النص مقدس والفهم غير مقدس

النص مقدس والفهم غير مقدس | مرابط

هذه المقولة تتخذ في الواقع أشكالا متعددة من التعبير لكنها تتحد في المضمون، كقولهم مثلا (النص مقدس ولكن فهمه غير مقدس) أو (يجب المحافظة على مسافة بين النص وبين قارئ النص) أو (فهمك للنص ليس هو النص) .. أو غير ذلك من التعبيرات. وهي إطلاقات تسعى للمحافظة على نوع قدسية للنص، يمكن من خلال إطلاقها المجمل تسريب بعض المضامين، ولذا فإن هذه المقولة تمثل واحدة من أشهر الشبهات حضورًا في الخطاب العلماني العربي، بل يمكن عدّها الشبهة المركزية التي يدور عليها هذا الخطاب.

محصلة هذه الشبهة وخطورتها

ومحصلة الشبهة النهائية أن الشريعة تكتسب قدسية زائفة نتيجة عدم الإقرار بطبيعتها الحقيقية، إذ هي لا تعدو في نظرهم أن تكون قراءة بشرية للوحي، وفعلا إنسانيا ينتابها ما ينتاب الفعل البشري من الخطأ والصواب، فالشريعة لا تفسر نفسها بنفسها، وإنما يفسرها الإنسان وبمجرد نزول الوحي إلى الناس ومع لحظة قراءتهم له يتأنسن، ويتحول من كونه منطوقًا إليها إلى أن يكون مجرد مفهوم بشري.

وبعيدا عن تفاصيل المشهد المرسوم هنا، والذي يتغافل عن حال النبي، صلى الله عليه وسلم، المعصوم الذي كان يأتيه الوحي في صورتيه (قرآنا وسنة) بما يشكل ضمانة في مسألة تلقي الوحي وفهمه وتبليغه وإفهامه؛ فإن مكمن الإشكال الرئيس هنا هو في تصوير نصوص الشريعة وكأنها مزيج هلامي متشابه لا يتمايز منه شيء عن شيء من جهة البيان والوضوح والقطعية، بل كل ما فيه قابل لقراءات متعددة متكاثرة.

ومع انفتاح مناهج القراءة الأجنبية وتعددها، والسعي إلى توظيفها في فهم الوحي، ازدادت هذه القراءات والتفسيرات كما وتباعدت كيفًا.

المحكم والمتشابه

والحق الذي لا محيد عنه أن الوحي فيه المحكم الواضح البين بنسه الذي هو غني عن التأويل والاجتهاد البشري، وفيه ما هو دون ذلك. قد أوضح الوحي ذاته هذه الطبيعة، فقال تعالى "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" فالنص القرآني مشتمل على ثنائية المحكم والمتشابه، و"المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد؛ والمتشابه منه: ما احتمل من التأويل أوجهًا" (1)

وقد قال الطبري كاشفًا عن استغناء بعض المحكم عن جهد التبيين "وقد استغنى بسماعه عن بيان يبيّنه" (2). ثم بيّن أن بعض المحكم تحصل على وصف الإحكام لبيان الله تعالى أو رسوله، صلى الله عليه وسلم، عن معناه فقال "أو يكون محكما وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرّف في معان كثيرة، بالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله، صلى الله عليه وسلم، لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة" (3)

والمقصود التأكيد على بطلان ذلك التصور الذي يحيل النص القرآني كله إلى طبيعة سيّالة لا يمكن استثبات معانيها أبدًا.. ولحبر هذه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كلمة مهمة جدا في بيان ما يندرج تحت لفظ التفسير، فقال في الأثر المشهور "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله" (4)

فلا يصح أن يصور الوحي بأنه قطعة نصية من المتشابهات لا يقبل الانضباط التفسيري، بل لا بد من استحضار أن النص المقدس منه ما هو بيّن بذاته ومنه ما يحتاج إلى اجتهاد ويحتمل الخلاف، والغفلة عن هذه الحقيقة الشرعية والمعنى العقلي الظاهر يجعل من الوحي مجرد قالب لفظي لا قيمة له ولا يوصل إلى معنى محدد، بل يمكن أن يوصل للنتيجة وضدها ويفسر بالشيء ونقيضه.

ويمكن مناقشة هذا الإشكال وبيان ما فيه من خلل في الأوجه التالية:

أولًا: أنها تخالف المقطوع به من شأن هذا الوحي وبيانه ووضوحه، وتناقض ثناء الله على كتابه بأنه: مبين وبيان وتبيان ونور وهدى وفرقان وكتاب أحكمت آياته
ويلزم منه جعل الحديث القرآني المتكرر عن حاكمية الشريعة وهيمنتها، والرد إلى نصوصها في حال الاختلاف وبيان الفرق بينهما وبين حكم الجاهلية؛ عبثا لا فائدة منه، وإحالة على معدوم وتكليفا بما لا يطاق.

ثانيًا: أنها دعوى لا تُقبل في كلام البشر فكيف بالوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو تعاملنا مع كلام البشر بمثل هذا التعامل، فجعلنا التوقير لمجرد ألفاظهم، وأعطينا أنفسنا حرية النظر في تفسير كلامهم بحسب أمزجتنا، وما يمكن أن نقدره من المعاني؛ لما استقامت حياة الناس. وكيف يزعم زاعم أن نصوص العلماء والفلاسفة والدساتير والأنظمة الأرضية، وكلام البشر عموما، كلها بينة واضحة توصل إلى معان بينما كلام الله تعالى مقدس لفظا لا يدرك معناه على القطع.

ثالثًا: أن من يتعامل مع النص بهذه الطريقة لا يلتزم المنطق ذاته عند محاكمة الفكرة التي ينطلق منها، فالاختلاف الواقع في تفسير النص الديني وقع مثله في المذاهب الوضعية الحديثة، الليبرالية مثلا ليست شيئًا واحدًا، بل ثم ليبراليات متعددة في الواقع، وكذا الماركسية والاشتراكية والرأسمالية والشيوعية والديمقراطية وغيرها؛ كلها ليست في الواقع شيئًا واحدًا، وإنما ثم تطبيقات وتنظيرات مختلفة، فهل يلتزمون مع هذا التباين والاختلاف أن تكون القداسة لألفاظ هذه المفاهيم وعباراتها، ويكون من حق كل أحد أن يفسر أي مصطلح بأي معنى يريد حتى لو اجتمعت فيه التناقضات؟
 
ليس القصد هنا أننا نقر بأن هذه الأفكار والتيارات هلامية لا تحمل تصورات وأوصولا كلية مشتركة، وإنما المقصد تجلية الخلل في سياسية الكيل بمكيالين عند محاكمة التشريع الإسلامي مقارنة بغيره، فيركز على الاختلاف داخل النص الديني لإلغاء قدسية الفهم مطلقًا، وكأن بقية الأفكار تخلو من تعدد التطبيقات وتباين النظريات.

رابعًا: أن حقيقة نفي المعنى من النص المقدس ستؤول إلى نتيجة لا يتفظن لها كثير ممن يطلق مثل هذه العبارة، وهي أن لن يستطيع أن يرد أي قول أو فعل فيه غلو في الدين وهو مستند إلى النص، إذ الجواب عن سؤال الغلو يستدعي قراءة معيارية للوحي يصح من خلالها تصنيف الآخرين إلى أهل غلو وجفاء، فإذا أطلقت القول بنسبية الحق في الفهم، وزعمت أنها مثل هذه القراءة المعيارية الثابتة، فليس لك سبيل إلى تخطئة مخالف لك في الفهم مهما كان المخالف غاليًا أو جافيًا، فالخوارج في القديم والحديث لهم قراءتهم للنص الديني، فهل يقول أولئك إن قراءتهم للوحي قراءة اجتهادية مقبولة لا يصح لأحد أن يبادر إلى تخطئتهم بإطلاق أو أن ينكر عليهم؟ وهذه إشكالية معرفية تدل على قصر نظر كثير ممن يريد أن يبيح لنفسه حق تفسير القرآن بغير أدواته دون أن يتنبه أنه سيعطي هذا الحق أيضًا لمن يقف في الضفة المقابلة له تماما.

والمقصود أن هناك دائرة من النصوص مما يستطيع الناظر فيها الجزم بمراد قائلها، فهنا يتطابق النص وفهمه، إذ الفهم هو روح النص ومعناه، وما دمنا قد جزمنا بتحصيله والوقوف عليه، فلنا أن ندعي أن الفهم هنا مقدس، إذ هو لا يعدو أن يكون معنى النص المقدس الذي أريد له تحصيله وفهمه.

أما النصوص الظنية التي تحتمل أفهاما متعددة، فهذه الأفهام تمثل فضاء لمعنى النص، إذ الاختلاف لا يرفع حقيقة أن للنص معنى، وأن هذا المعنى مقدس، وأن أحد أطراف الخلاف في فهمه قد صادفه، شريطة أن يكون السعي في تحصيل هذا المعنى وفق منهج موضوعي ومقصد صحيح، فالشيخ هنا وإن لم يقطع بصواب تفسيره للمعنى، لكنه يعتقد وجود هذا المعنى، وهو يسعى باجتهاد لإصابته، ويعتقد أنه أو غيره قد صادفه، وأن الأمة لا تخلو من مدرك له.


الإشارات المرجعية:

  1. تفسير الطبري (5-197)
  2. تفسير الطبري (5-201)
  3. تفسير الطبري (5-201)
  4. أخرجه الطبري في تفسيره (1-70)

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص 203

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم | مرابط
تفريغات

احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم


إن أشرف ما يستثمر باتفاق العقلاء هو الوقت لأن الوقت هو العمر وبمقدار ما يستثمر المرء هذا الوقت بمقدار ما تكون له المكانة في الدار الآخرة لأن حياته في الآخرة إنما هي باستثماره لعمره فإذا ضيعه خسر هناك وإذا استثمره حق استثماره ربح ولا أفضل ولا أجود من ضرب المثال في استثمار الوقت بحياة العلماء لأنهم هم الذين عرفوا شرف هذا العمر فلذلك نضرب المثل بهم فهم القدوة وهم الذين نأخذ عنهم الفتوى

بقلم: أبو إسحق الحويني
616
ابتسامة عفوية | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

ابتسامة عفوية


اليوم ابتسامة عفوية وغدا لقاء عابر في حدود الأدب طبعا وبعده مجاملة رقيقة عابرة في مناسبة أو ما شابه.. ثم يأتي التعلق القلبي وتأتي المرأة تشتكي أنها لا تملك لقلبها شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بقلم: محمود خطاب
321
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم | مرابط
تفريغات

بكاء النبي صلى الله عليه وسلم


عيون حمراء تختلف عن العيون الحمراء التي تسهر على الذنوب والمحرمات فهناك عيون حمراء تتعاطى المخدرات عيون حمراء تسهر في المعاكسات عيون حمراء بكت لفراق عشيقها أو محبوبها أو فراق صديقها عيون حمراء لكنها لم تبك لله عز وجل فلن نتكلم عن هذا كله في هذه الليلة لكن سوف نتكلم هذه الليلة عن عيون حمراء بكت لكنها بكت لله عز وجل بكت لكن ليس لأجل الدنيا سوف نتكلم عن أغلى بكاء على وجه هذه الأرض وأغلى من دمعت عينه فهي أغلى الدموع وأغلى البكاء إنه بكاء النبي عليه الصلاة والسلام

بقلم: نبيل العوضي
363
الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج2 | مرابط
توثيقات

الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج2


دولة التركستان الشرقية من الدول الإسلامية المحتلة التي ابتلعتها الصين الشيوعية في سنة 1949م في ظل غفلة المسلمين عن قضاياهم الماسة ونتيجة لفرقة المسلمين وتشتتهم وهي أرض إسلامية خالصة ولقد فصلنا في تاريخها في مقال سابق بعنوان قصة الإسلام في الصين كما ذكرنا الثروات الهائلة التي تمتلكها هذه الدولة الإسلامية الكبرى والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والدينية التي تتمتع بها وهذا في مقال آخر بعنوان كنوز التركستان الشرقية وفي مقالنا هذا نرى ماذا فعلت الصين الشيوعية في العقود الثلاثة الأ...

بقلم: راغب السرجاني
568
الإلحاح في الدعاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإلحاح في الدعاء


والله يحب الملحين في الدعاء ولهذا تجد كثيرا من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ وذكر كل معنى بصريح لفظه دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت

بقلم: ابن القيم
205
موت الأمم وحياتها | مرابط
فكر مقالات

موت الأمم وحياتها


طالما قال القائلون عن أمتنا: إنها ماتت وطالما فرح الشامتون بموتها وطالما نعاها نعاة الاستعمار على مسمع منا وأعلنوا البشائر بموتها في عيدهم المئوي فعدوه تشييعا لجنازة الإسلام الذي هو مساك حياة هذه الأمة في هذا الوطن فقالوا: ماتت لا رحمها الله وصدقهم ضعفاء الإيمان منا فقالوا: ماتت رحمها الله وقلنا نحن: إنها مريضة مشفية ولكن يرجى لها الشفاء إن حضر الطبيب وأحسن استعمال الدواء فحقق الله قولنا وخيب أقوال المبطلين وكذب فألهم فحضر الطبيب في حين الحاجة إليه وأذن بالإصلاح في آذان المريض فانتفض انتفاض...

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
1521