فالحرية- مثلًا- سوق تهوى إليه نفوس المستعبدين، كلمة مبهمة تعيش في سرِّ نفوسهم كالقبس المكفوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلِّم النفوس معنى الحرية، ويُكسبها من وسائل تعلُّمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحيَّ عن إدراك حريته. أما الدجَّال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كلُّ وسيلة لا تغني شيئًا في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلًا وغلظًا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق؛ لأنَّه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهمًا غامضًا كريمًا، فيموِّه هذا المعنى بما شاء من تمويه؛ ليسير الناس وراءه كما هم عميًا صمًّا، لا ليعلم الناس حقًّا يطلبونه، ويحرصون عليه، ويزدادون معه على الأيام بصرًا وإدراكًا.
المصدر:
جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/593)