هذا مخالف للعلم الجزء الأول

هذا مخالف للعلم الجزء الأول | مرابط

أصل الإشكالية

من المقولات التي شاع استعمالها في العصر الحديث، والتي أدَّت بكثيرٍ من الناس إلى معارضة جملة من الأخبار الشرعية، دعوى مخالفتها للعلم المعاصر، فهي مقولة تشابه إلى حدٍ ما مقولة (لا يقبله العقل)، لكن الفرق أن طرف المعارضة هنا هو العلم بدلًا من العقل، وعند تدقيق النظر في طبيعة من يطلق هذه المقولة، وطبيعة البواعث التي حملتهم على البوح بها، سنجد أنهم ليسوا جميعًا على طبقة واحدة، بل هذه المقولة قد تكون تعبيرًا عن نسخة مخففة من توهم المعارضة بين الدين والعلم، وقد تكون تعبيرًا عن نسخة أكثر عمقًا وخطورة من الإشكال.
 
فبعض الناس ليس لديه موقف إشكالي من الدين ولا من أخباره، فهو يراها مصدرًا لا غنى عنه في تحصيل العلم والمعرفة، لكن وقع في حسه التعارض بين نصٍّ معين وحقيقة علمية معينة، فرأى لزوم تقديم الحقيقة العلمية، ثم قد يدَّعي ضعف النص إن كان قادرًا عليه، أو يتأوله على وجه يسعى من خلاله للتوفيق بين النص والعلم.
وهذا الموقف يحتاج إلى قدر من التحليل والتفكيك، فإجمال القول هنا مظنة الوقوع في الخطأ، بل قد يجر إلى مشكلات خطيرة في إدراك موقع الدين أو موقع العلم من المعرفة، فليس من نصرة الدين السعي في إبطال العلوم مطلقًا، إذ: (ضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه، أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل).
 
وليس هذا أيضًا من إنصاف الدين أو العلم، وقد أمرنا بالإنصاف والعدل، فلا بد من ضبط المنهج الشرعي في علاقة العلم والدين، وهو ما يمكن تحصيله من خلال إدراك المعطيات التالية:

 

المعطى الأول:

 

لا بد من تحرير مفهوم النقل والعلم الذي وقع توهم المعارضة بينهما، فالنقل المقصود هو الوحي كتابًا وسنة، وأما العلم فليس المقصود به مطلق العلم في مدلوله اللغوي، أو حتى في استعماله القرآني أو العرفي في كتب التراث والفلسفة، وإنما يراد به مدلول أكثر ضيقًا من هذه بكثير، والذي يمثل الترجمة العربية التي شاعت للفظة (Science) الإنجليزية، فالعلم وفق هذا الاصطلاح يدل على نمطٍ معين للمعرفة الإنسانية، والتي يمكن تحصيلها عبر منهجيات خاصة تسعى لاستكشاف الطبيعة بمختلف ظواهرها وخصائصها والقوانين الحاكمة لها.

فالعلم وفق هذا المفهوم قاصر على المجال المادي المدرك للحواس، وهو قائم على المنهج التجريبي المعتمد على التجربة الحسية، وهدفه التعرف على الطبيعة وقوانينها. وقد مُيّزَ هذا النمط من العلم عن مطلق العلم بإضافة كلمة الطبيعي أو التجريبي إليه تمييزًا له لئلا يقع الخلط، فقالوا: العلم الطبيعي أو العلم التجريبي.

 

المعطى الثاني:

 

أن كُلًّا من النقل والعلوم الطبيعية يتضمن جزئيات ليست على درجة واحدة من الإحكام والقوة، بل هي متفاوتة في ذلك، فالنقل من جنس الأخبار التي يجب أن يراعى فيها التأكد من ثبوتها، والاطمئنان إلى صحة دلالتها، وبناءً عليه فمن النقل ما هو قطعي في ثبوته أو دلالته، ومنه ما هو دون ذلك، فالقرآن الكريم ثابت كله بطريق القطع، لكن دلالة آياته تتفاوت، فمنها ما هو قطعي لا يتنازع في فهمه، ومنها الظني الذي يمكن أن يقع الاختلاف في دلالته، أما السنة فمنه ما هو قطعي الثبوت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه ما هو دون ذلك، كما أنها تتفاوت أيضًا في دلالتها كذلك.
 
ومثل هذا التفاوت واقع في العلوم الطبيعية التجريبية، فما يدخل في إطارها متفاوت أيضًا تفاوتًا كبيرًا، فهناك فرضيات، ونظريات، وحقائق علمية، وهناك ما يخضع للتجربة الحسية المباشرة، وما يكون من قبيل النماذج التفسيرية للظواهر الطبيعية، فالقطع في العلوم التجريبية إنما يصح فيما كان قائمًا على المعطى الحسي القطعي، ككروية الأرض، وسقوط الأجرام إليها، ووجود الكواكب والنجوم، ونحو ذلك، وأما سعي الإنسان في تقديم نماذج تفسيرية لما يراه من ظواهر فهي دون ذلك في الرتبة، والعلم الطبيعي يصحح نفسه في هذه المجالات باستمرار، ويطور هذه النماذج لتكون أكثر وفاءً لهذه الظواهر.
 
وهذه التفسيرات مع صعوبة القطع فيها إلا أنها تتفاوت قوة، فمنها ما هو أقوى من غيره، ومنها ما لا يتنازع فيه حتى تأتي نظرية أقوى منها لتحتل موضعها.
 
بعد اتضاح ما سبق، نأتي للسؤال المحوري:
هل يمكن أن يقع التعارض بين النقل والعلوم الطبيعية أم لا؟
والجواب:
 
 أما التعارض بين قطعيات النقل وقطعيات العلوم الطبيعية التجريبية فلا يمكن أن يقع، فإن النقل وحي من الله الذي خلق الكون بما فيه، وهو العليم سبحانه بتفاصيل أحوال العالم وسننه، فلا يمكن أن يأتي الوحي بما يخالف شيئًا من قطعيات العلم، وذلك لكمال علم الله وحكمته وصدقه ورحمته، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)، فمن دلائل كون هذا القرآن من عنده تعالى تنزهه عن الاختلاف الداخلي، فلا يوجد في نصوصه تعارض، وتنزهه أيضًا من الاختلاف الخارجي، فلا تأتي نصوصه بما يخالف قطعيات الواقع.

أما إن وجد ما يوهم التعارض بينهما، فإنما هو لخللٍ في تصور طبيعة النقل أو طبيعة العلم، وهو ما يستدعي تدقيقًا فيهما للتعرف على ما كان أقوى في الدلالة فيكون مقدمًا، فالنقل قد لا يكون صحيحًا من جهة الثبوت، أو محكمًا من جهة الدلالة، فإذا كانت المعرفة العلمية قطعية هنا كانت مقدمةً على هذا النقل ولا إشكال، والعكس بالعكس، فإذا كان النقل قطعي الثبوت والدلالة فلا بد أن الإشكال فيما يدعى أنه حقيقة علمية، أما إن كانت دلالة هذا وهذا ظنية فيتطلب ما يرجح كفة أحدهما على الآخر.

 

ولنضرب بعض الأمثلة التي توضح هذه القاعدة:

 

المثال الأول:

 

جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (من حَدَّثَ حديثًا، فعطس عنده، فَهُوَ حَقٌّ). فهذا الحديث يدل على أن ما عُطس عنده من الكلام فهو حق وصدق، فهل هذا يصح في ميزان التجربة والحس؟!

قال ابن القيم رحمه الله: (وهذا وإن صحَّح بعض الناس سنده فالحس يشهد بوضعه، لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله، ولو عطس مئة ألف رجل عند حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بصحته بالعطاس، ولو عطسوا عند شهادة زور لم تصدق). فتأمل كيف جعل ابن القيم مخالفة الحديث للحس والواقع أمارة على بطلان الحديث، وهو الواقع، فالحديث ضعيف جدًا أو موضوع كما نبه إليه غير واحد من أهل العلم. فالتعارض هنا إنما وقع بين الحس القطعي والنقل الضعيف، فالمقدم الحس.

 

المثال الثاني:

 

من الحقائق العلمية المقطوع بها أن الشمس أكبر من الأرض، وأنها لا تزال تشرق وتغرب على أناس، فكيف يوفق بين هذه الحقيقة العلمية وبين قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) والعين الحمئة هي الحارة ذات الطين، فالآية قد توهم بعض قرائها بأن الشمس تغرب في نهاية النهار في عينٍ من الماء، وهو ما يخالف المحسوس من شأنها.

فالإشكال هنا إنما وقع لتوهم أن الآية دلت على أن الشمس تغطس في هذه العين فتغرب فيها، فيقال لمن وقع له هذ التوهم: هل هذه الدلالة من الآية دلالة قطعية محكمة؟ والجواب قطعًا: لا، ولهذا اتفق المفسرون على أن المقصود أنها تغرب في عين الرائي، بمعنى أن من يشاهد الشمس في نهاية النهار يراها كما لو أنها تغرب في عين حمئة، وهذا من سعة من العربية.
فتوهم التعارض هنا نشأ من سوء فهم لدلالة الآية ومقصودها، وإلا فإذا فهمت الآية على وجهها ارتفع الإشكال.

 

المثال الثالث:

 

حديث: (لاَ عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ولا هَامَةَ ولا صَفَرَ، وَفِرَّ من المجْذُومِ كما تَفِرُّ من الأسد). ظن بعضهم أن هذا الحديث ينفي العدوى مطلقًا، ثم قالوا: وما من شك أن المرض ينتقل في ضوء أسباب طبيعية من المريض إلى الصحيح، فيلزم رد هذا الحديث وتكذيبه، والحق أنهم لم يدركوا دلالة هذا الحديث فحملهم سوء الفهم له على رده وتكذيبه.

فليس مقصود الحديث نفي هذه الحقيقة الطبيعية المشاهدة بانتقال العدوى من المرضى للأصحاء، كيف وقد جاء في ذات هذا الحديث: (وَفِرَّ من المجْذُومِ كما تَفِرُّ من الأسد) وهو ما جاء تأكيد معناه في حديث الطاعون المشهور وغيره، وإنما مقصود النبي صلى الله عليه وسلم نفي تصورٍ جاهلي للعدوى، لا نفي كل عدوى، حيث كان بعضهم يعتقد أن هناك كائنات خرافية هي المتسببة في العدوى، أو أن يكون مقصود النبي صلى الله عليه وسلم نفي ما كان يعتقده بعضهم من أن المرض ينتقل بذاته استقلالًا من المريض إلى الصحيح دون تقدير الله تعالى، أو غير ذلك من المعاني الباطلة، فردُّ الحديث قبل استيفاء النظر فيه وفهمه على وجهه سيوقع في إشكالية توهم التعارض.

 

المثال الرابع:

 

حديث: (العين حق)، فقد يتذرع بعضهم بالعلوم التجريبية لرد هذا الحديث، فيقول: إن الاعتقاد بالعين لا يصح في ضوء العلوم الطبيعية المعاصرة، فيُقْدِمُ على رد الحديث أو التشكيك في شأن العين، وهو موقف غير صحيح يكشف عن إشكال في إدراك المنهجية الشرعية الصحيحة في الجمع بين مقتضيات العلم والشرع، فنحن هنا لسنا بصدد تعارض إيجابي بين طرفين يثبت كل منهما معنى يعارض الآخر، بل الوحي مثبت هنا، والعلوم الطبيعية في الحقيقة ساكتة، فعدم إثبات العلم لشيءٍ لا يعني نفيه بالضرورة، وهو أمر مبني على مبدأ عقلي صحيح وهو أن عدم الدليل المعين لا يلزم منه نفي المدلول، وأن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، ففرق كبير بين أن تثبت العلوم الطبيعية عدم صحة ما جاء في هذا الحديث، وبين عجزها عن إثبات صحته أو نفيه، فلا يصح والحالة هذه رد الحديث بدعوى المعارضة إذ لا معارضة في الحقيقة.
 
ومن خلال هذا المثال الأخير ينكشف لك حجم جناية بعضهم حين يتنكر لجملة من الأخبار الشرعية المتعلقة بالجن أو السحر أو المعجزات أو غيرها، بذريعة مخالفتها للعلم، وحقيقة الأمر عند التدقيق أنها معارضة بين ما نجهل ثبوته بالعلم وبين النقل، لا ما نعلم عدمه قطعًا في ضوء العلم، ثم إن العلم المادي يتحرك في مساحة الجانب المادي المحسوس، فكيف يحق له أن يثبت أو ينفي أمرًا يتعلق بغير المجال المادي؟
 
فتأثير الأرواح الشيطانية في السحر والعين هو متعلق بجانب غير مادي، لا يمكن إثباته بالعلم التجريبي ولا يمكن نفيه، لأنه متعلق بجانب خارج عن اختصاصه، وبناءً عليه فلا يصح الاعتماد على دليل مادي لنفي هذا، ومن ينفي بناءً على هذا الدليل فهو في الحقيقة يعتمد على اعتقاد مسبق عنده، وتصورات مستقرة عنده لا تؤمن بهذه الأمور، وليس للعلم التجريبي علاقة بذلك.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص92
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
شبهة حول ميراث المرأة | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف المرأة

شبهة حول ميراث المرأة


أن الميراث له حالات متعددة منها ما تعطى فيه المرأة أكثر من نصيب الرجل ومنها ما تعطى فيه مساوية للرجل ومنها ما ترث فيه الأنثى ولا يرث الرجل ومنها ما يكون نصيبها فيه أقل من نصيب الرجل ولكنهم يجهلون أو يتجاهلون

بقلم: أحمد يوسف السيد
455
لا تقترح .. بل انطرح | مرابط
مقالات

لا تقترح .. بل انطرح


نعم من نظر إلى الكون من حوله فرآه مملكة صاغرة خاضعة في قبضة ملك عظيم مهيمن يدبر أمره بحكمة وإحكام لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء كل من فيه له عبيد ولا يكون في ملكه وسلطانه إلا ما يريد سكنت نفسه واطمأن قلبه وهنأ عيشه واستعذب مرارة الحياة وتذوق الحياة بمذاق عجيب لا يعرفه إلا من جربه!!

بقلم: د. جمال الباشا
759
البناء الأسري: بين الإسلام والعلمانية | مرابط
فكر

البناء الأسري: بين الإسلام والعلمانية


من أهم التحولات التي أتى بها الإسلام في بنية الأسرة أنه جعلها قائمة على أساس تراحمي.. لأن الشريعة نظرت للأسرة بوصفها أهم نظام اجتماعي يضمن فاعلية الأمة وعزتها ولازم هذا الأمر جعلت المعاني المعنوية تقوى ومودة وعشرة ورحمة.. أساس تماسك الزواج بدلا من أولى من النسب والمال ونحوهما.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
392
سددوا وقاربوا | مرابط
اقتباسات وقطوف

سددوا وقاربوا


وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية لكن بكونها خالصة لله عز وجل صوابا على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها فمن كان بالله أعرف وبدينه وأحكامه وشرائعه وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملا بالجوارح

بقلم: ابن رجب الحنبلي
541
الرد على عدنان إبراهيم: فرية تنبؤ النبي أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات

الرد على عدنان إبراهيم: فرية تنبؤ النبي أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام ج1


يدعي عدنان إبراهيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ بأن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سيموت على غير ملة الإسلام واستند في ذلك على ما رواه البلادري وفي هذا المقال فحص وتمحيص لهذه الفرية ورد عليها وبيان ما فيها من أخطاء وأباطيل

بقلم: أبو عمر الباحث
1273
لا تجتمع البدعة مع سنة | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا تجتمع البدعة مع سنة


ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
354