
ومِن اللهِ إنزالُه، وعليه بيانُه؛ فليس لأحدٍ أن يَجتهِدَ فيه برأيِهِ وهواه؛ قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤]؛ وهذا البيانُ مِن الله، لا مِن غيرِه؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: ١٨ - ١٩]، ولكنَّ البيانَ نُسِبَ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- باعتبارِ بلاغِهِ له؛ وإلَّا فإنَّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مأمورٌ بالاتباعِ لأمرِ الله؛ كما قال الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: ١١٢].
ومَن صَحَّ لسانُهُ العَرَبيُّ، وفَهِمَ لغاتِ العرَب، لم يَحتَجْ إلى تكلُّفٍ وتنطُّعٍ في تأويلِ القرآن؛ فالأصلُ فيه: أنْ يَفهَمَهُ العرَبيُّ عند نزولِه، ولكنْ لمَّا بَعُدَ الزمانُ، وضَعُفَ اللسانُ، احتاج الناسُ إلى الرجوعِ إلى تأويلِ السلَفِ مِن الصحابةِ والتابِعِينَ؛ حتى لا يَحمِلُوا القرآنَ على غيرِ مرادِ الله.
وقد عصَمَ الله نبيَّهُ -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان مفسّرًا للقرآنِ بقولِهِ وفعلِه، ومترجِمًا لمعانِيهِ بحياتِه، وقد كان يتخلَّقُ به، ويقومُ بما أمَرَ الله فيه؛ وقد قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ"، وقد أمَرَهُ الله بتلاوةِ كلامِهِ وبتعليمِهِ للناسِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: ١٦٤]، والحكمةُ هي سُنَّتُهُ؛ فإنَّها لا تتعارَضُ مع القرآنِ لعصمتِهِ -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هي مبيِّنةٌ مفسِّرةٌ له.
وكلُّ ما استقَرَّ عليه فهمُ الصَّدْرِ الأوَّلِ مِن القرآنِ، فهو مرادُ الله فيه؛ لأنَّ اللهَ أنزَلَهُ بلسانِهِمْ لِيَفْهَمُوهُ، ولا يسكُتُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معنًى باطلٍ استقَرَّ في نفوسِهم؛ فهذا يُخالِفُ مقتضَى الرسالة، واللهُ مُطَّلِعٌ على ما في نفوسِهم مِن فَهْم.
ولو عَلِمَ الله أنَّ عامَّتَهم أو أكثَرَهم فَهِموا القرآنَ على غيرِ مرادِ الله، لَأَنْزَلَ اللهُ البيانَ في ذلك؛ لأنَّ هذا مقتضى حفظِ دِينِهِ وتمامِهِ وكمالِه؛ فكمالُ القرآنِ وتمامُ الدِّينِ هو للمعاني كما هو للحروفِ؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: ٣].
ويجبُ الإيمانُ بكلِّ ما جاء في كلامِ الله وكلامِ رسولِه؛ فكلُّ ذلك وحيٌ مِن الله، وقد قرَنَ الله طاعتَهُ بطاعةِ نبيِّه، ومعصيتَهُ بمعصيتِه؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- الآمِرُ بأمرِ الله، الناهي بنهيِه، ولا يخرُجُ عن ذلك؛ فمَن أحبَّ الله، ولم يُطِعْ نبيَّه، فدعواهُ كاذبةٌ؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: ٣١].
ومَن جَهِلَ شيئًا مِن كلامِ الله، وجَبَ عليه السؤالُ عن مرادِ اللهِ عند مَن يَعلَمُهُ مِن الصحابة والتابِعِينَ ومَن سار على نَهْجِهم مِن أهلِ العلمِ؛ وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ في "الجامع": "وَنُصَدِّقُ بِمَا جَاءَنَا عَنِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كِتَابِهْ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَخْبَارِهْ: يُوجِبُ العَمَلَ بِمُحْكَمِهْ، وَنُقِرُّ بِنَصِّ مُشْكِلِهِ وَمُتَشَابِهِهْ، وَنَكِلُ مَا غَابَ عَنَّا مِنْ حَقِيقَةِ تَفْسِيرِهْ، إِلَى الله سُبْحَانَهْ، والله يَعْلَمُ تَأْوِيلَ المُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِهْ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧].
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ مُشكِلَهُ، وَلَكِنَّ الأَوَّلَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ؛ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الكِتَابُ" (١)
المصدر:
عبد العزيز الطريفي، المغربية في شرح العقيدة القيروانية
الإشارات المرجعية:
(١) "الجامع" (ص ١١٤ - ١١٥).