قطاع طريق النصيحة

قطاع طريق النصيحة | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

2490 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

مفهوم النصيحة وفضلها

 

النصيحة بها صَلاح الدين والدنيا؛ لأنَّه بها ينشآن ابتِداءً، وبها يُقَوَّمان إن اختَلَّا؛ فهي عين الدين والدنيا الحارِسة؛ ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم :«الدين النصيحة»؛ يعني: جِماعه وأصله وفرعه (رواه مسلم).
 
هي العِبادة التي يَتعدَّى نفْع صاحِبها إلى غيره، وتَرجِع بالأجر عليه ما بلَغت المراد، ويعظم الأجرُ ما امتَثَل المنصوح لها وانقاد، وهي الجِهاد الأكبر الذي تُقاتِل فيه النفوس العواصي، وتُضرَب بها رؤوس الشهوات التي هي أمنع من معاقِد الرؤوس، وبها تنزل أمداد النِّعَم، كما تنزل أمداد النصر.
 
ولو كان مع صحَّة النصيحة سلامةُ طريقها، وعدم اغتِيالها دون وصولها إلى أُذنِ صاحبها، لحصل مقصود الناصح في المنصوح، ولصلَحت البشرية وامتَنَع الفساد.
 

قطاع طريق النصيحة

ولكنَّ الكلام يُظْلَم، كما تُظلَم النفوس؛ بل أشد، وكما أنه لِطُرُق الناس وأموالهم قُطَّاع، فللنصيحة قُطَّاع طريق يعتَرِضون طريقَها، ويمنَعون خيرَها، وهم العقبة الكُبرَى في تخلُّف المصالح أن تتمَّ أو تثبت، وكثيرٌ من الناس إنما يُقلِع عن زلَّتِه حياءً ألاَّ يجد مُوافِقًا إن أقام عليها، مع حبِّه لها، وتمنِّيه العودة إليها، فإنْ وجد مَن يُفسِد على الناصح نُصْحَه، فهذه نعمة النفس التي جاءت بلا مقدار.
 
وكما تَفسد بهم أموالُ الناس فتَفسد دنياهم، فكذلك تَفسد بهم النصائحُ فيَفسد بذلك دينُهم، غلبَتْهم أنفسُهم على ما يظنُّون، ولم يغلبوها على ما يستيقِنون، فتفرَّغوا خَمْشًا لوجه النصيحة، وتكلَّفوا لاستِخراج المعاني السيِّئة، تارَةً بِمُنازَعة الله فيما لا يعلَمه إلا هو؛ ممَّا يقتَضِي معرفة النيات والكشف عن دقائق المقاصد؛ كادِّعاء التنقُّص، والتهويش، والتحريض، وحب الشهرة، وخرق هيبة المنصوح، ويفتَحون أبوابًا من الصدِّ لا يُسأَل عنها أحدٌ، ولا يدلُّ عليها وسواس.
 
وتارةً أخرى بحمْل المتشابه من النصيحة مَحْمَل المحْكم منها، حتى تصل للمنصوح والعامَّة شوهاء سوداء مُظلِمة، تستَوحِش منها النُّفوس؛ بل ربما لو أرجع الناصح بصَرَه إلى نصيحته ونظَر إليها بعينه، لاستَنكَر نفسه، ولامَ لسانه أو قلمه لو قدَّمتُ وأخَّرت، أو قيدتُ وما أطلقت!
 

المانعون للخير

وربما ترجَّح في فكره أن طيَّه لما قال أَوْلَى من نشره، وهؤلاء لا ينبغي الاعتِبَار بهم، ولا الانشِغال بقولهم، فهم المانعون للخير المذكورون في القرآن، والمتربِّصون بالحق، تربَّصوا بالنصائح المحمديَّة حينَما خرجتْ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم حرصًا ألاَّ تصل كما يريد، فنَهاه الله أن يلتَفِت إليهم: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم} [القلم:10-13].
 
ومِن أظهرِ علاماتهم التغافُل عن أهل الفُسُوق والزيغ، فكم أبطَلوا من حق، وكم أفسَدوا من صالح، وكم دبَّروا من مَكِيدة، وكم حبَسُوا من قَوافِل النصائح الصادِقة أن تسير إلى أهلها!
 
وقلوب البشر مَجبُولة على الرغبة والرهبة، والألسنة تابعةٌ للقلوب، كما أنَّ العيون ناطقة عن الضمائر، وفي ذلك يصبح أكثر الناصحين بين أمرَيْن:
 
- إمَّا أن يُحجِم عن نصحه، معتذرًا إلى نفسه بالمفاسد الطارئة على نصحه، وعدم تَمام المقصود منها، فأنْ تحبس النصيحة خيرٌ له من أن تصل على وجهٍ لا يُراد.
 
- وإمَّا أن ينصح وقلبه مُوَزَّع بين إتمام النصيحة وخلوصها، والسلامة من قُطَّاع طريقها، فيدرج في ثَنايا نصحه من الاستِثناءات ما يثقل على السامع، ومن الاحتِرازات ما لا يُحتاج إلى مثله، ومن مَدِيح المنصوح مدحًا يُعِيق السامع عن استِساغة النصيحة، ويحمله على التشكيك في نية الناصح؛ لأن السامع والقارئ لا يرى ما يراه الناصح، فأينما توجَّهتِ النصيحة فلا تبلغ مرادها. حتى أصبح الباحِثُون عن الحقِّ إلى الاختِلاف الشديد، وانتَهَى الأمر بين العامَّة من راغِبِي الإصلاح والمصلِحين إلى التلاوُم والترادُع، ولم يُعجِبهم الإجمال بالاعتِذار أنَّ الناصِح يعرِف ما لم يعرفوا، وفوق كلِّ ذي علم عليم.
 

ميزان النصيحة

والناصحون في ذلك يَتنازَعهم في سلامة ميزان النصيحة خلوصُ القلب لله، مع العلم وسبر الحال ومعرفة المآل، معرفة تَحُول دون أوهام النفس، وتضخيم أمر قُطَّاع طريق النصيحة، أو تهوين شأنهم، والإقدامُ عند الظنِّ أَوْلَى من الإحجام، فكم عُطِّلت النصيحة الواجبة بالظُّنون.
 
وعلى قدر الرَّهبة في القلب ولو كانت متوهَّمة يكون تعطيل حقِّ الله في بذْل النُّصح، ومن أمكن أن يُزَحزَح عن النصيحة الصادقة بأدنى ظنٍّ، ويُحمَل على الباطل بأيسرِ تهويش، فليس ممَّن يكون لقوله قَبول وأثر في الناس.
 
وليكن عمل الناصح لله الذي يسمَع ويرى، وله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرَى، ومَن علَّق نفسَه بالظنون غَدَتْ به يمنةً ويسرةً، وعظم أمر عقله في التوقِّي والحذر، والنص بين عينيه يراه ويسمعه، وليس له على نفسه أثرٌ كأثر عقله وسياسته، فذاك دانَ لعقل قاصر محمول، وما دان لخالق العقل وحامله.
 
وإذا جَمَعت النفسُ أمام الناصح حوادثَ أخذ بحنكته وسياسته فسَلِم، فهي تريد ترويضه ألا يفعل أو يقول؛ لأن النفوس تخلط بين سلامة الدين وسلامة الدنيا، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم لم يَسْلَم له من دنياه مثل ما ذهب منها، وقد سَلِمَ له الدِّين كله، وقد قال الله تعالى عن المنافقين: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة من الآية:50]؛ أي: فرحوا بما ذهبوا إليه من الحنكة والدِّراية، فلم يُصابوا بأذىً مع مخالفتهم لأمر الله، وهو فرحٌ مذموم، وسلامة غير مقصودة، فأمَر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
 
وكثيرًا ما تشغل النفسُ صاحبَها بالنظر إلى سلامة الدنيا عن النظر إلى سلامة الدين؛ فصار كأنَّه لا يرى شيئًا سِواها، ولا ينظر إلا بعينها، وإن نطق باسم الدين ومصلحة الإسلام، فالاسم غير المُسمَّى.
 
وكثيرٌ من الناصحين تصدر نصائحهم عن إيمان، وسلامة قلب، وغيرة خالصة، مع غرارة وغفلة عمَّا أُوتِي مانِعو النصيحة من فجور وحذاقة، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: «المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم».
 
والحاجة متحتِّمة للناصح باليقَظَة والفِطنة، وتَمام الدراية، خاصَّة في زمن يَكثُر فيه المتربِّصون بالحق وأهله، وهذا طريق الأنبياء في الخروج من كيد المتربِّصين: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف من الآية:76]، وكيده كيدٌ مشروع لصدِّ كيدٍ ممنوع، ومع هذا، فغرارةٌ مع إيمانٍ أنفعُ في الدين والدنيا من حذاقةٍ مع فجور.
 
وعلى الناصِح ألا يشغل خاطره بِقُطَّاع طريقِه، ولا يعمل لسانه فيهم، فينشَغِل عن غايته إلى غايتهم، فغايتُهم الانشِغال بهم عن سلوك الطريق، وليعلم أن الثَّواب على قدر المشقَّة، والجزاء على قدر العمل، وله في نبيِّه أسوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب من الآية:21].

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطريفي #النصيحة
اقرأ أيضا
وسائل التلاعب بالجماهير | مرابط
اقتباسات وقطوف

وسائل التلاعب بالجماهير


إن ما يسمى بوسائل الإعلام الجماهيرية كالصحافة والراديو والتلفزيون هي في الحقيقة وسائل للتلاعب بالجماهير وبين يديكم مقتطف من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش يدور حول هذه النقطة وكيف يمكن السيطرة على الشعوب بأساليب لا تميل إلى العنف وإنما إلى شل الإرادة والتحكم في العقول

بقلم: على عزت بيجوفيتش
733
بين منهجين: ابن تيمية والرازي | مرابط
فكر

بين منهجين: ابن تيمية والرازي


الرازي وابن تيمية ليسا مجرد عالمين بينهما اختلاف في بعض المسائل التي يسوغ فيها الخلاف بحيث ينظر إلى أن كلا منهما يحسن ما لا يحسنه الآخر وأن أحدهما إذا أصاب في مسألة أو في جانب من جوانب العلم فإن الآخر قد يكون معه الصواب في مسألة أخرى أو جانب آخر من جوانب العلم وإنما الخلاف بينهما هو في حقيقة الحال امتداد للخلاف بين منهجين متضادين ومدرستين متعارضتين.

بقلم: عبد الله القرني
411
وصف حي لتسليم غرناطة | مرابط
تاريخ

وصف حي لتسليم غرناطة


وفي الثاني من ربيع الأول 897ه كانون الثاني يناير سنة 1492م وفي وقت الصباح تم تسليم المدينة فما أن تقدم النصارى الإسبان القشتاليون من تل الرخى صاعدين نحو الحمراء حتى تقدم أبو عبد الله الصغير وهو يلبس أثواب الهزيمة وعلى وجهه العار والشنار وقال للقائد القشتالي بصوت مسموع: هيا يا سيدي في هذه الساعة الطيبة وتسلم القصور -قصوري- باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها لفضائلهما وزلات المسلمين

بقلم: علي محمد الصلابي
4411
الإنسان في تصوير الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر اقتباسات وقطوف

الإنسان في تصوير الإسلام


الإنسان في تصوير الإسلام هو ذلك الكائن المزدوج الطبيعة المكون من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ممتزجتين مترابطتين غير منفصلتين ومن ثم لا يكون قبضة طين خالصة فيهبط كالجماد أو الحيوان ولا نفخة روح خالصة فيؤله أو يتأله

بقلم: محمد قطب
2491
هم يسمحون لنا فلنسمح لهم | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

هم يسمحون لنا فلنسمح لهم


هم يسمحون لنا ببناء المساجد فلماذا لا نسمح لهم ببناء الكنائس وهم يسمحون للمسلمين بالدعوة إلى الإسلام فلماذا لا يسمح لهم بمثل ذلك وهم يهنئوننا بأعيادنا الدينية فلماذا لا نقابلهم بالمثل ومقولات أخرى تكرر ذات المعنى: كما أن غير المسلمين يفعلون معنا شيئا معينا فلماذا لا نقابلهم بالمثل فنفعل لهم الشيء نفسه في هذا المقال رد على هذه التساؤلات

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2132
الاستبدادان | مرابط
فكر مقالات

الاستبدادان


تجري كلمة الاستبداد على ألسنة كثير من الناس دون دراية بمضمونها أو مفهومها على وجهه الحقيقي حتى أن أحد هؤلاء قد يكون واقعا في معنى من معاني الاستبداد ولكنه لا يدري أو ربما يراه من أسمى معاني الحرية وفي هذا المقال يوضح لنا الكاتب معنى الاستبداد ومفهومه ويفرق لنا بين نوعين من أنواع الاستبداد

بقلم: إبراهيم السكران
2338