ما شكت المرأة إليكم ظلما، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها، فما دخولكم بينها وبين نفسها؟ وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟!.
إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيثما سارت وأينما حلت، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلا إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها، فأوصدت من دونها بابها، وأسبلت أستارها، تبرمًا بكم وفرارا من فضولكم، فواعجبًا لكم تسجنونها بأيديكم، ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها!..
إنكم لا ترثون لها، بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها، بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرّجًا وسفورا، ويتدفق خلاعة واستهتارا، وتودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك.
لقد كنا، وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء، فما زلتم به تثقبون في جوانبه، كل يوم ثقبا، والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرّش، ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلّوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة.
المرأة المصرية
عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها مطمئنة في بيتها، راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها، وتستبثها سريرة قلبها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها، ونزولها عند رضاهما.
وكانت تفهم معنى الحب، وتجهل معنى الغرام، فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج، رأت هي أن الزواج أساس الحب. فقلتم لها إنَّ هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك، ليسوا بأوفر منك عقلًا ولا أفضل رأيًا، ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلاحق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرت أباها، وتمرّدت على زوجها، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرسًا من الأعراس الضاحكة، مناحة قائمة، لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها.
وقلتم لها لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة، ثم الشقاء الطويل بعد ذلك، والعذاب الأليم.
قلتم لها إن الحب أساس الزواج فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة، حتى شغلها الحب عن الزواج فعنيت به عنه.
وقلتم لها إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها، وما كانت تعرف إلا أن الزواج غير العشيق، فأصبحت تطلب في كل يوم زوجًا جديدًا يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم.. فلا قديما استبقت ولا جديدًا أفادت.
وقلتم لها لا بد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك، والقيام على شؤون بيتك، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها، والقيام على شؤون بيتها.
وقلتم لها نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها، ويلائم ذوقُها ذوقَنا، وشعورُها شعورَنا، فرأت أن لا بد لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومباهج أنظاركم، لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس حياتكم، صفحة صفحة، فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات، والضاحكات اللاعبات، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن، فتخلعت، واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف، تعرض نفسها عليكم عرضًا، كما تُعرض الأَمَةُ في سوق الرقيق، فأعرضتم عنها ونَبَوتُم بها، وقلتم لها:
- إنا لا نتزوج النساء العاهرات، كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعًا ساقطات، إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة، وقد أباها الخليع، وتَرَفَّع عنها المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت.
وكذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعًا وتمشّت الظنون بين رجالها ونسائها، فتعاجز الفريقان، وأظلم الفضاء بينهما، وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالًا مترهبين، ونساءً عانسات.
ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون.. وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها!..
المصدر:
مصطفى لطفي المنفلوطي، العبرات، قصة الحجاب.