لحظة فداء

لحظة فداء | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1520 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

قبل فترة قريبة مرّ بي مشهد مؤثر شعرت معه كأنني توقفت عن التنفس .. وفي لحظات يسيرة طافت بذهني ذكريات قصص كثيرة سمعتها .. هذا المشهد الذي رأيته كأنما قدح شرارة في مخزن الذكريات .. ومازالت تتقافز أمام عيني كل ما أتذكره من قصص ذات صلة بهذا المشهد ..

دعوني أحدثكم أولًا عن هذه الذكريات والقصص التي هجمت علي متزاحمة في لحظات يسيرة.. ثم أروي لكم المشهد المؤثر الذي استثارها..

 

مشاعر الأبوة

من هذه القصص التي تذكرتها قصة أحد الإخوان الذين لي بهم علاقة خاصة، حكى لي مرة أنه كان نازلًا من الدور الثاني في منزله، ويحمل بين يديه بنيّته التي شارفت إكمال الربيعين من العمر، يقول صاحبي: وأنا في وسط درجات السلّم نازلًا عثرت قدمي، فسقطت وبنيتي بين يدي، فوجدتني بشكل تلقائي سريع أنحرف إلى الأرض بالطرف الآخر من جسمي لأداري عن بنيّتي سقوطها على الأرض، وبسبب رفعي لها بكلتا يدي فإني لم أستطع أن أحمي نفسي، فتسبب لي ذلك بكدمات شديدة، وذهبت بنيّتي تكمل لعبها وهي لا تعلم ما الذي جرى لي!
فكنت أتعجب كثيرًا من مشاعر الأبوة هذه التي جعلته بشكل عفوي سريع يؤلم نفسه لتسلم بنيته!

 

مشاعر الأمومة

قصة أخرى مماثلة تذكرتها أمام ذلك المشهد، وهي قصة صاحب آخر حكى لي مرة أنه لا زال يتذكر وهو صغير أنه كان في ليلة من الليالي مريضًا يئن طوال الليل، وأن والدته كانت بجانبه تنظر إليه وتختنق أنفاسها مع كل زفرة من أنينه، وتتوجع له حتى تكاد تخرج روحها من التألم له، ليس هذا كله هو الملفت، وإنما يقول صاحبي أنه كان يسمع والدته -رحمها الله- كانت تتمتم بدعاء وتقول "يا ليته فيني ولا فيك .. يا ليته فيني ولا فيك وأنا أمك".
فكنت أتعجب كثيرًا كيف تتمنى تلك الوالدة الحنونة أن يكون المرض فيها وليس في ولدها، يالمشاعر الأمومة هذه التي لايمكن تخيل مدى فدائها لفلذة كبدها..

 

أحاسيس الأبوة

قصة أخرى شبيهة بما سبق تذكرتها أيضًا أمام ذلك المشهد، يقول لي صاحبي: أنه كان مرة من المرات في غاية الإرهاق ويتضور جوعًا، ولما وصل المنزل طلب من زوجته وجبة هي من أطيب وأشهى الوجبات إلى نفسه، وأخذ يتشاغل بكل شيء ريثما ينتهي إعداد الوجبة، فلما انتهى الأمر ووضع الطبق بين يديه بعد أن كاد يعصره الانتظار، جلس بجانبه طفله الصغير وأخذ يشير إلى الطبق، ثم يشير إلى فمه، وينظر إلى والده، لم يكن الطفل جائعًا بقدر ماهو تطفل الصغار، ومع ذلك فإن هذه التوسلات أنسَت الوالد نفسه وأخذ يلقّم طفله الصغير ونسي نفسه ..
يا للدهشة .. كيف يغيب الإنسان عن نفسه أمام توسلات طفله الصغير .. تلك أحاسيس الأبوة..

 

سبي هوازن

وخير من هذه القصص السابقة، وأشرف وأجل منها، قصة أخرى قفزت لذهني حين كنت أمام ذلك المشهد المؤثر، وهي قصة وقعت أمام النبي وأصحابه في السنة الثامنة للهجرة، وذلك أنه حين جاء سبي هوازن رأى النبي فيه أمًا حنونة ملهوفة تبحث في السبي عن صبيها، ويروي عمر بن الخطاب القصة فيقول:
(قُدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبى، فإذا امرأة من السبى تبتغى إذا وجدت صبيا فى السبى أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله «أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار». قلنا لا والله وهى تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله « لله أرحم بعباده من هذه بولدها » ) [البخاري:5999، مسلم: 7154]
فتعجب النبي –صلى الله عليه وسلم- من شدة لهفة هذه الأم بصبيها حتى كانت تلتقط صبيًا إثر صبي من السبي فتلقمه ثديها !

 

حتى مشاعر الحيوانات

فيا سبحان الله ما أعظم مشاعر الأمومة والأبوة تجاه أطفالهم، وهذا ليس شأنًا مختصًا بالبشر، بل حتى الحيوانات العجماوات تحمل من مشاعر الأمومة الحنونة شيئًا مثيرًا للأحاسيس وكوامن النفوس، ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود أنه قال (كنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فى سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تفرش، فجاء النبى فقال « من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها» ) [سنن أبي داود: 2677]

فانظر كيف كان هذا الطير يفرش جناحيه ويدنوا إلى الأرض مفجوعًا بفراخه، فكيف تكون مشاعر الآدميين تجاه أطفالهم؟!

بل وفي صحيح البخاري أيضًا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الرحمة التي أنزلها الله في الأرض يتراحم بها الخلق قال عن الحيوانات (حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) [البخاري: 6000]

 

لحظة فداء..

المهم .. أن هذه القصص العجيبة الأخاذة المدهشة أخذت تتلاحق أمام عيني بصورة حزينة حين كنت أمام مشهد مؤثر مرّ بي قبل أيام .. أتذكر هذه القصص ثم أعيد التأمل في هذا المشهد الذي استحوذ على أحاسيسي..

أتدري ماهو هذا المشهد المؤثر الذي استثار كل هذه القصص في نفسي يا أخي الكريم؟
إنه بكل اختصار "آية" من كتاب الله كادت تذهب بعقلي وأنا أقرؤها .. فكل ما أعرف من رحمة الأبوة والأمومة بأطفالهم فإنه سيذهب بها هول لحظة مشاهدة النار يوم القيامة فيتمنى الأب العطوف والأم الحنون أن يتخلصوا من هذه النار حتى لو أرسلوا فلذات أكبادهم إليها، يقول الحق تبارك وتعالى في مشهد مرعب:

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) [المعارج: 11]

يا ألله .. يا فرجنا إذا أغلقت الأبواب .. اللهم السلامة السلامة من هذه النار التي أذهبت عقل الوالدين من شدة أهوالها حتى نسوا أغلى الناس إليهم، بل تمنوا أن يكون أولادهم مكانهم ويتخلصوا منها !
أطفالهم الذين كانوا يفدّونهم ويقدّمونهم على أنفسهم، ستأتي لحظة الفداء الكبرى التي تصعق فيها النفوس من شدة الهلع حين تسمع فوران نار يوم القيامة وشهيق لهبها وهي تأكل الناس والحجارة .. وأمام ذلك المشهد فإن الوالد يود لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه!
يا ألله .. إلى هذه الدرجة يصل الهول والرهبة .. يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه..
أمام هذا الذعر المهول تذهب كل تلك الأحاسيس العطوفة .. أي رعب أكثر من هذا الرعب الذي ينسي الوالدين مشاعر الأبوة والأمومة؟! أي مشهد مخيف ذلك الذي ينسي الوالدين فلذات أكبادهم؟!

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) ..

ياربنا السلامة .. السلامة ..

 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/Doat/alsakran/14.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران
اقرأ أيضا
علمنة العلاج النفسي | مرابط
فكر العالمانية

علمنة العلاج النفسي


حتى المعالج المحب لدينه قد يذكر للمريض آيات وأحاديث لرفع معنوياته وإزالة كآبته لكن المعنى المسيطر عنده وعند المريض هو تسخير ذلك كله لدنيا المريض فحسب. بينما النظرة المتوازنة تتطلب أن يجعل هذا البلاء مسخرا لنفع المريض في دينه وآخرته مع الأخذ في الوقت نفسه بأسباب تخليصه من مرضه.

بقلم: د. إياد قنيبي
653
لقاء العظيمين | مرابط
مقالات

لقاء العظيمين


تخيل معي أنه قد اجتمع اليوم أهم رمزين من رموز الفكر العربي أو أهم رجلين من رجال السياسة في في عالمنا العربي أو دع المقترح يكون أكثر مرونة ولنتخيل اجتماعا انعقد اليوم يضم أهم شخصيتين في العالم الإسلامي برأيك وفي تقديرك: ما هو الموضوع الذي تتوقع أن يفتح على طاولة الاجتماع

بقلم: إبراهيم السكران
1077
أهمية اللغة العربية وبعض خصائصها | مرابط
لسانيات

أهمية اللغة العربية وبعض خصائصها


واللغة العربية هي مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي لأن التراث الهائل العربي والإسلامي كله مقيد ومدون بالعربية ولا تخفي قيمة التراث عند الأمم فهو حلقة الوصل بين الأمة وعلمائها وهو الذي يحدد شخصيتها ويرسم ملامحها

بقلم: جامعة أم القرى
725
صورة الفتح الإسلامي في العلم والثقافة | مرابط
اقتباسات وقطوف

صورة الفتح الإسلامي في العلم والثقافة


كان الفتح الإسلامي أكبر حادث علمي لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض فحرر عقولها بالتوحيد وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار والنيران والأخشاب والقسس والأشراف ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض

بقلم: علي الطنطاوي
900
تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات | مرابط
فكر مقالات

تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات


نحن شعوب متخاذلة قد غفلت عن حقيقة الحياة فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها وقتلت فيها مادة النشاط التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض أجل وهذه الشعوب نفسها هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية يتقنها ويستجيدها ويطهرها من أدران البلاء التي تعصف بإنسانية الإنسان كما تعصف الريح بأوراق الشجر فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على...

بقلم: محمود شاكر
1547
قصة العلمانية المؤسلمة | مرابط
مقالات العالمانية

قصة العلمانية المؤسلمة


يستعرض المقال عددا من الرؤى التجديدية في الفكر السياسي كما يعرضها بعض المعاصرين ويفحصها جميعا من خلال مقارنتها ب المضمون العلماني ليكشف عن وجه الاختلاف الذي تفترق فيه هذه الرؤى عن المضمون العلماني حين نفحص هذا الوعاء نجد أن المبادئ العامة أمور كلية فطرية متفق عليها بين جميع الناس فلا وجود لمنظومة فكرية ذات بال تقول إنها ترفض الحرية أو العدالة أو المساواة وإنما الخصومة والنزاع دائما في التفصيلات والتشريعات الجزئية

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2601