من أخلاق الكبار: ابن هبيرة

من أخلاق الكبار: ابن هبيرة | مرابط

الكاتب: خالد السبت

479 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وخذ هذا المثال الآخر العجيب العالم الوزير ابن هبيرة -رحمه الله- نال العلم، والفقه، والوزارة معًا، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه إذ ذكر مسألة من مفردات الإمام أحمد - يعني أن الإمام أحمد تفرد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة - فقام فقيه من فقهاء المالكية يقال له أبو محمد الأشيري، فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال ابن هبيرة - رحمه الله -: "هذه الكتب" وأحضرها، وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد.

فقال أبو محمد الأشيري: بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس، فقالوا: بل هي من مفردات الإمام أحمد، قال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة، وقال: أبهيمة أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرحون بأنها من مفردات الإمام أحمد، والكتب شاهدة بذلك، ثم أنت تصر على قولك، فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس، هب أنك أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة، أو في مكان الأشيري، ما هو في مجلس علماء، لو كنت أنت، وهذا الإنسان، وليس معكما ثالث، وقال لك: أبهيمة أنت هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي إلى مجلسه، وتحضر معه؟ ثم لو قال لك ذلك أمام الآخرين، هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع إليه؟

فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني جاء الفقيه المالكي، وحضر كأن شيئًا لم يكن، وجاء ابن هبيرة، وجاء العلماء، فأراد القارئ على عادته أن يقرأ، ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له: قف، فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وحملني ذلك على أن قلت له ما قلت، فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فكيف كان أثر هذه الكلمات؟ وهي بالمجَّان لا نخسر عليها شيئًا، تجاوز بس هذه النفس، وتغلب عليها ضج المجلس بالبكاء، وتأثروا جدًا من هذه الأخلاق العالية الرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء، والثناء؛ وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر.

ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول: القصاص القصاص، فتوفق أحد العلماء، وقال: يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير له: حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه: نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي، فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: عليّ بقيت دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة: يعطى مئة دينار لإبراء ذمته، وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة: عفا الله عنك، وعني، وغفر الله لك، ولي، فهل نحن كذلك؟

إذا كنا في مجلس، وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، وقلب يتقطع، ونفس حرقاء حشراء على هذا الإنسان - نسأل الله العافية - كلمات لم يخسر فيها شيئًاـ بل ازداد رفعة، نحن نتحدث عنها بعد قرون، وبعد مئات السنين، ولو أنه بقي مع نفسه، فكيف سيكون حال هذه الصلة، والعلاقة.

ترفعوا أيها الإخوة، وارتفعوا إلى أعلى، وحلقوا، النفس يجذبها الطين، فتجردوا من الأهواء، والحظوظ النفسانية، هذا في مسائل العلم، أما في أمور المعاش، والعلاقات الاجتماعية، والتجارية، وغير ذلك مما يعايشه الإنسان صباح مساء، ولا بد أن يجد فيه ما يجد من تقصير في حقه، ومظلمة، وإساءة، وكلمة لربما لا يتحملها كثير من الناس، فكيف يصنع؟

اسأل نفسك أنت، ولا تبحث في ذهنك، وتذهب إلى إنسان آخر، اسأل نفسك ما موقفك حينما يبلغك أن فلانًا من الناس يتكلم في حقك، ويقع في عرضك، كيف تصنع؟ هل تعزم على عداوته، ومقاطعته؟ الشافعي رحمه الله يوصينا بوصية في هذا المقام يقول إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره بالعداوة، لا تحكم مباشرة، وتتخذ هذا الإجراء فتقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، فالثقة حاصلة متيقنة، وهذا شك عارض، فلا يذهب اليقين بالشك، ولكن القه، وقابله، وقل له: بلغني عنك كذا، وكذا، واحذر أن تسمي له المُبَلِّغ، فإن أنكر ذلك، فقل: أنت أصدق، وأبر، وإذا قال: لا أنا ما قلت، فلا تحصره في زاوية ضيقة كما يفعل بعض الناس، وقل له: أنت أصدق، وأبر عندي، ولا تنقر، ولا تحقق، وتجاوز ذلك.

يقول: وإن اعترف بذلك فقال: نعم أنا قلت، فقبل أن توجه إليه سؤالًا آخر يقول: إن رأيت له في ذلك وجهًا لعذر - يعني أنت قدَّرت له عذرًا - فاقبل منه، وإن لم تر له عذر، فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ ماذا أردت بهذا الكلام الذي قلته في هذا المجلس؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر له لذلك وجهًا من العذر، وضاق عليك المسلك فحينئذٍ أثبتها عليه سيئة، زلة، ثم ماذا؟ خطأ، ثم أنت بعد ذلك بالخيار، إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم لقول الله عز وجل: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" [الشورى: 40]

فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان، فعُدَّها، ثم ابدر له إحسانًا لهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه الثالت بهذه السيئة فإن ذلك الظلم بعينه. لعل القائل هو الإمام الشافعي يوصي بذلك يونس الصدفي: يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل.

والمشكلة أيها الإخوة أحيانًا أن الإنسان يحمل الكلام على أسوأ المحامل، والطرف الآخر لم يعلم بذلك، وهو خالي القلب تمامًا، ولم يخطر له على بال هذه الظنون الأخرى التي ذهب بها فلان؛ ولربما تقطع ذاك غيظًا، وحنقًا، ولم يبت تلك الليلة، والآخر لم يفكر في شيء من ذلك لا في قليل، ولا في كثير، نيته سالمة صحيحة لم يقصد الإساءة، والناس يتفاوتون في هذا، فمنهم من قد يحمل الإحسان - نسأل الله العافية - إلى إساءة، والكلمة الطيبة إلى جرح.

ومنهم من يحمل الكلام الموهم، والمحتمل إلى المحامل السيئة، ومنهم من يحمل الكلام الرديء على أحسن المحامل، والله عز وجل قد فاوت بين الخلق، فكما، وزع بينهم الأرزاق، وزع بينهم الأخلاق، وقد صدق رجاء بن حيوة - رحمه الله - حينما قال: "مَنْ لمْ يؤاخِ إلا مَنْ لا عَيْبَ فِيهِ قَلَّ صَدِيقُهُ، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه" والإنسان ظلوم جهول، ولا بد أن تصدر منه أخطاء، وتقصير، فإذا كان ينقر معك على كل قضية، وكل كلمة، وكل تصرف، فهذا لاشك أنه أمر صعب جدًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-هبيرة
اقرأ أيضا
دراسة السيرة النبوية | مرابط
مقالات

دراسة السيرة النبوية


إن خير ما يتدارسه المسلمون ولا سيما الناشئون والمتعلمون ويعنى به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية إذ هي خير معلم ومثقف ومهذب ومؤدب واصل مدرسة تخرج فيها الرعيل الأول من المسلمين والمسلمات الذين قلما تجود الدنيا بأمثالهم. ففيها ما ينشده المسلم وطالب الكمال من دين ودنيا وإيمان واعتقاد وعلم وعمل واداب وأخلاق وسياسة وكياسة وإمامة وقيادة وعدل ورحمة وبطولة وكفاح وجهاد واستشهاد في سبيل العقيدة والشريعة والمثل الإنسانية الرفيعة والقيم الخلقية الفاضلة.

بقلم: محمد أبو شهبة
352
زهد أبي ذر الغفاري | مرابط
مقالات

زهد أبي ذر الغفاري


حدثنا عبد الله حدثنا محمد بن عبد بن حسان حدثنا جعفر يعني ابن سليمان عن رجل قد سماه عن شهر بن حوشب عن عائذ الله عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما استقللتم على الفرش ولا تمتعتم من الأزواج ولا شبعتم من الطعام ولخرجتم إلىالصعدات تجأرون إلى الله عز وجل فكان أبو ذر إذا حدث هذا الحديث يقول: يا ليتني شجرة تعضد

بقلم: أحمد بن حنبل
1733
تحرير العقول من التفكير الخاطئ | مرابط
تفريغات

تحرير العقول من التفكير الخاطئ


يعطيك صاحب الفكر المتصلب انطباعا بأن لديه جوابا لكل سؤال والسبب في ذلك أن ممارسته للمشاركة في التحدث قائمة على عدد قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحددة فهو يحفظها عن ظهر قلب ويسارع إلى استخدامها في محاوراته وليس عنده أي مشكلة نحو الآثار التي تترتب على عدم صوابها إنه موقن بها وليس بحاجة إلى سماع رأي الآخرين فيها

بقلم: د عبد الكريم بكار
661
باطل مشرق | مرابط
فكر مقالات

باطل مشرق


وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام فنسبت إليه ووصفت به تعيش اليوم في بريق متلالئ من هذا الباطل المشرق فمنذ أكثر من مائتي سنة ضربها الغازي الصليبي المستعمر ضربة رابية حتى خرت عاجزة ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت وفي خلال ذلك كان الغازي يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون وكذلك يقضي قضاء ساحقا على أسباب الحياة الأولى الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية

بقلم: محمود شاكر
1781
قيمة الدنيا عند المسلم | مرابط
تفريغات

قيمة الدنيا عند المسلم


فنحن مطالبون بأن نعمل وأن نعمر هذه الدنيا ما استطعنا بخير لكن مطالبون كذلك بأن لا نغتر بها وأن نعلم أنها ليست دار بقاء ومن هنا فالتعامل الصحيح مع هذه الدنيا أن يجعلها الإنسان في يده ولا يجعلها في قلبه فإنه إن جعلها في يده كان بالإمكان أن يستفيد منها وأن يتصرف فيها وأن يبعد قذرها عن نفسه وإن جعلها في قلبه ملكته وكان وعاء لها وخادما لها ولم يفته شيء من أقذارها وأكدارها.

بقلم: محمد الحسن الددو الشنقيطي
330
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات المرأة

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الثاني


ومعنى غض البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة والوقوع في فساد ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر ولا يتبعوا النظرة بأخواتها وهل يستطيع أحد صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غض أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضوا من حولها والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات تنهى أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة

بقلم: محمد الخضر حسين
1810