير من الشبهات ليصدهم عن إثبات النبوة واتباع الأنبياء يذكرها لنا ابن الجوزي بشكل مفصل

بقلم: ابن الجوزي
586
سبيل السعادة على أيدي الرسل | مرابط
اقتباسات وقطوف

سبيل السعادة على أيدي الرسل


لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم.. فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به. فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.

بقلم: ابن القيم
51
دواء العشق | مرابط
اقتباسات وقطوف

دواء العشق


إن القلب إذا أخلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما يتمكن من قلب فارغ وقد تصل قلوب العباد إلى حالة من التعلق والعشق المضاد للتوحيد وقد أجاد الإمام ابن القيم رحمه الله في شرح هذه المسألة وتفصيلها وبين يديكم مقتطف من الجواب الكافي عن دواء التعلق والعشق

بقلم: ابن القيم
700
هوان الذنوب بتكرارها | مرابط
اقتباسات وقطوف

هوان الذنوب بتكرارها


أحيانا ترى الناس تستعظم ذنبا من الذنوب ويتخذون مواقف صارمة تجاه فاعله بينما هناك ذنوب أخرى أكبر وأعظم عند الله تعالى ولكن الناس لا يتخذون تجاهها نفس الموقف وفي هذا المقتطف يحلل أبو حامد الغزالي هذه الظاهرة ويرجعها إلى الإلف فما اعتاد الناس على رؤيته يسقط وقعه في قلوبهم على عكس الذنوب التي لم يعتدها الناس ولم تنتشر بينهم

بقلم: أبو حامد الغزالي
1672
لا يدري ولا يدري | مرابط
مقالات

لا يدري ولا يدري


من الناس من لا يدري ويدري أنه لا يدري وهذا جاهل ويعلم أنه جاهل ويسمى جهله بالجهل البسيط. أما قسيمه فهو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فيكون جاهلا بجهله ويسمى جهله بالجهل المركب.

بقلم: د. جمال الباشا
114