مصارع المغرقين

مصارع المغرقين | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

819 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

حدّث العالم الجليل ابن أبي ذئب  بحديث (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين) فقال له أبو حنيفة: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ قال: فضرب صدري وصاح بي صياحًا منكرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله وتقول تأخذ به! وذلك الفرض علي وعلى من سمعه. (1)

وسأل رجلٌ الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا أي أرض تقلّني وأي سماء تظلّني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به، نعم على السمع والبصر على السمع والبصر. (2)

وقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب. (3)

وقال  وكيع بن الجراح لشخصٍ اعترض عليه بقول أحد التابعين : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. (4)

وروعة هذه النماذج تغري الكاتب بالاسترسال وتشدّ القارئ لطلب المزيد بما يقف القلم معه عاجزًا عن استقصاء أحوالها لأنّها نماذج رائعة مسطّرة بمدادٍ من نور في سجل كافة علماء الإسلام، تكشف خاصيّة التجرّد والتسليم لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالآراء والاجتهادات تتوّقف وتوضع جانبًا حين يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

لم يكن أحد من فقهاء الإسلام يردّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا حتى يتوقّف في ذلك لأي سبب كان، وكلّ  ما وقع من ترك بعض الفقهاء لبعض الأحاديث فإنما كان بسبب عذر خاص به ناشئٍ عن عدم بلوغ الحديث له أو كونه يتأوّله بما يخالف ظاهره، وأما أن يكون أحد منهم قد ترك حديثًا واحدًا  ( تركًا غير جائز فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة). (5)

ولا عجب فالعلماء هم أعظم الناس خشية لله ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) ومن تمام هذه الخشية ولوازمها أن يسلم وينقاد لمن أمره الله تعالى بطاعته والتسليم لكلامه ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله).

هو منهج سار عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة الإسلام وفقهاء المذاهب، غير أنّ ثمّ منهجًا آخر ما زال في نفسه ضعف في كمال التسليم لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع من الشروط والقيود على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما في قلبه من مرض الشكّ وضعف الانقياد،  فبعضهم يضعف في قلبه التسليم لحدّ الزوال حين يلغي اعتبار السنة إطلاقًا من التشريع فلا يؤمن إلا بالقرآن فقط، وهي دعوى مخادعة وإلا فلو آمن بالقرآن حقًا لآمن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاءت بذلك نصوص القرآن، بل وواقع الحال أنهم لا يؤمنون بقطعيات القرآن في القضايا التي تنافي الثقافة العلمانية المعاصرة، فحقيقة الأمر أنه استثقال للتشريع ومحاولة للتخفّف من جزء كبير منه.

وبعضهم يشترط في السنّة أن تكون متواترة لا آحادًا، فيلغي أكثرية سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتقسيمات محدثة لم يعرفها الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وبعضهم يشترط في الآحاد التي يقبلها أن لا تكون في العقائد أو أن تكون في  غير القضايا التشريعية المهمة كمسائل السياسة والحكم ونحوها، والملفت أنّ هذه الشروط التي يضعون تتبخّر حين يكون الحديث في هواهم فتجد من يشترط التواتر يستدل بأحاديث الآحاد ويردّ أحاديث المتواتر، ومن يشترط أن لا تكون في القضايا العقدية أو التشريعية المهمة يستدل ببعض الأحاديث حين تكون موافقة لهواه ويردّ بعض الأحاديث المتواترة ولو كانت في هذه الأبواب المهمة.

وآخرون يشترطون في السنّة أن تكون قطعية الدلالة أو قطعية الدلالة والثبوت أو مجمع عليها بين العلماء أو  لا تكون معارضة للعقل أو المصلحة أو مقاصد الشريعة  .. وخذ ما شئت من هذه الشروط والقيود التي لا تنتهي ولا تتوقّف عند حدّ، بل كلّ ما جاء حديث على خلاف ما تهوى النفوس جاءت هذه الشروط والقيود للتخلّص، وهي صورة منافية للتسليم الذي كان عليها أئمة الإسلام وفقهاؤه الكبار.

إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم سياج واحد، واختراق حديث واحد وترك العمل به بلا  سبب يؤدّي إلى مزيد من التهاون والتساهل بأجزاء أخرى من السنة إلى تعطيل السنّة كلها، وحين يعوّد المسلم نفسه ويعتاد قلبه على وضع الشروط والقيود  لما يقبله من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون قد بدأ في شقّ طريقٍ جديدٍ خارجًا به عن جادّة أهل السنة والجماعة فما يلبث أن يزداد انحرافه وشتاته إلى أن يبالي الله في أي أودية الضلالة هلك.

 ولهذا تجد من يضع مثل هذه الشروط لا يجد نفرة أو غضاضة في قلبه من إنكار شيء من السنة ولو بلا سبب لأنّ هذه الشروط لم تأتِ أصلًا إلا من حالة شكّ بأصل ثبوت السنّة فكان التهاون في حديث واحد نابعًا من مرض يسبب التهاون في المزيد من السنة.
لقد كان علماء الإسلام مدركين تمامًا لخطر التهاون ولو بحديث واحد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويستحضرون أن ترك حديث واحد بلا عذر خرق يغرق سفينة النجاة لهذا قال نعيم بن حماد: من ترك حديثًا معروفًا فلم يعمل به وأراد له علّة أن يطرحه فهو مبتدع. (6)

إنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل سفينة نوح من ركبها نجا من الغرق ووصل إلى العافية والسلامة التي يريدها، ومن تركها وبحث عن النجاة بطرق أخرى فالغرق والهلاك لا بدّ آتيه ولو بعد حين، ومن لا يقبل السنة إلا بشروط وقيود فقد ركب السفينة  وهو يجتهد في شق خروق في أسفلها وأعلاها فما تبرح به السفينة أن تغرق فلا ينفعه حينها نداء الناصحين (اركب معنا ولا تكن مع المغرقين).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: الرسالة للإمام الشافعي  452-454،  الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص222-223
  2. انظر: الفقيه والمتفقه ص300   
  3. انظر: الفقيه والمتفقه ص301
  4. انظر: الفقيه والمتفقه ص288
  5. رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية ص48
  6. انظر: الفقيه والمتفقه ص299

 

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فهد-العجلان #معركة-النص
اقرأ أيضا
غربة الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

غربة الدين


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ففي الحديث يكشف لنا الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعنا الذي نعيش فيه الآن فكما كان أهل مكة والعرب بصفة عامة والعالم أجمع يستغرب الرسالة الإسلامية عند نزولها ويستنكر تعاليمها ويحشد كل الجنود لحرب هذه الدعوة عادت الأيام كما كانت الآن وأصبح عموم الناس الآن يستغرب التعاليم الإسلامية

بقلم: د راغب السرجاني
779
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج4 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج4


ومن علامات وأمارات وأشراط الساعة: تطاول الناس بالبنيان وفيه إشارة إلى الجزئية التي تقدم الإشارة إليها وهي البنيان الذي يعلو جبال مكة أي: يفوقها وربما كان عليها الناس يتطاولون بالبنيان كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله جبريل قال: وما أمارتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان

بقلم: عبد العزيز الطريفي
1131
حقيقة التوكل على الله | مرابط
تعزيز اليقين

حقيقة التوكل على الله


فأما دعوى التوكل مع ترك الأسباب فإنما هي في الحقيقة عجز وكسل وأما الاعتماد على الأسباب دون تفويض الأمور إلى الله وحسن تدبيره أو مع ضعف تفويض الأمور إليه فإنما هو شرك ينافي توحيد الله تعالى إما في أصله وإما في كماله بحسب ما يقوم بقلب العبد من ذلك.

بقلم: عبد الله القرني
337
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
366
في مدح قوائم الكتب | مرابط
فكر ثقافة

في مدح قوائم الكتب


تختصر توصيات الكتب والقوائم المختصة الطريق على الراغب وتحميه من الإحباط الذي يواجهه كثير ممن يغامر في غابة العلوم بلا خارطة حين يكتشف ضخامة الكتب المتاحة وضآلة إمكاناته في قراءتها ماديا أو زمنيا فأنت تحتاج إلى مال قارون وعمر نوح -كما قال بعض الأساتذة- حتى يتسنى لك الإلمام بمطالعة ما يستحق من الكتب والعلوم إلا أن التوصيات والقوائم الحكيمة تخبرك أن أصول العلوم والكتب الجليلة في كثير من العلوم

بقلم: عبد الله الوهيبي
309
هجرة وهجرة | مرابط
مقالات

هجرة وهجرة


الهجرة إلى الله عز وجل من أسمى المعاني الإيمانية ومن أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها العبد إرضاء لله سبحانه وتعالى ومن ثم وعد الله عز وجل الذين هاجروا بأعظم الثواب وأرفع الدرجات فقال سبحانه وتعالى والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون

بقلم: د راغب السرجاني
2245