ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قط شعبًا من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات وتملك فيها ملك من المعجمات الضخمة، أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن، فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم نحسن القيام عليها وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة، ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها، وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى، وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز ونحتج بالضعف ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياسًا يحدبه علم اللغة في أصله وفرعه، فما عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ، وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؟ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؟ وفيم تكون المجاذبة والمدافعة، وبمَ يقوم المراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟
إن هذه العربية بُنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدًا عليها فلا تهرم ولا تموت؛ لأنها أعدت من الأزل فَلكًا دائِرًا للنيِّرين الأرضيِّين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر؛ لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع. وأنا أتحدَّى كل أصحابنا الذين أشرت إليهم أن يأتوني بكاتب واحد تنقَّل في منازل البلاغة وأطلق أساليب الكتابة العالية، ثم نزل عنها إلى الركاكة أو المذهب الجديد أو ما شئت من الأسماء ولزمها مذهبًا وجعلها طريقة؛ وهذا التاريخ بين أيديهم، وبعضهم بين أيدي بعض؛ فليأتوني بمثل واحدا أسلِّمْ لهم كل ما في يديَّ من الأدلة على سخفهم وأجعل واحدهم هذا بألف من عندي!
المصدر:
مصطفى صادق الرافعي، تحت راية القرآن، ص25