نساؤنا ونساء الإفرنج

نساؤنا ونساء الإفرنج | مرابط

الكاتب: علي الطنطاوي

279 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

جاءني في البريد كتاب من سيدة فاضلة، لم تصرّح باسمها ولكن أسلوبها نمَّ على فضلها وأدبها، شكت فيه أشياء واقترحت أشياء، وكان مما جاء في كلامها قولها: "وانظر إلى ضيق الحياة التي تحياها المرأة العربية وسعة حياة المرأة الغربية، وقيد هذه وحرية تلك".

فوقفت عند هذه العبارة وفكرت فيها، وعزمت على أن أكتب إليها لأوضّح لها خطأها فيما ذهبت إليه، ثم ذكرت أني لا أعرف اسمها ولا عنوانها. فقلت: أجعلُ جوابها موضوع هذا المقال.

إن ما ظنته هذه السيدة يظنه كثير من السيدات، ولا يعترفن أن ذلك ظن وتخمين بل يرينه يقينًا وفوق اليقين؛ وأصدق جواب على هذا وأخصره لفظًا وأعمقه معنى، ما أجابت به تلك السيدةُ الأميركية الأستاذَ الشيخ بهجة البيطار.

الاستقلال في شؤون المال

حدثني الأستاذ أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة في إحدى محاضراته في أميركا ويذكر أن لها الاستقلال في شؤون المال، لا ولاية عليها في مالها لزوجها ولا لأبيها، وأنها إن كانت معسرة كُلِّف بنفقتها أبوها أو أخوها، فإن لم يكن لها أب أو أخ فأيُّ واحد من أقربائها الذين يرثونها ولو كان ابن عم عمها، وأن هذه النفقة تستمر إلى أن تتزوج أو يكون لها مال، وأنها إن تزوجت كلف زوجها بنفقتها ولو كانت تملك مليونًا وكان عاملًا لا يملك شيئًا ... إلى غير ذلك مما نعرفه نحن ويجهلونه هم عنا. فقامت سيدة أميركية من الأديبات المشهورات فقالت: "إذا كانت المرأة عندكم كما تقول فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم اقتلوني".

وعجب من مقالها وسأل عن حالها؛ فشرحت له حالها وحال البنات هناك، فإذا المرأة الأميركية تبدو حرة وهي مقيدة، وتُرى معززة وهي مهانة. إنهم يعظّمونها في التوافه ويحقرونها في جسيمات الأمور. يمسكون بيدها عند النزول من السيارة، ويقدمونها قبلهم عند الدخول للزيارة، وربما قاموا لها في الترام لتقعد أو فسحوا لها في الطريق لتمر، ولكنهم -في مقابلة ذلك- يسيئون إليها إساءات لا تحتمل.

حال المرأة الغربية

إذا بلغت البنت هناك سن الرشد قبض أبوها يده عنها وسد باب داره في وجهها، وقال لها: اذهبي فتكسّبي وكلي، فلا شيء لك عندي بعد اليوم. فتذهب المسكينة تخوض غمرة الحياة وحدها، لا يبالون أعاشت بجدِّها أم بجسدها، ولا يسألون هل أكلت خبزها بيديها أم بثدييها. وليس هذا في أميركا وحدها، بل هو شأن القوم في ديارهم كلها.

حدثنا أستاذنا الدكتور يحيى الشماع من ثلاث وثلاثين سنة (إثر عودته من دراسته في باريز) أنه ذهب إلى منزل أسرة دلوه عليها ليستأجر غرفة لديها، فقابل وهو داخل إلى الدار بنتًا خارجة منها في عينيها أثر الدمع، فسأل أن ما لها؟ قالوا له: هذه بنتنا، ولكنها انفصلت عنا لتعيش وحدها. قال: إنها تبكي. قالوا: لقد جاءت تستأجر غرفة عندنا فلم نؤجرها. قال: ولِمَه؟ قالوا: لأنها دفعت أجرة لها عشرين فرنكًا، وغيرها يدفع ثلاثين!

وإذا شككتِ في هذه القصة (ومن حقك الشك فيها؛ لأنها -بالنسبة إليك ولكل عربي- شيء يكاد يدخل في باب المستحيل)، إذا شككت فيها فاسألي الدكتور يؤكد لك أنه رآها وسمعها. ولقد قص علينا إخواننا الذين ذهبوا إلى أوربا وأميركا وخالطوا أهلها كثيرًا من أمثالها.

لقد ابتُذِلت المرأة هناك وذلت حتى صارت تبذل ما نراه نحن أعزّ شيء عليها، وهو العرض، في سبيل ما نراه أهون شيء علينا، وهو الخبز!

أما قرأتِ ما كتبه توفيق الحكيم عن الفتاة التي فرضت نفسها عليه وساكنته في الدار وعاشرته معاشرة الأهل (1)، لا تريد من ذلك إلاّ أن تجد سقفًا يكنُّها ومائدة تشبعها، ثم كيف ملّها فطردها؟

إن الفاسق عندنا، الفاسق يا سيدتي، يتبع هو المرأة ويبذل لها الغالي والثمين، لأنه لا يجدها إلاّ بمشقة ولا يصل إليها إلاّ بنصب.

استترت المرأة الشرقية فعزّت، وتمنّعت فطُلبت، وعُرضت الغربية فهانت لأن كل شيء معروض مهان.

كان الشاعر العربي الأول إذا بدا له من المرأة الكف أو المعصم دار رأسه، وثارت نفسه، وامتلأ بالحب جنانه وانطلق بالشعر لسانه؛ ذلك لأنها كانت مستترة مخبَّأة.

انتشار العري وكساد سوق الزواج

أما المرأة الغربية فإن الرجل يرى على الساحل أعلاها وأدناها، فينظر إلى ساقها فلا يثير في نفسه معنى ولا يحرك منه عاطفة ولا يرى فيه حياة. صار ساق المرأة ورِجل الكرسي وخشبة الباب سواء!

ومن هنا كسدت عندهم سوق الزواج. الزواج رباط دائم يرتبط به الرجل مختارًا ليصل إلى إرواء هذه الغريزة؛ هذا هو الدافع الأول إلى الزواج. فلماذا يربط نفسه إذا كان يستطيع أن يرويها وهو طليق (2)؟

الزواج في الشرق والغرب

لقد فقدت المرأة الغربية الزوج، ففقدت المعيل، فاقتحمت كل عمل لتعيش؛ فصارت تعمل في المصنع، وتشتغل في الحقل، وتكنس الطريق من الأقذار! وقد خبّرنا من رأى في أوربا البنات موظفات في المراحيض العامة ينظفنها لمن يريد الدخول (3) ... ومن النساء من تعمل في صبغ الأحذية تتخذ لها صندوقًا وتبقى اليوم كله على أرصفة الشوارع، ومنهن من تحمل في يدها كتابها تستعد بمطالعته لامتحانها، فإذا وقف عليها رجل مد حذاءه إلى وجهها فانحنت عليه واشتغلت به! هذه هي منزلة المرأة في ديار القوم، على حين أن المرأة الشرقية تبقى دائمًا في بيتها، يكد الرجل ويشقى ليطعمها ويكسوها.

وإذا بلغت المرأة عندنا سن الزواج طلبها الرجل وتوسل إليها بالعطية الكبيرة: المهر، يدفعه هو إليها فيكون حقًا لها وحدها لا لأبيها ولا أخيها، وليس لأحد التصرف في شيء منه إلاّ بإذنها. والمرأة الغربية تركض هي وراء الرجل، فتسقط خمسين سقطة قبل أن تصل إليه، وربما سقطت سقطة كان فيها ذهابها وهلاكها. ثم إنْ وجدته لم يتزوجها حتى تتوسل هي إليه بالمبلغ الكبير، حتى تدفع هي له المهر، ثم يكون له الإشراف على مالها يشاركها في التصرف فيه. والمرأة عندنا لها وحدها حق التصرف في مالها.

تقولين: كان هذا من زمان، وقد كسدت عندنا سوق الزواج وكثرت عندنا العوانس. وهذا صحيح، ولكن لِمَ كان؟

محاولات التقليد

كان لأنّا قلدنا الإفرنج فيما يشكون هم منه ويتمنّون البعد عنه. كان لأن المستعمرين وضعوا في نفوسنا -خلال القرن الماضي الذي كنا فيه نائمين وكنا غافلين- أنهم أرقى منا رقيًا وأكثر تقدمًا، وأن ما يفعلونه هو الصواب، فقلدناهم في كل شيء.

ولكن هل يحتمل طبعنا العربي هذا التقليد كله؟

كان العرب أغْيرَ الناس على الأعراض، حتى إنهم وأدوا البنات خوف العار. فهل يتمالك العربي نفسه أن يكون في حفلة فيأتي رجل يقول له: "اسمح لي". يسمح له بماذا؟ لا بأن يريه ساعته، ولا بكبريت يشعل له دخينته، بل يسمح له بأن يأخذ منه زوجته يراقصها، ليضم صدرها إلى صدره ويدني وجهها من وجهه وساقها من ساقه!

ليس في الدنيا عربي يرضى بهذا، ولا يرضى به مسلم، ولا يكاد يرضى به رجل صادق الرجولة. بل إنه لا يرضى بمثله من الحيوانات إلاّ الخنزير!

هذه حال نساء الغرب، فهل نساء الغرب اليوم في خير حتى نبتغي مثل الذي عندهن لنسائنا؟

مشكلات المرأة

لقد عرفتم ما قالت المرأة الأميركية للشيخ بهجة البيطار. ولو نطقت كل ألمانية وكل فرنسية لقالت هذا. إنكم تنقمون من شريعتنا أنها تعطي البنات نصف ميراث الرجال، وتعدد الزوجات. فاسألوا نساء أميركا: أما يقبلن أن يأخذن نصف ميراث الرجل وأن يكلَّف الرجل وحده بالإنفاق عليهن؟ سلوا نساء ألمانيا بعد هذه الحرب: أما يتمنين أن يكون لكل عَشر منهن زوج، يعدل بينهن وينفق عليهن؟

وبم تعالَج مشكلة زيادة النساء في ألمانيا وأمثالها إلاّ بهذا؟ إذا كانت الطبيعة التي طبع الله الناس عليها توجب أن يجتمع النوعان، ما من اجتماعهما بد، ولم يكن إلاّ خمسون رجلًا ومئة امرأة، فهل ثمة إلاّ أن يكون لكل امرأتين رجل؟ أوَليست هذه فطرة الله في أنواع الحيوان كلها؟ كم نسبة الذكور إلى الإناث في النحل وفي الدجاج؟ أوَلا يتخذ الزوج الغربي أربعًا أو أكثر من أربع، ولكن بالحرام؟

أترضون بالثانية خليلة بعقد إبليس ولا ترضون بها حليلة بعقد الله؟!
لا يا سيدتي، لا تظني أن نساء الغرب أسعد عيشًا أو أعز أو أكرم، لا والله، ليس في الدنيا أعزّ ولا أكرم من نسائنا.
إن الزوج عندنا لامرأته لا لخليلة ولا لصديقة، والمرأة لزوجها لا لعاشق ولا لرفيق، له وحده، لا تتكشف لغيره ولا يطّلع عليها سواه.

فهل هذا هو عيبها عند هؤلاء المقلدين؟
هل يريد أحدهم أن تكون امرأته له ولغيره؟
هل يغضب إن تُرك له صحنه ليأكل منه وحده، ولا يرضى حتى يأكل بصحن تقع فيه كل الأيدي؟
أيكون الطهر عيبًا والعفاف عارًا، والخير شرًا والنور ظلامًا؟

حسبنا تفكيرًا برؤوس غيرنا، حسبنا نظرًا بعيون عدونا، حسبنا تقليدًا كتقليد القرود ولنعد إلى أنفسنا، إلى عربيتنا وإسلامنا، إلى طهرنا وعفافنا.

ليصنع نساء الغرب ما شئن وشاء لهن الرجال، فما لنا ولنساء الغرب؟ وليكن نساؤنا كما نريد نحن لهن ويريد الله، لنكون لهن وحدهن، نقنع بهن ولا ننظر إلى غيرهنّ.

ليس في الدنيا نساء خيرًا من نسائنا ما تمسكن بحجابهن، وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق العرب وأحكام الإسلام، وأعراف ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج عائشة وأسماء والخنساء وخولة ورابعة ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأديبات، والأمهات الديّنات الصيّنات اللائي ولدن أولئك الرجال الذين كانوا فرسان الميادين، وكانوا هم فرسان المنابر، وكانوا هم أبطال الفكر، وكانوا هم ملوك المال، وكانوا سادة الدنيا، وكنتن أنتن أمهات أولئك السادة.


الإشارات المرجعية:

  1. إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا، وإعلان المعصية معصية أكبر منها، ولكن هؤلاء الكتاب لا يتّقون الله ولا يستحيون من الناس.
  2. ومن أمثالهم: «إذا استطعت شراء اللبن فلِمَ تشتري البقرة كلها؟»، وصار مقلّدوهم من كتّابنا يسخرون بالزواج. هذا توفيق الحكيم لم يكفِهِ أن عاش بلا زواج حتى ألف أفجر قصة قرأتها هي «الرباط المقدس»، جزاه الله شرًا وقلّل فينا أمثاله.
  3. وقد رأيت ذلك سنة ١٩٧٠ وسنة ١٩٧٦.

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المرأة-المسلمة #المرأة-الغربية
اقرأ أيضا
مسالك الهوى الخفي | مرابط
مقالات

مسالك الهوى الخفي


افرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له. أيكون نظرك إليهما سواء لا تبالي أن يتبين منهما بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته؟. افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما أحدهما يوافق قولا لإمامك والآخر يخالفه. أيكون نظرك فيهما سواء لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف؟.

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
251
منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته ج2 | مرابط
تفريغات

منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته ج2


لقد كان الصحابة يثبتون لله الأسماء والصفات كما أثبتها القرآن والسنة ولذلك نحن نقول: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة وبين يديكم تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ أبو إسحق الحويني يقف فيها على مسألة الأسماء والصفات وعقيدة السلف في ذلك

بقلم: أبو إسحق الحويني
773
كيف نتغلب على حالة هدر الوقت | مرابط
تفريغات ثقافة

كيف نتغلب على حالة هدر الوقت


يجب أن نقول في البداية: إن الواحد منا مهما أبدى من الكفاءة والألمعية في تنظيم وقته والاستفادة منه فإنه لن يستطيع استثماره على نحو تام فالعنصر الروحي الذي يتمتع به الإنسان يفقده المرونة الكافية للعمل المتواصل ولذا فإن طبيعة عمله تظل مغايرة لطبيعة عمل الآلة كما أن الظروف والأحوال المحيطة هي الأخرى تحول دون ذلك ولذا لا بد إذا أن نقنع باستثمار نسبي واستفادة منقوصة

بقلم: د عبد الكريم بكار
438
قدرة الإسلام على نشر الأمن بين الناس | مرابط
تفريغات

قدرة الإسلام على نشر الأمن بين الناس


ولقد أثبتت التجربة والتطبيق العملي أن الإسلام قادر على أن يبث الأمن في المجتمعات التي يحكمها وأن الاتجاه نحو العالم الغربي في قوانينه ونظمه وأخلاقه يجذب القلق والدمار ويضيع الأمن فحكومة عبد العزيز آل سعود هي أصدق حكومة في الجزيرة العربية طبق فيها الإسلام وطبق فيها القرآن وكان الناس في الجزيرة قبل تلك الأيام لا يستطيع أحدهم أن يتحرك من بلده إلى بلد آخر آمنا فقد كان أهل الحاج يودعونه على أنه ليس براجع وكان الإنسان يقتل على بصلة أن المجرم يرى جيب الرجل منتفخا فيقتله ظنا منه أنه مال وهو بصل

بقلم: عمر الأشقر
745
بين المتقدمين والمتأخرين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين المتقدمين والمتأخرين


وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله! ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين

بقلم: ابن رجب
299
دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن


آيات العتاب الواردة في القرآن الكريم وتحليلها يثبت بشكل قاطع أن القرآن الكريم ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما ادعى أولياء الشيطان وإنما هو وحي من عند الله وفي هذا المقال المقتطف للأستاذ محمد عبد الله دراز تحليل وتفصيل لآيات العتاب ودلالتها على مصدرية القرآن

بقلم: محمد عبد الله دراز
2368