مصارع المغرقين

مصارع المغرقين | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

750 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

حدّث العالم الجليل ابن أبي ذئب  بحديث (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين) فقال له أبو حنيفة: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ قال: فضرب صدري وصاح بي صياحًا منكرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله وتقول تأخذ به! وذلك الفرض علي وعلى من سمعه. (1)

وسأل رجلٌ الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا أي أرض تقلّني وأي سماء تظلّني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به، نعم على السمع والبصر على السمع والبصر. (2)

وقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب. (3)

وقال  وكيع بن الجراح لشخصٍ اعترض عليه بقول أحد التابعين : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. (4)

وروعة هذه النماذج تغري الكاتب بالاسترسال وتشدّ القارئ لطلب المزيد بما يقف القلم معه عاجزًا عن استقصاء أحوالها لأنّها نماذج رائعة مسطّرة بمدادٍ من نور في سجل كافة علماء الإسلام، تكشف خاصيّة التجرّد والتسليم لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالآراء والاجتهادات تتوّقف وتوضع جانبًا حين يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

لم يكن أحد من فقهاء الإسلام يردّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا حتى يتوقّف في ذلك لأي سبب كان، وكلّ  ما وقع من ترك بعض الفقهاء لبعض الأحاديث فإنما كان بسبب عذر خاص به ناشئٍ عن عدم بلوغ الحديث له أو كونه يتأوّله بما يخالف ظاهره، وأما أن يكون أحد منهم قد ترك حديثًا واحدًا  ( تركًا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة). (5)

ولا عجب فالعلماء هم أعظم الناس خشية لله ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) ومن تمام هذه الخشية ولوازمها أن يسلم وينقاد لمن أمره الله تعالى بطاعته والتسليم لكلامه ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله).

هو منهج سار عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة الإسلام وفقهاء المذاهب، غير أنّ ثمّ منهجًا آخر ما زال في نفسه ضعف في كمال التسليم لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع من الشروط والقيود على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما في قلبه من مرض الشكّ وضعف الانقياد،  فبعضهم يضعف في قلبه التسليم لحدّ الزوال حين يلغي اعتبار السنة إطلاقًا من التشريع فلا يؤمن إلا بالقرآن فقط، وهي دعوى مخادعة وإلا فلو آمن بالقرآن حقًا لآمن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاءت بذلك نصوص القرآن، بل وواقع الحال أنهم لا يؤمنون بقطعيات القرآن في القضايا التي تنافي الثقافة العلمانية المعاصرة، فحقيقة الأمر أنه استثقال للتشريع ومحاولة للتخفّف من جزء كبير منه.

وبعضهم يشترط في السنّة أن تكون متواترة لا آحادًا، فيلغي أكثرية سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتقسيمات محدثة لم يعرفها الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وبعضهم يشترط في الآحاد التي يقبلها أن لا تكون في العقائد أو أن تكون في  غير القضايا التشريعية المهمة كمسائل السياسة والحكم ونحوها، والملفت أنّ هذه الشروط التي يضعون تتبخّر حين يكون الحديث في هواهم فتجد من يشترط التواتر يستدل بأحاديث الآحاد ويردّ أحاديث المتواتر، ومن يشترط أن لا تكون في القضايا العقدية أو التشريعية المهمة يستدل ببعض الأحاديث حين تكون موافقة لهواه ويردّ بعض الأحاديث المتواترة ولو كانت في هذه الأبواب المهمة.

وآخرون يشترطون في السنّة أن تكون قطعية الدلالة أو قطعية الدلالة والثبوت أو مجمع عليها بين العلماء أو  لا تكون معارضة للعقل أو المصلحة أو مقاصد الشريعة  .. وخذ ما شئت من هذه الشروط والقيود التي لا تنتهي ولا تتوقّف عند حدّ، بل كلّ ما جاء حديث على خلاف ما تهوى النفوس جاءت هذه الشروط والقيود للتخلّص، وهي صورة منافية للتسليم الذي كان عليها أئمة الإسلام وفقهاؤه الكبار.

إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم سياج واحد، واختراق حديث واحد وترك العمل به بلا  سبب يؤدّي إلى مزيد من التهاون والتساهل بأجزاء أخرى من السنة إلى تعطيل السنّة كلها، وحين يعوّد المسلم نفسه ويعتاد قلبه على وضع الشروط والقيود  لما يقبله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون قد بدأ في شقّ طريقٍ جديدٍ خارجًا به عن جادّة أهل السنة والجماعة فما يلبث أن يزداد انحرافه وشتاته إلى أن يبالي الله في أي أودية الضلالة هلك.

 ولهذا تجد من يضع مثل هذه الشروط لا يجد نفرة أو غضاضة في قلبه من إنكار شيء من السنة ولو بلا سبب لأنّ هذه الشروط لم تأتِ أصلًا إلا من حالة شكّ بأصل ثبوت السنّة فكان التهاون في حديث واحد نابعًا من مرض يسبب التهاون في المزيد من السنة.
لقد كان علماء الإسلام مدركين تمامًا لخطر التهاون ولو بحديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويستحضرون أن ترك حديث واحد بلا عذر خرق يغرق سفينة النجاة لهذا قال نعيم بن حماد: من ترك حديثًا معروفًا فلم يعمل به وأراد له علّة أن يطرحه فهو مبتدع. (6)

إنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل سفينة نوح من ركبها نجا من الغرق ووصل إلى العافية والسلامة التي يريدها، ومن تركها وبحث عن النجاة بطرق أخرى فالغرق والهلاك لا بدّ آتيه ولو بعد حين، ومن لا يقبل السنة إلا بشروط وقيود فقد ركب السفينة  وهو يجتهد في شق خروق في أسفلها وأعلاها فما تبرح به السفينة أن تغرق فلا ينفعه حينها نداء الناصحين (اركب معنا ولا تكن مع المغرقين).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: الرسالة للإمام الشافعي  452-454،  الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص222-223
  2. انظر: الفقيه والمتفقه ص300   
  3. انظر: الفقيه والمتفقه ص301
  4. انظر: الفقيه والمتفقه ص288
  5. رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية ص48
  6. انظر: الفقيه والمتفقه ص299

 

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فهد-العجلان #معركة-النص
اقرأ أيضا
أمنيات التفسير | مرابط
مقالات

أمنيات التفسير


بعض أهل الأهواء يذكر أحيانا آيات يحتج بها على مقتضى هواه وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا التفسير للآية الذي يطرحه مجرد أمنية أكثر من كونه يقين بمعنى الآية فهو في الحقيقة يتمنى فقط أن يكون معنى الآية كما يريد. تأمل في كثير من التفسيرات والتأويلات والتجديدات التي تطرح اليوم للنصوص الشرعية أليس أكثرها مجرد أمنيات تأويلية يعلم ملقيها وكاتبها قبل غيره أنه يتمنى فقط!

بقلم: إبراهيم السكران
348
تجريم التعظيم | مرابط
مقالات

تجريم التعظيم


الغضب لله أصبح في مجتمعات المسلمين مجرما تجرمه القوانين بل ويجرمه كثير من النخب والرموز الدعوية والهيئات الإسلامية حتى صارت ثقافة تجريم التعظيم شائعة في المسلمين وساعد في نشر هذه الثقافة وجود ممارسات سيئة من بعض الجماعات الإسلامية فكردة فعل عليها هرب الناس من رمضاء الغلو إلى نار التهاون في حق الله وحق رسوله وحق دينه وهذا التهاون لا يقل خطورة أبدا عن خطورة الغلو

بقلم: إياد قنيبي
613
لا خير في كثير من نجواهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا خير في كثير من نجواهم


قرأ الإمام اليوم فينا آية انهمرت مع حروفها أمام ناظري كثير من السجالات الفكرية المعاصرة يسكبون ساعات المقاهي في نقاشات فكرية متشعبة تسمع شرارتها الأولى وتغيب البقية وسط الضجيج والله يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فيا ضيعة الأعمار

بقلم: إبراهيم السكران
431
الدعاة.. بين الزينة والوقار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الدعاة.. بين الزينة والوقار


ومهما كان الواعظ شابا متزينا للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين

بقلم: أبو حامد الغزالي
494
شؤم إنكار السنة | مرابط
تعزيز اليقين

شؤم إنكار السنة


من شؤم إنكار السنة: عدم القدرة على إقامة فرائض الدين الكبرى التي أمر الله بها في القرآن كالصلاة والزكاة والحج إذ إن تفصيلاتها وحدودها وأركانها وواجباتها إنما اتضحت عن طريق السنة.ومن جمال إثبات السنة: وضوح العبادات العملية والقدرة على أدائها ببرهان ويقين ووضوح.

بقلم: أحمد يوسف السيد
225
الأصول الفكرية للنسوية: الجنوسة | مرابط
فكر مقالات النسوية

الأصول الفكرية للنسوية: الجنوسة


في هذا المقال استعراض واف لأحد أهم الأصول التي تستند عليها الحركة النسوية بشكل عام وهو الجندر والذي يعبر عن الهوية الجديدة للرجل والمرأة فالتصنيف البيولوجي للذكر والأنثى وطبيعة الخلقة الجنسية لكل واحد منهما لم تعد تعني شيئا بالنسبة للحركة النسوية وإنما هي صناعة مجتمعية مفروض فالمجتمع هو الذي فرض على الذكر أن يكون ذكرا والعكس وأما الجندرية فهي مرتبطة بميول الشخص وأدواره الاجتماعية التي يريدها وفي المقال تفصل لنا الدكتورة وضحى هذا الأساس الأول

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2478