بل إن القرآن لم يرسم لقارئه درب اليقين فقط، وإنما أضاف طريقة التعامل مع الشريحة التي تعاني من نقص اليقين، فنهانا القرآن أن نتأثر بإرجاف مرضى الحيرة والشكوك، كما قال الله عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}.
وفي واقعة شهيرة جدًا في تاريخ الإسلام رواها البخاري ومسلم، بل غالب كتب السنة، وجمع العلامة ابن حجر العسقلاني روايات هذه الواقعة من كتب السنة، والفروق بينها، في أول كتابه (فتح الباري:1/ 142، طبعة دار الريان)، وفي هذه الواقعة الشهيرة جاء جبرائيل - عليه السلام - إلى مجلسٍ اجتمع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكان جبرائيل قد تمثل بصورة رجل بشري، وكان شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، وفي بعض الروايات: (إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يمسها دنس)، وفي رواية أخرى: (شديد سواد اللحية)، وفي رواية أخرى: (ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد).
وهذا كان في غاية الغرابة بالنسبة للصحابة، حتى إنه علاهم الوجوم كما جاء في بعض الروايات: (فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا)! إذ إن هذا الرجل ليس من أهل المدينة فهم يعرفون أهلها جيدًا، وفي ذات الوقت لا يمكن أن يكون رجلًا مسافرًا قدم للمدينة لأن هيئته وملابسه ليست هيئة وملابس المسافر!
وفي مرأى من الناس جاء هذا الرجل - الذي هو جبريل في حقيقة الأمر - يتخطى بين الصحابة، حتى وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس أمامه، وصارت ركبتا جبريل تلامس ركبتي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وزاد جبريل في الاقتراب فوضع يديه على فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والناس لا يعرفون من هذا الرجل!
ثم بدأ جبريل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسئلة مرتبة هرميًا، تدور حول أصول الإسلام، والصحابة مشدودة أعناقهم إلى هذا المشهد. فاستفتح جبريل أول سؤال بالاستفسار عن (مفهوم الإسلام)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يجيب عن السؤال، ويستعرض تعريف مفهوم الإسلام، فيجعل الإسلام هو الأركان الخمسة التي تدور حول التوحيد والشعائر الأربع الكبرى.
ثم ينتقل جبريل ويسأل عن مرتبة أعلى وهي (مفهوم الإيمان)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يجيب فيستعرض تعريف الإيمان، ويجعله يدور حول التصديق بالغيبيات أساسًا، ثم ينتقل جبريل ويسأل عن مرتبة أعلى من الإسلام والإيمان، وهي أعلى مراتب الدين، وهي (مفهوم الإحسان)، فيعرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعريف في غاية الروعة، إذ يجعل الإحسان هو اليقين المطلق الذي تنهار فيه الفوارق بين الغيب والشهادة، حيث يقول جبريل: «فأخبرني عن الإحسان»؟ فيقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
انظر .. أين وصل اليقين؟! حيث أصبح الأمر الغائب الذي لا تراه كأنه الأمر الحاضر الذي تراه. إنها تلك اللحظة التي يصبح فيها ما يراه بصر رأسك حِسًا، بنفس المستوى الذي تراه بصيرة قلبك إيمانًا. عيون الموقن في رأسه وقلبه تسيران جنبًا إلى جنب في هذه الحياة، ولا يتخلف أحدهما عن الآخر، ويبصران المرئي وغير المرئي بذات الحدة البصرية: «أن تعبد الله كأنك تراه». ثم كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا هو الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين .. !
المصدر:
إبراهيم السكران، رقائق القرآن، ص160