من أخلاق الكبار: ابن هبيرة

من أخلاق الكبار: ابن هبيرة | مرابط

الكاتب: خالد السبت

378 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وخذ هذا المثال الآخر العجيب العالم الوزير ابن هبيرة -رحمه الله- نال العلم، والفقه، والوزارة معًا، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه إذ ذكر مسألة من مفردات الإمام أحمد - يعني أن الإمام أحمد تفرد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة - فقام فقيه من فقهاء المالكية يقال له أبو محمد الأشيري، فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال ابن هبيرة - رحمه الله -: "هذه الكتب" وأحضرها، وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد.

فقال أبو محمد الأشيري: بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس، فقالوا: بل هي من مفردات الإمام أحمد، قال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة، وقال: أبهيمة أنت؟ أما تسمع هؤلاء العلماء يصرحون بأنها من مفردات الإمام أحمد، والكتب شاهدة بذلك، ثم أنت تصر على قولك، فتفرق المجلس، فهب أنك في هذا المجلس، هب أنك أحد الطرفين في مكان ابن هبيرة، أو في مكان الأشيري، ما هو في مجلس علماء، لو كنت أنت، وهذا الإنسان، وليس معكما ثالث، وقال لك: أبهيمة أنت هل ستلقاه بعدها؟ هل ستأتي إلى مجلسه، وتحضر معه؟ ثم لو قال لك ذلك أمام الآخرين، هل تنام تلك الليلة؟ هل تفكر بالرجوع إليه؟

فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني جاء الفقيه المالكي، وحضر كأن شيئًا لم يكن، وجاء ابن هبيرة، وجاء العلماء، فأراد القارئ على عادته أن يقرأ، ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له: قف، فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وحملني ذلك على أن قلت له ما قلت، فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فكيف كان أثر هذه الكلمات؟ وهي بالمجَّان لا نخسر عليها شيئًا، تجاوز بس هذه النفس، وتغلب عليها ضج المجلس بالبكاء، وتأثروا جدًا من هذه الأخلاق العالية الرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء، والثناء؛ وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر.

ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول: القصاص القصاص، فتوفق أحد العلماء، وقال: يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير له: حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه: نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي، فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: عليّ بقيت دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة: يعطى مئة دينار لإبراء ذمته، وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة: عفا الله عنك، وعني، وغفر الله لك، ولي، فهل نحن كذلك؟

إذا كنا في مجلس، وحصلت قضية مثل هذه كيف ستكون نتائجها؟ عداوة إلى يوم الدين، وقلب يتقطع، ونفس حرقاء حشراء على هذا الإنسان - نسأل الله العافية - كلمات لم يخسر فيها شيئًاـ بل ازداد رفعة، نحن نتحدث عنها بعد قرون، وبعد مئات السنين، ولو أنه بقي مع نفسه، فكيف سيكون حال هذه الصلة، والعلاقة.

ترفعوا أيها الإخوة، وارتفعوا إلى أعلى، وحلقوا، النفس يجذبها الطين، فتجردوا من الأهواء، والحظوظ النفسانية، هذا في مسائل العلم، أما في أمور المعاش، والعلاقات الاجتماعية، والتجارية، وغير ذلك مما يعايشه الإنسان صباح مساء، ولا بد أن يجد فيه ما يجد من تقصير في حقه، ومظلمة، وإساءة، وكلمة لربما لا يتحملها كثير من الناس، فكيف يصنع؟

اسأل نفسك أنت، ولا تبحث في ذهنك، وتذهب إلى إنسان آخر، اسأل نفسك ما موقفك حينما يبلغك أن فلانًا من الناس يتكلم في حقك، ويقع في عرضك، كيف تصنع؟ هل تعزم على عداوته، ومقاطعته؟ الشافعي رحمه الله يوصينا بوصية في هذا المقام يقول إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره بالعداوة، لا تحكم مباشرة، وتتخذ هذا الإجراء فتقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، فالثقة حاصلة متيقنة، وهذا شك عارض، فلا يذهب اليقين بالشك، ولكن القه، وقابله، وقل له: بلغني عنك كذا، وكذا، واحذر أن تسمي له المُبَلِّغ، فإن أنكر ذلك، فقل: أنت أصدق، وأبر، وإذا قال: لا أنا ما قلت، فلا تحصره في زاوية ضيقة كما يفعل بعض الناس، وقل له: أنت أصدق، وأبر عندي، ولا تنقر، ولا تحقق، وتجاوز ذلك.

يقول: وإن اعترف بذلك فقال: نعم أنا قلت، فقبل أن توجه إليه سؤالًا آخر يقول: إن رأيت له في ذلك وجهًا لعذر - يعني أنت قدَّرت له عذرًا - فاقبل منه، وإن لم تر له عذر، فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ ماذا أردت بهذا الكلام الذي قلته في هذا المجلس؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر له لذلك وجهًا من العذر، وضاق عليك المسلك فحينئذٍ أثبتها عليه سيئة، زلة، ثم ماذا؟ خطأ، ثم أنت بعد ذلك بالخيار، إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى، وأبلغ في الكرم لقول الله عز وجل: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" [الشورى: 40]

فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان، فعُدَّها، ثم ابدر له إحسانًا لهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه الثالت بهذه السيئة فإن ذلك الظلم بعينه. لعل القائل هو الإمام الشافعي يوصي بذلك يونس الصدفي: يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب، ومفارقته سهل.

والمشكلة أيها الإخوة أحيانًا أن الإنسان يحمل الكلام على أسوأ المحامل، والطرف الآخر لم يعلم بذلك، وهو خالي القلب تمامًا، ولم يخطر له على بال هذه الظنون الأخرى التي ذهب بها فلان؛ ولربما تقطع ذاك غيظًا، وحنقًا، ولم يبت تلك الليلة، والآخر لم يفكر في شيء من ذلك لا في قليل، ولا في كثير، نيته سالمة صحيحة لم يقصد الإساءة، والناس يتفاوتون في هذا، فمنهم من قد يحمل الإحسان - نسأل الله العافية - إلى إساءة، والكلمة الطيبة إلى جرح.

ومنهم من يحمل الكلام الموهم، والمحتمل إلى المحامل السيئة، ومنهم من يحمل الكلام الرديء على أحسن المحامل، والله عز وجل قد فاوت بين الخلق، فكما، وزع بينهم الأرزاق، وزع بينهم الأخلاق، وقد صدق رجاء بن حيوة - رحمه الله - حينما قال: "مَنْ لمْ يؤاخِ إلا مَنْ لا عَيْبَ فِيهِ قَلَّ صَدِيقُهُ، ومن لم يرض من صديقه إلا بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه" والإنسان ظلوم جهول، ولا بد أن تصدر منه أخطاء، وتقصير، فإذا كان ينقر معك على كل قضية، وكل كلمة، وكل تصرف، فهذا لاشك أنه أمر صعب جدًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-هبيرة
اقرأ أيضا
حجية الظن في ثبوت الأخبار | مرابط
أبحاث

حجية الظن في ثبوت الأخبار


فبعض الناس يتعامل مع اليقين-القطع-العلم كدرجة واحدة كأنه الدرجة المائة في النسبة المئوية فإذا وصفنا نوعا معينا من الأدلة باليقيني أو أنه يفيد العلم فهو الدرجة ١٠٠ ويلزم أن كل ما دونه لا يفيد العلم ولا اليقين ولو كان درجة ٩٩ والحقيقة أن اليقين يتفاوت وليس على درجة واحدة فتحقق أعلى درجات اليقين في نوع من الأدلة لا يعني بالضرورة أن كل ما دونه من الأنواع قد خرج من دائرة إفادة العلم واليقين

بقلم: معتز عبد الرحمن
259
سبيل السعادة على أيدي الرسل | مرابط
اقتباسات وقطوف

سبيل السعادة على أيدي الرسل


لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم.. فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به. فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.

بقلم: ابن القيم
186
سلطة التليفزيون | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

سلطة التليفزيون


إن الأطفال اليوم فظون في تعاملهم مع بعضهم البعض إذا كانوا لا يعرفون معنى الرحمة إذا ما كانوا يستهزئون بالضعفاء ويحتقرون من في حاجة للمساعدة فهل هذا يعود إلى ما يشاهدونه في التليفزيون في الحقيقة يحتل الفقراء والمساكين الشاشة الصغيرة بشكل نادر وعندما يظهرون على الشاشة فهم يقدمون في الغالب الأعم بشكل مثير للسخرية ففي التليفزيون مفتاح السعادة هو الثروة إذ نقدر الأغنياء الذين يعيشون في بيوت فخمة ويتنزهون في السيارات الليموزين اللامعة

بقلم: جون كوندري
380
عظمة الإرث في الإسلام والرد على المشككين ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

عظمة الإرث في الإسلام والرد على المشككين ج1


فقبل أن نتكلم عن هجمة الغرب على أحكام الإرث في الإسلام لا بد أن نعرف تاريخ المرأة مع الإرث في المجتمعات والأديان الأخرى فقد كانت حالتها حالة مؤلمة كانت المرأة لا ترث في اليهودية عند وجود إخوة لها من الذكور وعند الصينيين واليابانيين لا ترث شيئا فيما مضى وعند النصارى لا يحق لها أن تملك المال بصفة مستقلة وكانت بعض القوانين الأوروبية إلى وقت قريب لا تورث المرأة وهذه المحاضرة فيها استعراض لعظمة الإرث في الإسلام واستعراض سريع لأبرز الشبهات المثارة حول ذلك

بقلم: فهد بن سعد أبا حسين
378
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج3 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج3


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
1162
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج3


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
599