قبل فترة قريبة مرّ بي مشهد مؤثر شعرت معه كأنني توقفت عن التنفس .. وفي لحظات يسيرة طافت بذهني ذكريات قصص كثيرة سمعتها .. هذا المشهد الذي رأيته كأنما قدح شرارة في مخزن الذكريات .. ومازالت تتقافز أمام عيني كل ما أتذكره من قصص ذات صلة بهذا المشهد ..
دعوني أحدثكم أولًا عن هذه الذكريات والقصص التي هجمت علي متزاحمة في لحظات يسيرة.. ثم أروي لكم المشهد المؤثر الذي استثارها..
مشاعر الأبوة
من هذه القصص التي تذكرتها قصة أحد الإخوان الذين لي بهم علاقة خاصة، حكى لي مرة أنه كان نازلًا من الدور الثاني في منزله، ويحمل بين يديه بنيّته التي شارفت إكمال الربيعين من العمر، يقول صاحبي: وأنا في وسط درجات السلّم نازلًا عثرت قدمي، فسقطت وبنيتي بين يدي، فوجدتني بشكل تلقائي سريع أنحرف إلى الأرض بالطرف الآخر من جسمي لأداري عن بنيّتي سقوطها على الأرض، وبسبب رفعي لها بكلتا يدي فإني لم أستطع أن أحمي نفسي، فتسبب لي ذلك بكدمات شديدة، وذهبت بنيّتي تكمل لعبها وهي لا تعلم ما الذي جرى لي!
فكنت أتعجب كثيرًا من مشاعر الأبوة هذه التي جعلته بشكل عفوي سريع يؤلم نفسه لتسلم بنيته!
مشاعر الأمومة
قصة أخرى مماثلة تذكرتها أمام ذلك المشهد، وهي قصة صاحب آخر حكى لي مرة أنه لا زال يتذكر وهو صغير أنه كان في ليلة من الليالي مريضًا يئن طوال الليل، وأن والدته كانت بجانبه تنظر إليه وتختنق أنفاسها مع كل زفرة من أنينه، وتتوجع له حتى تكاد تخرج روحها من التألم له، ليس هذا كله هو الملفت، وإنما يقول صاحبي أنه كان يسمع والدته -رحمها الله- كانت تتمتم بدعاء وتقول "يا ليته فيني ولا فيك .. يا ليته فيني ولا فيك وأنا أمك".
فكنت أتعجب كثيرًا كيف تتمنى تلك الوالدة الحنونة أن يكون المرض فيها وليس في ولدها، يالمشاعر الأمومة هذه التي لايمكن تخيل مدى فدائها لفلذة كبدها..
أحاسيس الأبوة
قصة أخرى شبيهة بما سبق تذكرتها أيضًا أمام ذلك المشهد، يقول لي صاحبي: أنه كان مرة من المرات في غاية الإرهاق ويتضور جوعًا، ولما وصل المنزل طلب من زوجته وجبة هي من أطيب وأشهى الوجبات إلى نفسه، وأخذ يتشاغل بكل شيء ريثما ينتهي إعداد الوجبة، فلما انتهى الأمر ووضع الطبق بين يديه بعد أن كاد يعصره الانتظار، جلس بجانبه طفله الصغير وأخذ يشير إلى الطبق، ثم يشير إلى فمه، وينظر إلى والده، لم يكن الطفل جائعًا بقدر ماهو تطفل الصغار، ومع ذلك فإن هذه التوسلات أنسَت الوالد نفسه وأخذ يلقّم طفله الصغير ونسي نفسه ..
يا للدهشة .. كيف يغيب الإنسان عن نفسه أمام توسلات طفله الصغير .. تلك أحاسيس الأبوة..
سبي هوازن
وخير من هذه القصص السابقة، وأشرف وأجل منها، قصة أخرى قفزت لذهني حين كنت أمام ذلك المشهد المؤثر، وهي قصة وقعت أمام النبي وأصحابه في السنة الثامنة للهجرة، وذلك أنه حين جاء سبي هوازن رأى النبي فيه أمًا حنونة ملهوفة تبحث في السبي عن صبيها، ويروي عمر بن الخطاب القصة فيقول:
(قُدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبى، فإذا امرأة من السبى تبتغى إذا وجدت صبيا فى السبى أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله «أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار». قلنا لا والله وهى تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله « لله أرحم بعباده من هذه بولدها » ) [البخاري:5999، مسلم: 7154]
فتعجب النبي –صلى الله عليه وسلم- من شدة لهفة هذه الأم بصبيها حتى كانت تلتقط صبيًا إثر صبي من السبي فتلقمه ثديها !
حتى مشاعر الحيوانات
فيا سبحان الله ما أعظم مشاعر الأمومة والأبوة تجاه أطفالهم، وهذا ليس شأنًا مختصًا بالبشر، بل حتى الحيوانات العجماوات تحمل من مشاعر الأمومة الحنونة شيئًا مثيرًا للأحاسيس وكوامن النفوس، ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود أنه قال (كنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فى سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة فجعلت تفرش، فجاء النبى فقال « من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها» ) [سنن أبي داود: 2677]
فانظر كيف كان هذا الطير يفرش جناحيه ويدنوا إلى الأرض مفجوعًا بفراخه، فكيف تكون مشاعر الآدميين تجاه أطفالهم؟!
بل وفي صحيح البخاري أيضًا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الرحمة التي أنزلها الله في الأرض يتراحم بها الخلق قال عن الحيوانات (حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) [البخاري: 6000]
لحظة فداء..
المهم .. أن هذه القصص العجيبة الأخاذة المدهشة أخذت تتلاحق أمام عيني بصورة حزينة حين كنت أمام مشهد مؤثر مرّ بي قبل أيام .. أتذكر هذه القصص ثم أعيد التأمل في هذا المشهد الذي استحوذ على أحاسيسي..
أتدري ماهو هذا المشهد المؤثر الذي استثار كل هذه القصص في نفسي يا أخي الكريم؟
إنه بكل اختصار "آية" من كتاب الله كادت تذهب بعقلي وأنا أقرؤها .. فكل ما أعرف من رحمة الأبوة والأمومة بأطفالهم فإنه سيذهب بها هول لحظة مشاهدة النار يوم القيامة فيتمنى الأب العطوف والأم الحنون أن يتخلصوا من هذه النار حتى لو أرسلوا فلذات أكبادهم إليها، يقول الحق تبارك وتعالى في مشهد مرعب:
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) [المعارج: 11]
يا ألله .. يا فرجنا إذا أغلقت الأبواب .. اللهم السلامة السلامة من هذه النار التي أذهبت عقل الوالدين من شدة أهوالها حتى نسوا أغلى الناس إليهم، بل تمنوا أن يكون أولادهم مكانهم ويتخلصوا منها !
أطفالهم الذين كانوا يفدّونهم ويقدّمونهم على أنفسهم، ستأتي لحظة الفداء الكبرى التي تصعق فيها النفوس من شدة الهلع حين تسمع فوران نار يوم القيامة وشهيق لهبها وهي تأكل الناس والحجارة .. وأمام ذلك المشهد فإن الوالد يود لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه!
يا ألله .. إلى هذه الدرجة يصل الهول والرهبة .. يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه..
أمام هذا الذعر المهول تذهب كل تلك الأحاسيس العطوفة .. أي رعب أكثر من هذا الرعب الذي ينسي الوالدين مشاعر الأبوة والأمومة؟! أي مشهد مخيف ذلك الذي ينسي الوالدين فلذات أكبادهم؟!
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) ..
ياربنا السلامة .. السلامة ..
المصدر:
http://www.saaid.net/Doat/alsakran/14.htm