
الخطبة الثانية.. الحمد لله، أما بعد:
فحينما نقرأ آيات الميراث، فإننا نتعامل مع عظمة في التشريع، نتعامل مع تشريع تولاه الله بنفسه، وتولى بيانه بنفسه، ولم يترك ذلك لأحد من البشر. ومن العجائب في باب الميراث أن كل هذه الأحكام الدقيقة التي استنبطها العلماء في المواريث مرجعها إلى أربع آيات وثلاثة أحاديث، وهذا إعجاز عظيم أفرد له العلماء علمًا قائمًا بذاته وهو علم الفرائض (أو علم المواريث)، ومع أنها أربع آيات إلا أنها وضحت تقسيم الإرث بطريقة لافتة.
وعادة ما نقرأ في القرآن الأحكام بإجمال في مثل الصلاة والزكاة والصيام، ونجد في السنة التفصيل، أما أحكام الميراث فجاءت مفصلة في القرآن بوضوح في بيان بليغ، وتفصيل دقيق،لايستطيع البشر أن يهتدوا إليه لولا أن هداهم الله. والله جل وعلا حينما يشرِّع الأحكام، فإنما يشرعها لحكمة عظيمة، قد يصل الإنسان إلى هذه الحكمة، وقد يصل إلى شيء منها، وقد يصل إلى ذلك بعد أمدٍ.
وختَم الله جل وعلا ثلاث آيات من آيات المواريث بصفة العلم، فقال تعالى: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11]، وفي الآية الثانية: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]، وفي الآية الثالثة: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176].
الأمور التي تراعيها الشريعة
وكثيرًا ما تكون نظرة الإنسان إلى القضايا نظرة بسيطة، لكن كلما تأمَّل في القضية أكثر، وبحث أكثر، ظهر له أن النظرة البسيطة والسطحية بعيدة عن الصواب، وقد تعود للإنسان بمفاسد وعوائقَ وأضرارٍ ولو بعد أمدٍ، وقد تنفع اليوم لكنها تضر غدًا، وقد ذكر بعض الباحثين أن الشريعة في الإرث تراعي عدة أمور:
الاعتبار الأول: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى، وبين المُوَرث المتوفَّى، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قلَّ النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين، فابنة المتوفى تأخذ مثلًا أكثر من والد المتوفى أو أمه، والأولاد يقدمون في الإرث على الإخوة، وهكذا، ويقدم الأخ الشقيق (من الأب والأم) على الأخ لأب، وهكذا.
الاعتبار الثاني: موقع الوارث من الحياة، فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لتحمُّل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للورثة، فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه - وكلتاهما أنثى - وترث البنت أكثر من الأب! وكذلك يرث الابن أكثر من الأب وكلاهما من الذكور.
الاعتبار الثالث: التكليف المالي الذي يوجبه الشرع على الوارث حيالَ الآخرين، وهذا هو الاعتبار الوحيد الذي يفرِّق فيه بين الذكر والأنثى، ليس باعتبار الجنس، ولكن باعتبار التكليف والأعباء المالية، فإذا ما تساوى الورثة في القرابة، وفي موقعهم من الحياة، فكانوا جيلًا واحدًا كالأخوة أو الأبناء، هنا ينظر الشرع إلى التكاليف والأعباء المالية المناطة بهم؛ ا.هـ، باختصار.
والشريعة تحرص على العلاقة الاجتماعية في الأسرة، بعيدًا عن الخصومة والعداوة بين الأرحام، وحرصت الشريعة على أن يبقى مال الميت لأهله وأقاربه، وألا يوصي بأكثر من الثلث؛ ففي صحيح البخاري برقم2742: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: "لَا"، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: "لَا"، قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: "فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ".
ومما يذكر في هذا الباب أن وجود استبداد لبعض الوارثين، وسيطرتهم على حقوق الضعفاء، ليس ذريعة لإقصاء أحكام شرعية واستبدالها بأخرى غربية. فالواجب علينا جميعًا أن نحمَد الله على نعمة الميراث في الإسلام، وأن نقوم به كما أمر الله سبحانه.
المصدر:
شبكة الألوكة