الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

1983 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأصل السادس: أن الكمال الإلهي يستحيل على المخلوق الإحاطة به:

 

ومعنى هذا الأصل: أن المؤمنين مع إيمانهم بثبوت الكمال المطلق لله، فإنهم في الوقت نفسه يؤمنون بأنه يتعذر عليهم الإحاطة بما ثبت لخالقهم من كمال وجلال. وإيمانهم بهذه الحقيقة ليس قضية عاطفية أو تسليمية مجردة، وإنما هو قائم على أصول وجودية وعقلية يقينية، توجب عليهم الإقرار بالعجز عن العلم بكمال الله وقدرته، ومن تلك الأصول:
 
 
الأول: أن الناس لم يدركوا ذات الله تعالى، ولم يعرفوا حقيقتها، فكيف يمكنهم أن يعرفوا ما يتعلق بها من الكمال والجلال؟ فمن المعلوم في العقل أن العلم بالصفات تابع للعلم بالذات، فإذا كنا لا نعلم حقيقة ذات الله فإننا بالضرورة لا نستطيع أن نعلم حقيقة صفات الله وكنهها (1)

 

الثاني: أن الناس لم يستطيعوا إدراك تفاصيل الكون، وعجزوا عن الإحاطة بمكوناته المتسعة، وقد تواترت مقالات العلماء التجريبيين وغيرهم في الإقرار بأن الكون ما زال مليئًا بالأسرار والألغاز، وأن الإنسان مع تطوره الكبير لم يدرك إلا قدرًا ضئيلًا جدًا منه (2)

 

فإذا عجز الناس عن الإحاطة بالكون الذي هو فعل من أفعال الله، فكيف يمكنهم أن يحيطوا علما بالخالق وبكماله وجلاله؟ فعجزهم عن البلوغ إلى ذلك أشد وأبعد وأظهر في بدائه العقول.

 

الثالث: أن الشخص لا يستطيع أن يحيط بكل العلوم الإنسانية، ولا يقدر على إدراكها، وإنما يعتمد في كثير من تفاصيل حياته على التسليم لأقوال الخبراء والعلماء، ويأخذ بذلك وهو مطمئن النفس ساكن القلب، ويعد العقلاء سلوكه هذا متوافقًا مع العقل، ومتسقًا مع الفطرة والواقع الإنساني.

 

ولو ان شخصًا قصد إلى الخروج عن هذا النهج، وقرر أن لا يأخذ بشيء في حياته إلا إذ علم بنفسه تفاصيل كل ما يتعلق به، لكان خارجا عن نهج العقلاء، داخلًا في مسالك الجنون والسفسطة.

 

فإذا كان هذا هو حال المخلوق مع علم المخلوقين أمثاله، فكيف يمكن أن يكون حاله مع علم الله وكماله وحكمته؟ فإنه لا محالة سيكون أكثر عجزًا عن إدراك تفاصيله، وأبعد عن الإحاطة بحكمته، وسيكون تطلبه لذلك أكثر جنونًا وأعمق في أودية السفسطة السحيقة (3)

 

إن مثل من يعترض على علم الله وحكمته في الون ويتطلق العلم بها كمثل رجل قرر أن لا يسلم بأخذ شيء في حياته إلا بعد أن يعلم بكل تفاصيله المتعلقة به، فمرض، فلما ذهب به أبناؤه إلى الطبيب، قال له: لن آخذ بأي وصفة طبية تذكرها لي حتى أعلم بكل التفاصيل التي انطلقت منها في وصفك لها، فذكر له الطبيب أن طلبه هذا غير مقبول في العقل ومناف لطبيعة العلم الإنساني الخاضع للتخصصات، فرفض الانصياع لقوله وخرج من عنده، فلما قرب أبناؤه له السيارة، رفض أن يركبها حتى يعلم بكل التفاصيل التي شكلت على وفقها، فذكر له أبناؤه أن هذا غير معقول؛ لكون ذلك يتطلب وقتًا وجهدًا لا يمكن توفره في ساعتهم.

 

فرفض قبول تبريرهم وذهب إلى بيته ماشيًا، فلما أراد الدخول توقف، وقال: لا يمكن أن أدخل البيت حتى أعلم بكل التفاصيل التي بني على وفقها، فذكر له أبناؤه أن ذلك متعذر في حالتهم التي هم عليها، فرفض قبول قولهم وجلس تحت الشجرة،  فلما قدم له أبناؤه الطعام والشراب، رفض أن يأكل شيئًا حتى يعلم بكل التفاصيل المتعلقة بذلك الطعام والشراب، فذكر له أبناؤه أن تحصيل ذلك متعذر في حالتهم، فرفض قبول تبريرهم وبقي جائعًا.

 

لا جرم أن هذا الرجل خارج عن مسالك العقلاء، وغارق في متاهات الجنون والغباء، ولن تكون نهاية حياته إلا إلى الفساد والفناء.

 

ومقتضى هذا التقرير أنه لا يصح في العقل ولا في المنطق أن يعترض الإنسان على أفعال الله وتدبيره للكون، ولا يحق له أن يجعل نفسه مضادًا لله تعالى، وإنما غاية ما يمكن فعله أن يتساءل عن أفعال الله، فإن عجز عن فهمها وإدراك حكمتها فإنه يجب عليه التسليم والإذعان لخالقه سبحانه.

 

وقد تفنن علماء الإسلام في مناقشة هذه القضية وتجليتها للعقل، ومن أولئك: ابن القيم، حيث يقول:

 

"لعلك أن تقول: ما حكمة هذا النبات المبثوث في الصحاري والقفار والجبال التي لا أنيس بها أو ساكن، وتظن أنه فضلة لا حاجة إليها ولا فائدة في خلقه. وهذا مقدار عقلك ونهاية علمك، فكم لباريه وخالقه فيه من حكمة وآية، من طعم وحش وطير ودواب، مساكنها حيث لا تراها، تحت الأرض وفوقها، فذلك بمنزلة مائدة نصبها الله لهذه الطيور والدواب، تتناول منها كفايتها ويبقى الباقي، كما يبقى الرزق الواسع الفاضل عن الضيف لسعة رب الطعام وغناه التام وكثرة إنعامه" (4)

 

فهذه الأصول الستة هي من أهم الأصول الكلية الإيمانية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله والتصديق بكماله المطلق، ويستند إليها خضوع المؤمن لربه وخالقه، وبظهورها ينجلي بأن الإيمان بالله تعالى ليس تصديقًا قلبيًا مجردًا، ولا هو مجرد عاطفة نفسية، وإنما هو رؤية حياتية واضحة متكاملة، قائمة على أصول وجودية وعقلية وفطرية قطعية بينة.

 

ولا يحق لأي أحد يعترض على إيمان المؤمنين بربهم أن يغفل عن تلك الأصول، أو يتعامى عنها، ويجب على كل مؤمن يقصد إلى محاورة الناقدين للأديان استحضارها وإظهارها، وبيان مستنداتها في كل مراحل الحوار ومشاهده، فظهورها كفيل بحل المشكلات الكثيرة التي يوردها الناقدون، وفك الشبهات العديدة التي يتمسكون بها

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 128/6
  2. انظر: الفصل الثاني، من الباب الثاني، عند الحديث عن نقد النزعة العلموية (من كتاب ظاهرة نقد الدين لسلطان العميري)
  3. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 128/6 وحقيقة التأويل، المعلمي، ضمن آثاره الكاملة 26/6
  4. مفتاح دار السعادة 323/1

 

المصدر:

  1. د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، ص15
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان #إثبات-وجود-الله
اقرأ أيضا
المجاهرون | مرابط
تفريغات

المجاهرون


إن الله يحب الستر ويكره التحدث بالكلام الفاحش وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه بالحلال لكن لأنه خنا فإنه لا يتحدث به لا يتحدث بأي شيء يثير الشهوات حتى مجرد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيل إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء وعدوه من خوارم المروءة حتى مجرد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية فهو مكروه لأنه من خوارم المروءة

بقلم: محمد المنجد
673
عن التوسط بين الفرقاء | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

عن التوسط بين الفرقاء


الوسطية الشرعية هي ثمرة اتباع الشريعة وليست موقفا متوسطا بين فرقاء وفقه هذا مما يزهد الشخص في كثير من المقارنات المعاصرة والتي يتكلف أصحابها وضع أقوالهم وخصوماتهم في المكان الوسط!

بقلم: د. فهد بن صالح العجلان
342
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا | مرابط
اقتباسات وقطوف

ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا


ما أكثر الأوقات التي تضيع على من غفل عن ذكر الله تضيع بلا فائدة وأنت إذا رأيت من نفسك أن أوقاتك ضائعة بلا فائدة فيجب عليك أن تلاحظ قلبك فإن هذا لا يكون إلا من غفلة القلب عن ذكر الله ولو رأيت أو لو نظرت فيما سبق من التاريخ كيف أنتج العلماء ما أنتجوا من المؤلفات

بقلم: ابن عثيمين
520
العمارة في الحضارة الإسلامية ج2 | مرابط
تاريخ

العمارة في الحضارة الإسلامية ج2


أمر الإسلام بتعمير الأرض بالبناء عليها وحث عليه لحماية الإنسان من حر الشمس وبرد الشتاء وأمطاره وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته ولذلك وضع الإسلام لبناء المساكن والمدن والقرى الكثير من الآداب وشهدت بلادنا الإسلامية ازدهار العمران والبناء الذي تميز بطابع إسلامي خالص وفي هذه المقالات سيقف بنا الكاتب على ملامح العمران في كل العصور الإسلامية

بقلم: موقع قصة الإسلام
1994
ثبات أم موسى أمام الابتلاءات | مرابط
تفريغات المرأة

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات


ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم.. هذه المرأة التي ربط الله على قلبها.. هذه المرأة التي أوتيت خيرا كثيرا.. هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحيا من نوع خاص ليس من وحي الأنبياء لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.

بقلم: محمد المنجد
324
لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟


يقولون: لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا ألم يرد في القرآن الكريم قول الله ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى فأين الضنك في حياة الغربيين الذين لم يعرضوا فقط عن ذكر الله وإنما هم لم يؤمنوا أصلا بالإسلام والغرب اليوم على ما هو عليه من التقدم والتطور والسعة والرفاهية لماذا لم تتحقق فيه هذه الآية

بقلم: محمود خطاب
678