علماء المسلمين
والطبري كان يريد أن يجعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة، فسأل تلاميذه فاستكثروه، فجعله في ثلاثة آلاف وقال: وا أسفاه، لقد كلَّت الهمم عن طلب العلم! وقاضي مصر بكار بن قتيبة، لما سجنه ابن طولون وطال سجنه سأله طلاب الحديث أن يأذن لهم بالسماع منه، فكان يحدثهم وهو في السجن يأخذون عنه من راء الباب.
وابن تيمية كتب كثيرًا من رسائله وهو في السجن. وابن سينا ألف رسالته عن القولنج (ونحن لا نزال إلى الآن نستعمل في الشام كلمة القولنج) ورسالة حي بن يقظان (التي قلدها ابن طفيل الأندلسي، فاشتهرت قصته وماتت قصة ابن سينا) كتبها وهو سجين. وقصة (حي ابن يقظان) هي التي نسج على منوالها ومشى على أثرها مؤلف رواية روبنسون كروزو المشهورة. بل إن الكتاب العظيم لابن سينا، وهو (الشفاء) الذي بقي الأساس في دراسة الكتب في جامعات أوربا إلى ما قبل أربعمائة سنة، ألَّفه وهو هارب متنقل في البلدان متوارٍ عن الأبصار.
بل لقد أخرجت هذه العصور المتأخرة كتبًا كبيرة، كشرح القاموس للزَّبيدي (الهندي الأصل اليماني المقام). بل لقد ألفت في عصرنا هذا كتاب كبار، ككتاب (الأعلام) للزركلي، ومجموعة (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) لأحمد أمين، و(تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي العراقي الذي توفي حديثًا، و(شرح الكامل) للمرصفي. ولقد حدث أحد تلاميذه أنه دخل عليه يومًا - وكان يسكن غرفة مقفرة من دار خربة في حي قديم من أحياء القاهرة، يضل الماشي في أزقته ويغوص في وحله، لأنه كان من فقره لا يستطيع أن يجد غير هذه الدار في غير هذا الحي- فوجده قاعدًا على حصير بالٍ مفروش في وسط الغرفة، ليس فيها سواه، وأمامه كتب منثورة والصحائف منشورة، وحول الحصير خيط من الدبس مصبوب على الأرض. فسأله: ما هذا الدبس يا مولانا؟ فضحك الشيخ وقال: إنه سور يحميني من هجمات البق!
... في هذه الغرفة العارية، على هذه القطعة من الحصير، ألَّف الشيخ كتابه العظيم (شرح الكامل للمبرد)، هذا الكتاب من الكتب التي يفاخر بها عصرنا العصور الخوالي، لهذا العالم الذي ينافس بأمثاله القرون الماضيات.
المخطوطات
ولا تزال في المكتبات العامة والخاصة عشرات، بل مئات، من المخطوطات؛ في دار الكتب المصرية، وفي المكتبة الظاهرية في الشام، وفي مكتبات إسطنبول وبغداد، وفي مكتبة باريس، وفي مكتبة المتحف البريطاني، وفي الإسكوريال في إسبانيا، وفي مكتبة عارف حكمة في المدينة، وفي مكتبات فاس وغيرها في المغرب، هذه التي سلمت من أيدي المتعصبين من أعضاء محكمة التفتيش، ولو بقي كل ما كان في الأندلس لوجدنا شيئًا عظيمًا، وفي ليدن في هولندا، وفي مكتبة بوسطن في أمريكا... في هذه المكتبات التي رأيت بعضًا منها واطلعت على فهارس بعض، وسمعت الأخبار عن بعض، لا تزال فيها الآن آلاف مؤلفة من هذه المخطوطات.
وفي المكتبات الخاصة آلاف أخرى. أذكر لكم من هذه المكتبات ما عرفته أو سمعت به.
من أكبرها مكتبة أحمد تيمور باشا الذي تعقب كتب التاريخ خاصة، فكان يشتري الكتاب منها بوزنه ذهبًا إن لم يستطع شراءه بأقل من ذلك. ومكتبة أحمد زكي باشا (وكلا المكتبتين في دار الكتب المصرية الآن والحمد لله). ومكتبة عبد الحي الكتاني في المغرب، وهي من أغنى الكتب في التاريخ. ومكتبة أنستاس الكرملي، وفيها كثير من المفردات ليس لها ثوان. ومكتبة صديقنا إسعاف النشاشيبي رحمة الله عليه وعلى كل من ذكرت، هذه المكتبة – على كبرها واتساعها – لا يكاد يوجد فيها كتاب واحد يخلو من فهارس ومن تعليقات، رأيت كثيرًا منها. ومكتبة الشيخ خليل الخالدي، وقد زرتها لما كنت ذاهبًا إلى مصر للدراسة سنة 1928. ومكتبة شيخنا المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين...
نوادر وكنوز المكتبة الإسلامية
وفي هذه المكتبات نوادر لا تزال راقدة تنتظر من يوفقه الله لإخراجها ببعثها من مرقدها؛ من ذلك أن رجلًا من أسرة معروفة في الشام كان يشتغل أسلافها بالعلم توفي من أكثر من خمسين سنة، فباعوا كتبه المخطوطة، ثم نبههم أحد الخبراء إلى أن فيها كتابًا نادرًا، فأحبوا أن يسترجعوه ممن اشتراه، وأبى عليهم استرجاعه، وأقيمت بشأنه قضايا في المحاكم لا أريد التعرض لها، ولكني أريد أن أقول: إن هذا الكتاب هو (كتاب البيزرة) أو (البزدرة) وهو علم طب البزاة. وأنتم تعرفون البازي والصقر والشاهين، هذه الطيور التي كانوا يصطادون بها (ولا يزالون يتخذونها للصيد في بعض نواحي الجزيرة العربية). ولقد كتبت عن هذا الكتاب في السنة الثانية أو الثالثة من مجلة الرسالة، فاقرؤوا ما جاء فيه تجدوا عجائب لا تكاد تصدق؛ من ذلك أن فيه بابًا عنوانه (باب معرفة مرض الطائر من فحص مائه). أي أنهم – من فحص بول الطائر – يعرفون مرضه! لم يكتفوا بأن عنوا بعلم الحيوان عامة ألَّفوا فيه الكتب، حتى ألفوا في هذه الناحية الخاصة من طب الحيوان.
ولم يكن هذا إلا بعد أن أوفوا على الغاية من العناية بالطب الإنساني. وأنا لست من أهل الاختصاص في الطب، ولكني وقفت خلال مطالعاتي على نصوص عجيبة؛ منها أنني وجدت مرة في (وفيات الأعيان) لابن خلكان أن الحجاج مرض مرضًا لم يستطيعوا أن يعرفوا حقيقته ولا سببه، فجاؤوا بإسفنجه صغيرة ربطوها بخيط وجعلوه يبتلعها، ثم استخرجوها ففحصوا عصارته المعدية، على مقدار ما كانوا يعرفون يومئذ من أمثال هذه البحوث.
وقرأت في (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني أنها أجريت للسيدة سكينة بنت الحسين، إحدى عقيلتي قريش وأجمل نسائها، وهي التي جمع مصعب بن الزبير بينها وبين العقيلة الأخرى عائشة بنت طلحة، كانت لها في عينها نقطة (أو شيء لا أعرف حقيقته)، فأجريت لها عملية في العين واستخرجوا هذه النقطة من وراء الجسم الزجاجي. وقد قرأت وصف هذه العملية للجاحظ ولكني نسيت في أي كتاب قرأتها.
تاريخ المستشفيات والطب
وإذا نظرتم في تاريخ المستشفيات في الإسلام تعرفون مبلغ ما وصلوا إليه في هذا الباب. اقرؤوا (تاريخ المستشفيات) للدكتور عيسى المصري، والكتاب الآخر الذي ألفه أستاذ من الكلية الأميركية في بيروت نسيت اسمه الآن عن المستشفى النوري الذي أنشأه في دمشق نور الدين زنكي، وبقي بناؤه إلى الآن ولكنه صار مدرسة التجارة، تجدوا أن أطباء هذا المستشفى عرفوا طريقة عزل المرضى المعدين، وعرفوا أسلوب التخصص في الطب.
والبيروني، المفكر العظيم الذي يقول عنه سخاو (وهو أحد المستشرقين الألمان) بأنه أكبر عقلية كانت في القرون الوسطى، يذكر في كتابه (الصيدنة) (أي الصيدلة) أنهم لم يكتفوا بدراسة الطب عامة بل كانوا يعرفون التخصص فيه.
لكي تروا جانبًا من جوانب عظمة المكتبة الإسلامية اقرؤوا كتاب (ثقافة الهند) الذي طبعه المجمع العلمي في دمشق لمؤرخ الهند العالم الجليل والد أبي الحسن الندوي، وهو في خمسمائة صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير، كله أسماء للكتب التي ألفت في الهند.
المصدر:
فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون - دار المنارة، ط1، 2007هـ (ص 89)