إمكانيات فهم القرآن

إمكانيات فهم القرآن | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

638 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله وبعد،،
أخبرنا الله في كتابه بأن هذا القرآن كتاب هداية للناس، كما قال تعالى (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ) [البقرة:185]. لكن هل هذا كل شيء؟ يعني هل يتفاوت الناس في فهم القرآن بحسب المعايير المادية المحسوسة فقط: الاستعدادات العقلية، المعرفة المسبقة باللغة، الخ؟ أم أن الناس يمكن أن يتفاوتوا –أيضًا- في فهم القرآن بحسب (المؤهلات الإيمانية)؟

 

الحقيقة أنه جاءت إشارات في كتاب الله تؤكد أن المؤمن التقي ينكشف له من معاني القرآن ما لا ينكشف لغيره، كما قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:2]..

 

فبالله عليك قارن بين قوله عن القرآن في أواخر البقرة (هدى للناس) وقوله عن القرآن في أول البقرة (هدى للمتقين) يستبين لك أن هداية القرآن على مراتب، وأن هداية القرآن العامة تكون للناس جميعًا، ولكن يتشرف أهل التقوى بهداية خاصة، فيها قدر زائد من العلم والمعرفة..

 

ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن المعاصي حجاب يحول بين القلب ودقائق القرآن.. فأي حرمان تسببت فيه خطايانا.. غُمّت علينا معاني القرآن الخاصة بسبب غيوم الذنوب.. وهل وراء ذلك من شؤم؟!

 

أَقرأُ القرآن.. وتمر بي الآية.. وأتأملها.. وأشعر أن فيها معانٍ خاصة كلّ بصري أن يراها بسبب ما اقترفته الجوارح.. فيصيبني من الحسرة والألم ما الله به عليم..

 

أَقرأُ الآية.. وأعلم أنه قد تصفحتها عيون الأتقياء قبلنا في عصور مضت، وتنعمت بمعانٍ، وتجلت لها معارف، وتفتحت لها تصورات.. لأنها قلوب تستحق.. فتزداد حسرتي.. وأردد (هدى للمتقين)..

 

وأتذكر قصص السلف التي رويت في تراجمهم، وما ذكر عن تهجدهم بالأسحار، وقيام بعضهم الليل كله بآية يرددها من كتاب الله، وجاء هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي ذر عند النسائي أيضًا..
أتذكر هذه المشاهد من قيام بعض السلف ليلة كاملة بآية واحدة وأقول في نفسي: يا ترى كم هي المعاني التي فتحت لهذا المتهجد في قيام الليل حتى أصبحت قراءة الآية لا تزيده إلا شغفًا بإعادتها!

 

أتخيله وهو يتلوا، ثم يعيدها مرةً أخرى، وكأنما لم يرتوِ منها بعد، فيعيد تلاوتها ويغوص عقله في معانيها.. وتنسكب عليه من معاني الآية ما يحجب عن القلوب المنهكة بخطاياها..

 

أتخيل هذا المتهجد وهو يغص بعبراته، وتضطرب لحيته، في زاوية قصية قد اضطجع الليل على جوانبها.. لا تسمع فيها إلا صوت آية واحدة، لا تنتهي حتى تعود مرةً أخرى..
الآية واحدة والمواجيد أصناف..

 

بل إن الله تعالى جعل في نفس كل مسلم برهانًا على هذه المسألة، وعلى سبيل المثال: تجد المسلم حين يقرأ القرآن وهو في صفاء الصوم، أو خلوة الاعتكاف: ينفتح له من المعاني والتأثر والاهتداء، ما لا ينفتح له وهو يصلي بلا خشوع –مثلًا- ويهذّ قصار السور بهذرمة المستعجلين!

 

بل إن الآية الواحدة ذاتها تقرؤها مرة فتطير بها في أفلاك الإيمان، وتتمنى أن تجد أحدًا تحدثه عن معانيها بانبهار.. وتستغرب كيف فاتت على الناس هذه الآية؟! ثم تقرؤها في حالٍ أخرى ولا تسترعي منك أي انتباه!
الآية واحدة.. لكن القلب استيقظ مرة.. وتغشّاه النعاس أخرى!

 

فإذا كانت النفس الواحدة يتفاوت فهمها بحسب أحوال زكائها، فكيف بالنفوس المتعددة المتباينة في مدارج السلوك إلى الله؟!

القلوب الحية تجري في مضمار المعاني القرآنية.. والقلوب المكبلة بالخطايا ما زالت تزحف في الخطوط الأولى!

 

ويظن بعض المنتسبين للثقافة الليبرالية ممن يقحم نفسه في تفسير النصوص الشرعية أن قدرته على فهم النصوص تساوي أو تزيد على (أهل التقوى).. ولا يستطيع عقله المصنّع خارجيًا أن يستوعب أن أئمة الدين الذين لهم (لسان صدق عام) في الأمة؛ قد منحهم الله قدرًا زائدًا في فهم القرآن والاهتداء به..

 

ويدفعهم إلى هذا التصور محركات مختلفة، منها تشربهم التام للمعايير المادية الحسية، وجهلهم بالمعايير الإيمانية الغيبية..
وأحيانًا يكون هذا الأمر مدفوعًا بما يمكن تسميته (الغرور الثقافي) فهو يشعر أن اعترافه بأن (أهل التقوى) يتمتعون بقدر زائد في فهم القرآن أن هذا يقدح في كبريائه المعرفي، ويخلق تراتبية إيمانية في نطاق العلم ترتطم بأوهام المساواة الأرضية..

 

مثل هؤلاء يحتاجون أن يتدبروا قول الله (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت:44] فانظر كيف أن القرآن واحد، والأثر في الاهتداء به متفاوت، فهو لأهل الإيمان (هدى وشفاء) وهو لمسلوبي الإيمان (وقر وعمى)!

 

ومثل هؤلاء يحتاجون أن يتدبروا قول الله (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء:82] فالقرآن لأهل الإيمان (شفاء ورحمة) ولمن ظلموا أنفسهم (خسارة).

 

وكما أن أهل الإيمان يتفاوتون في إيمانهم، فالهدى والشفاء والرحمة يتفاوت بحسب ما في القلوب من الإيمان.
وكما أن مسلوبي الإيمان يتفاوتون في فجورهم، فالوقر والعمى والخسارة تتفاوت بحسب ما في القلوب من الفجور.

 

وإذا تأملت ظاهرة العلم في كتاب الله، وبشكل أدق مصادر وينابيع العلم؛ وجدت إشارات القرآن لما يؤكد هذا المعنى، فالقرآن في مواضع كثيرة يوضح أن (العلم) ليس بفضل المتعلم، وإنما بفضل الله، تأمل قول الله مثلًا (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) [البقرة:282] وقول الله (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) [المائدة:4] وقول الله (كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:239]، ولاحظ فيها نسبة الأمر إلى معلم آدم ومفهم سليمان سبحانه..

 

بل لاحظ كيف يشير بالفعل المبني للمجهول (أوتوا) إلى المصدر الخارجي للعلم (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت:49] وقول الله (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [النحل:27] واستعمال التعبير (أوتوا) إذا أتى ذكر العلم جاء في مواضع متعددة في كتاب الله.

 

هذه الظاهرة التي نبّه عليها القرآن، ودلّت عليها وقائع الأحوال؛ يمكن استثمار دلالاتها في عدة نطاقات، فمن ذلك:

 

أن المرء إذا مرت به حالٌ إيمانية وشعر بزكاء نفسه وصفاء إيمانه فلينتهز الفرصة وينشر مصحفه ويقرأ كتاب الله ويتدبره، ويتمعن في مضامينه ودلالاته وهداياته، ويستجلي ما وراء الدلالات المباشرة، فكما أن الطالب يختار أصفى الأوقات للمذاكرة، فكذلك المؤمن يختار أزكى لحظاته للتدبر، بل وليدوّن في مثل هذه الحال سوانح المعاني التي تمر به..

 

ومن ذلك أن المحب للعلم والمعرفة الشرعية يضع نصب عينيه أن منزلته في تحقيق العلوم الشرعية وحسن الاستدلال من النصوص مربوط بتقواه لله، وأنه كلما ازداد تقوى وورعًا فإن الله يفتح عليه في تحرير المسائل الشرعية والاستدلال عليها.

 

ومن ذلك أن طالب العلم يراعي في اختيار الشيخ الذي يدرس عليه، أو يعتني بترجيحاته؛ ديانة الشيخ وتقواه ونسكه وورعه، فإن الشيخ التقي العابد يوفق للحق، كما قيل لإمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله: من نسأل بعدك؟ فقال (سلوا عبد الوهاب الوراق، مثله يوفق لإصابه الحق) [بحر الدم لابن عبد الهادي، 103]
فرشح الإمام أحمدُ عبدَ الوهاب الوراق برغم أنه أقل علمًا من بعض أقرانه بسبب أنه أكثر صلاحًا وتقوى منهم، حتى أن الإمام أحمد قال مرة (من يقوى على ما يقوى عليه عبد الوهاب)..

 

وفي هذه المسائل تفاصيل إضافية أخرى تستحق أن تبسط في غير هذا الموضع، كمسألة مصدرية (الإلهام) في مبحث مصادر المعرفة، ومسألة (القلب المعمور بالتقوى إذا تكافأت عنده الأدلة أو انعدمت، فرجح بمجرد رأيه؛ فهو ترجيح شرعي في حقه) ونحو هذه المسائل.

والمراد فقط الإشارة إلى دور (الإيمان) في (العلم)، وأن الإيمان ليس مطلبًا مستقلًا عن العلم لا صلة له به، وأن وسائل العلم ليست محصورة في الوسائل والبرامج الحسية المادية.

 

ولذلك كله قال الله عن القرآن تارة (هُدًى لِلنَّاسِ) وقال عنه تارة (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فالأولى هداية قرآنية عامة يشترك فيها الناس، والثانية هداية قرآنية خاصة يختص بها أهل التقوى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
284
مناظرات أبي حنيفة مع الدهرية | مرابط
مناظرات تعزيز اليقين

مناظرات أبي حنيفة مع الدهرية


كان للإمام أبو حنيفة رضي الله عنه مناظرات مع الدهرية واستطاع أن يرد عليهم ردودا مفحمة تسكتهم وترجعهم عن باطلهم حيث زعموا أن هذا العالم كله ليس له صانع ولا مدبر بل وعمدوا إلى استئصال العقيدة الإسلامية الصحيحة وظهر ذلك في محاولتهم قتل الإمام أبي حنيفة الذي كان سيفا على الدهرية وفي هذا المقال مناظرتان بين الإمام وبين الدهرية

بقلم: أبو علي عمر السكوني والإمام السيوطي
3456
المراحل التي مرت بها الشيعة الرافضة | مرابط
تاريخ فكر مقالات

المراحل التي مرت بها الشيعة الرافضة


الرافضة من أشهر فرق الشيعة ومن أكثرهم غلوا وتطرفا من بين الفرق الأخرى التي تنتسب زورا إلى الإسلام والمقال الذي بين يدينا يوضح لنا الظروف والمراحل التي مرت بها هذه الفرقة وكيف كان بداية أمرها وكيف وصل بها الحال إلى هذه التسمية الجديدة وهذا الفراق بينها وبين الفرق الإسلامية

بقلم: د علي محمد الصلابي
2917
الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل


من الدعوات الهدامة التي انتشرت في بلادنا الإسلامية: دعوة المساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء وكان ذلك نتاج تصاعد الموجة الليبرالية والنسوية والتي وصلت إلى بلادنا وتغلغلت في نفوس المسلمين وفي هذا المقتطف من كتاب حكم الجاهلية يرد الشيخ أحمد شاكر على هذه الدعوة

بقلم: أحمد شاكر
1087
فصل في خدمة المرأة لزوجها | مرابط
مقالات

فصل في خدمة المرأة لزوجها


وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمة البيت فمن المنكر والله تعالى يقول: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف. وقال تعالى: الرجال قوامون على النساء. وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم لها فهي القوامة عليه.

بقلم: ابن القيم
397
كيف تتصرف عندما يعاملك أحد بتقصير؟ | مرابط
تفريغات

كيف تتصرف عندما يعاملك أحد بتقصير؟


وأنت أيها الداعية: كيف تتصرف حينما يتصرف أحد المدعوين نحوك بتقصير أو بكلمة أو بفعل لا يليق؟ أتعاديه وتجانبه وتجفوه أتأمر أصحابك أن يقاطعوه ويهجوه ويهجروه أتتخذ منه موقفا: هو في سبيله وأنت في سبيلك من أجل نفسك إن هذا لا يليق أيها الإخوة.

بقلم: خالد السبت
354