لماذا نصلي يا أبي

لماذا نصلي يا أبي | مرابط

الكاتب: د خالد بن منصور الدريس

582 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من الأمور التي يتهاون بها كثير منا؛ الإجابة بأسلوب مقنع عن أسئلة الأطفال الدينية خاصة في مسائل الإيمان، ولبروفسور الرياضيات المسلم "جيفري لانغ" إجابة لطيفة عقلانية ميسرة عن سؤال: لماذا نصلي؟ قد تناسب بعض الأطفال الذين فطروا على كثرة الأسئلة.

أبي.. لماذا نصلي؟

يذكر "جيفري لانغ" أن ابنته "جميلة" ذات السنوات الثمان سألته مرة بعد أن أديا معًا صلاة الظهر: "لماذا نصلي يا أبتي؟"، ويذكر أنه دُهش لسؤالها، ثم قال لها: "نصلي؛ لأن الله يريدنا أن نصلي"، قالت: "ولكن لماذا يا أبي! فماذا يمكن للصلاة أن تفعله؟".

يقول "لانغ": لم أرد أن أضيع الفرصة بمشاركتها رأيها عن تجربة الصلاة ومزاياها الحميدة، قلت لها: "حبيبتي تعلمين أن الله هو مصدر كل المحبة والرحمة والحكمة، وهو مصدر كل الجمال الذي نعيشه ونشعر به. فكما أن الشمس هي مصدر الضوء الذي نبصر من خلاله في النهار، كذلك فإن الله هو مصدر كل هذه الخصال بل أكثر من ذلك بكثير.

وهكذا فالحب الذي أشعر به حيالك أنت وأمك وأختيك هو الحب الذي منحني الله إياه، ونحن نعلم أن الله رؤوف رحيم، وعندما نصلي فإننا نشعر بمحبة الله ورحمته بطريقة خاصة جدًا، وهي الطريقة الأكثر قوة. فمثلًا تعلمين أنني وأمك نحبك وذلك من خلال اهتمامنا بك، ولكن عندما نحتضنك ونقبلك فإن بمقدورك أن تشعري بمدى حبنا لك. وبطريقة مماثلة نحن نعلم بمحبة الله لنا ورحمته بنا من خلال حفظه لنا، وعندما نصلي فإننا نستطيع أن نشعر بمحبته بطريقة خاصة وحقيقية جدًا".

 

هل صلواتك تجعلك أبًا أفضل؟

سألتني ثانية: "ولكن هل الصلاة تجعل منك أبًا أفضل بالنسبة إلينا؟"

قلت لها: "أتمنى ذلك، وأحب أن يكون ذلك؛ لأنك عندما تشعرين بمحبة الله لك ورأفته بك من خلال الصلاة، ويا له من شعور جميل وقوي -أقصد الحب- تشعرين بالحاجة أن تتقاسميه مع كل من هم حولك، وخاصة أسرتك!

أحيانًا وبعد يوم مضن من العمل أشعر بالإرهاق لدرجة أحب أن أخلو فيها بنفسي، ولكن إذا شعرت برحمة الله في صلاتي أنظر إلى أسرتي وأتذكر كيف أنكم نعمة أنعمها الله علي، ومن ثم أشعر بالغبطة والسرور لا لشيء إلا أنني والدكم وزوج أمكم، إنني لا أدعي أنني الوالد المثالي، ولكنني أشعر أنني لن أكون ذلك الوالد الطيب دون صلواتي، بل إن هذه الصلوات تجعل مني أبًا أفضل لكم. والآن هل تجدين يا بُنيتي في إجابتي معنى لسؤالك؟"

ردت جميلة: "أظن أنني أفهم ما تعنيه يا أبتي" ثم عانقتني قائلة: "وأنا أحبك يا أبي". (حتى الملائكة تسأل ص 238-240 بتصرف).

قلتُ في مناسبة سابقة: يجب ألا ننزعج من أسئلة الأطفال المتعلقة بالخالق سبحانه أو بأصول الدين الأخرى، فهي دليل قوي على أن فطرة الإيمان قد تحركت في قلوبهم، فعلينا ألا نقمع تلك الأسئلة بل نرحب بها ونجتهد في تسهيل الأجوبة وتيسيرها بطريقة مناسبة لأعمارهم، وقد نوهت بأن المؤلفات في هذا المجال نادرة جدا، وبعد البحث لم أجد إلا كتابًا واحدًا للدكتور بسام العموش، اعتنى فيه بمساعدة الوالدين والمعلمين في الإجابة عن أسئلة الأطفال العقائدية، وهو جهد مشكور رائد، يستحق أن يطور بمشاركة أساتذة من تخصصات شرعية و تربوية ونفسية؛ ليسهل تعميمه عبر منافذ الإعلام المتعددة، بل حتى على المقررات الدراسية الدينية المخصصة للأطفال، التي لم تزل للأسف تنقصها الكفاءة العصرية المطلوبة.

 

نحتاج بشدة إلى الصلاة!

عندما استعرض "لانغ" أول صلاة صلاها في حياته بعد اعتناقه للإسلام، سجل هذه الانطباعات المهمة وعلينا أن نتذكرك أن المتكلم هنا كان ملحدًا لا يؤمن بوجود الله ويرفض الأديان، فلنقرأ بتركيز وهدوء هذه الكلمات العميقة من شخص خاض تجربة بروفسور أمريكي تحول من الإلحاد إلى الإسلام: "سرت في جسدي موجة من البرد أخذت تشع في مكان ما من صدري، وانتابتني قشعريرة، شعرتُ وكأن الرحمة قد حلت بي لتغمرني حالة من الروحانية والسكينة. انهمرت الدموع فوق وجنتي ووجدت نفسي أبكي بلا توقف، وكلما ازداد بكائي شعرت بقوة هائلة من الرقة والعطف تعانقني، كأن سدًا كبيرًا قد انهار ليفيض منه مخزون هائل من الخوف والغضب، إن رحمة الله تتجاوز مسألة غفران الذنوب لتشتمل على تطهير النفس وغرس السكينة فيها. وعندما توقفت عن البكاء أخيرًا كنت مرهقًا تمامًا، وأدركت أني كنتُ بحاجة ماسة إلى الله وإلى الصلوات"

وقبل أن ينهض بعد تلك الصلاة الأولى توجه إلى الخالق سبحانه بهذا الدعاء المؤثر: "يا رب إذا ما جنحتُ مرة ثانية إلى الكفر بك.. اللهم أهلكني قبل ذلك.. لا أطيق العيش ولو ليوم واحد وأنا منكر لوجودك" (الكتاب السابق ص 234 باختصار).

إن الملحد يعلم يقينًا أن ما بينه وبين خالقه هو حاجز كبير شيده بنفسه، فما إن ينهار ذلك السد الآثم المتكبر المتعجرف إلا وسيجد مع انهياره أنهارًا من الرحمة والسكينة تروي صحراء روحه القاحلة، كغيمة جميلة تمطر في يوم ربيعي تُشبع الأرض بغيثها وترطب نسائم الهواء بنداها، حينها يستعيد الملحد نفسه من قبضة العدم والإنكار الكاذب، لحظتها ولحظتها فقط يكتشف معنى (الإشباع العاطفي)، الذي يجوع البشر إليه بشدة، لقد عبر "لانغ" تعبيرًا جميلًا عن تلك اللحظة الفارقة في حياته عندما صلى أول صلاة بعد إسلامه وابتهل إلى خالقه مقرًا بألوهيته في أول دعاء، هذا المشهد من الصعب جدًا علينا أن ننساه في قصة هذا البروفسور المسلم، نعم من الصعب جدًا أن يُنسى؛ لأنه المشهد المفصلي في القصة ونقطة التحول الكبرى.

 

الصلاة بوصلة المسلم!

يقول "لانغ": إذا كان الهدف الرئيس من حياتنا هو التقرب أكثر فأكثر إلى الله، فإن الصلاة جوهرية من أجل الوصول إلى ذلك الهدف، إنها بوصلة المسلم الروحية، من خلالها يتنبه لتقلباته الإيمانية، إن الصلوات الخمس تعين المسلم على قياس نمائه في الإيمان؛ لأنها مقياس رئيس يومي لدرجة خضوع المؤمن لربه، إن النهوض من الفراش قبل الفجر لأداء الصلاة كل يوم يتطلب تصميمًا كبيرًا، وفي هذا امتحان وتحد لقوة إرادة المسلم وضبطه لنفسه. (الكتاب السابق ص 235 باختصار).

 

المتلذذ بصلاته.. يستنشق عبير الجنة!

ويسطر "لانغ" عبارات أخاذة في وصف مشاعر المسلم حين يستلذ بصلاته، فيقول: "خلال الصلاة هناك لحظات من الحقيقة والإخلاص والصدق والتواضع، ويدرك المسلم من خلالها نور الله وواسع رحمته، إنها مشاعر رائعة الجمال تزيد المسلم تواضعًا، إنها مشاعر من النشوة، ذلك أنك عندما تسجد على الأرض تشعر فجأة كأنك رُفعت إلى الجنة؛ لتتنفس من هوائها، وتشتم تربتها، وتتنشق شذى عبيرها، إنها لحظات من الحب المقدس تغرس في المتعبد شوقًا عارمًا كي يكون قريبًا من الله، وتصبح الآخرة هي هدفه الأساس.

إن حرص المسلمين على صلواتهم؛ لأنهم بحاجة ماسة لها فهي المصدر الأساس لغذائهم الروحي ووسيلتهم الأقوى للتواصل مع الله، فالمسلم الملتزم لا يستطيع أن يخاطر ولو بصلاة واحدة؛ لأنه يعلم أن نمو مركزه الروحي –القلب– يكمن في قدرته على الأداء المستمر والثابت لشعيرة الصلاة، فهي تذكره بهدفه في الحياة، وتعينه على بناء قوته الداخلية.

 

كنتُ كرضيع يستمع لصوت أمه!

وفي عبارات خاشعة تترجم الأحاسيس المخبتة، يقول "لانغ": "في الأيام التي تلت إسلامي كنت أحضر صلاة الجماعة مواظبًا بشكل خاص على الفجر والمغرب والعشاء؛ لأنه يُجهر بقراءة القرآن فيها.

وسألني أحد المسلمين: لماذا تجهد نفسك للمجئ لاسيما وأن القراءة بلغة عربية لا تفهمها؟

فأجبته على نحو فطري بسؤال آخر: لماذا يسكن الطفل الرضيع ويرتاح لصوت أمه؟ صحيح أنه لا يفهم كلماتها، لكن صوتها مألوف له ويُشعره بالسكينة، لقد مرت بي لحظات كنت أتمنى فيها أن أعيش تحت حماية ذلك الصوت للأبد" (الصراع من أجل الإيمان ص 119-120).

هذه المعاني لا يعرف قيمتها ويشعر بها إلا الذين (استلذوا بصلواتهم)، أما الذين لم يعرفوا معنى (أرحنا بها يا بلال) وكانت صلواتهم من قبيل (أرحنا منها) فلن يفهموا هذا الكلام أبدًا أبدًا بل ربما استخفوا به لجهلهم.

إن الذين ذاقوا فعرفوا، سيجدون لكلمات "لانغ" أهمية، أما من لم يذوقوا (لذة الصلاة)؛ فهم عن هذه المعاني محجوبون.

ومن لم يشرب من نهر اللذة الروحية، ولم يستطعمه يومًا في حياته، فأنّى له أن يفهم.. وأنّى له أن يعلم!

هذه المعاني فوق العبارات، بل نطاقها في فضاء ما وراء الكلمات، هي أشياء تعانق الأحاسيس وتُختزن في الخبرات المُدركة، هي تجربة محسوسة لا يمكن أن يتصورها أو يستشعرها إلا من عاشها.

فإن كنتَ ممن لم يختبر هذه اللذة من قبل، فأنت لست حيًا روحيًا!

كما قال القائل: إذا كنا نحيا بالروح، فعلينا أن نسلك طريق الروح!

اللهم إنا نسألك أن تُحيي أرواحنا بذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وألا تجعلنا ممن ماتت "روح" روحه فنسي ربه ونفسه

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الصلاة
اقرأ أيضا
قضية اللغة العربية الجزء الثالث | مرابط
فكر مقالات لسانيات

قضية اللغة العربية الجزء الثالث


قبل كل شيء ينبغي أن نعلم أن حياة هذا العالم العربي الإسلامي كانت تسير على نمط مألوف معروف لا يكاد يستنكره أحد: في العقيدة العامة التي تسود الناس وفي الدراسة في جميع معاهد العلم العريقة وفي التأليف والكتابة وفي حياة الناس التي تعيش بها عامتهم وخاصتهم من تجارة وصناعة كل ذلك كان نمطا مألوفا متوارثا فجاء هؤلاء الخمسة ليحدثوا يومئذ ما لم يكن مألوفا وشقوا طريقا غير طريق الإلف وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل ولكني سأشير إليه في خلال ذكرهم إشارة تعين على تصور موضع الخلاف

بقلم: محمود شاكر
2186
تحدي القرآن وعجز فصحاء العرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تحدي القرآن وعجز فصحاء العرب


على الرغم من تكذيب الكافرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وزعمهم أن القرآن حديث مفترى نسبه محمد إلى ربه لم يستطع أحد أن يأتي بمثله أو يتصدى للتحدي القرآني رغم أن فيهم الفصحاء والبلغاء والشعراء والخطباء وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد افترى فلماذا عجزوا أن يفتروا مثله ولماذا عجزوا أن يأتوا بمثله وهذا تعليق سريع لأبي سليمان الخطابي حول هذا التحدي المعجز

بقلم: أبو سليمان الخطابي
2320
التعرف على الله من خلال آية الكرسي | مرابط
تعزيز اليقين

التعرف على الله من خلال آية الكرسي


تعد آية الكرسي أفضل آية في كتاب الله إذ كل ما فيها متعلق بالذات الإلهية العلية وناطق بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه وهذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وعظمته وجلاله وكماله فهي تدل على أن الله تعالى منفرد بالألوهية والسلطان والقدرة قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة لا يغفل عن شيء في السماوات والأرض

بقلم: علي محمد الصلابي
2101
ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح | مرابط
اقتباسات وقطوف

ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح


ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في...

بقلم: ابن القيم
400
الانفعالات وتكوين النفس البشرية | مرابط
تفريغات ثقافة

الانفعالات وتكوين النفس البشرية


هل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلا أو لا يكون منفعلا؟ الصحيح أن يكون منفعلا لأن الشخص الذي لا ينفعل أبدا ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنونا لا يعي ما حوله أو أنه مدمن مخدرات مثلا فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية

بقلم: محمد صالح المنجد
391
سلوك المسلم في ظل العلم الإجمالي بدين الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

سلوك المسلم في ظل العلم الإجمالي بدين الإسلام


العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه لأنه دائما عرضة للجهالة بما يرد على جزئياته من الشكوك التي لا تنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل ألا ترى أن أكثر الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء ولو كان هذا العلم صحيحا كاملا لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتما

بقلم: محمد رشيد رضا
580