ولقد نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات التي مرت بالمسلمين هذا النهج فقد كان يبث الأمل في قلوب المسلمين، وكان يغضب كثيرًا إذا رأى إحباطًا أو يأسًا في قلب مسلم مهما كانت المسببات التي تؤدي إلى ذلك، ولا يعترف بأي مسبب، فلا يجوز للمسلم أن يحبط أبدًا؛ لأنه مرتبط برب العالمين سبحانه وتعالى، فالإحباط علامة على ضعف في العقيدة، وهذا لا يقبل من المسلم أبدًا.
وفي الفترة المكية التي كانت فترة الاستضعاف والقهر والتعذيب والبطش، والتي أصيب فيها المسلمون وقتلوا جاء خباب بن الأرت وقد كال له الكفار العذاب ألوانًا رضي الله عنه وأرضاه، حتى كانوا يكوونه بالنار، فقد كانوا يحمون السيوف في النار ثم يضعونها على رأسه رضي الله عنه وأرضاه، وكانوا يحمون الفحم على الأرض حتى يحمر ويصير جمرًا ثم يؤتى بـخباب بن الأرت فيوضع فوق هذا الجمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم يأتون بصخرة عظيمة لا يحملها إلا رجال ويضعونها فوق بطنه وصدره وظهره على الجمر رضي الله عنه وأرضاه، وتحمل كل هذا رضي الله عنه وأرضاه وقد سأله سيدنا عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين وقال له: ما رأيت في الله يا خباب؟! أو ما أشد ما رأيت في الله يا خباب؟!
فكشف له عن ظهره، فصرخ عمر بن الخطاب قائلًا: ما رأيت مثل هذا، فقد رأى ظهره وفيه حفر من هذه الجمرات التي كوي بها رضي الله عنه وأرضاه ومن جراء هذا التعذيب والبطش والقهر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متوسدًا بردة متكئًا في الكعبة، فقال له: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقام صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري - وهو محمر الوجه، فقد غضب صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اشتم في كلام خباب رائحة اليأس، وإلا فنحن مأمورون بالدعاء وباستنصار رب العالمين سبحانه وتعالى، وبالإلحاح على رب العالمين سبحانه وتعالى بالدعاء. فالكوي بالنار ليس مبررًا لليأس، فإن وصلت إلى ما وصل إليه خباب لا تيأس، ولا تحبط أبدًا، فليس ذلك مبررًا للإحباط، وما نراه اليوم في بقاع العالم الإسلامي أهون بكثير مما فعل بـخباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه.
ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا الذي أصابك من الآلام لا يساوي شيئًا بالنسبة لمن سبق، فذكر له مثلًا من التاريخ، والتاريخ فيه العبر والعظات والتربية والمثل الواقعي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنه كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيحفر له في الأرض حفرة ثم يوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار)، وتخيلوا واحدًا وضع في هذا الوضع، (ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق اثنين وما يصده ذلك عن دينه)، فلو وصل الأمر إلى أن يأتي أحد بمنشار فيضعه على رأسك ليشقك اثنتين فلا تيأس، فأنت إلى الجنة صاعد بإذن الله رب العالمين إن ثبت، ومن حولك سينصرهم رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأحد المجاهدين في فتح فارس عربي بسيط لا نعرف اسمه ولكن الله عز وجل يعلمه أسره رستم قائد الفرس وقال له: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا؟ فقال الرجل في ثبات -وهذه الرواية ينقلها أحد الفرس الذين أسلموا-: جئنا نبحث عن موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأموالكم إن لم تؤمنوا بالله عز وجل. فقال رستم: إذًا تقتلون دون ذلك، فقال الرجل في يقين: من مات منا دخل الجنة، ومن بقي منا ظفر عليكم. فهذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى إما النصر وإما الشهادة، وهذا واضح في كتاب ربنا وفي أحاديث حبيبنا صلى الله عليه وسلم. فقال له رستم: إذا وضعنا في أيديكم -يسخر منه- يعني: نحن في كلا الحالين ضائعون، فقال: أعمالكم وضعتكم في أيدينا. فقتله رستم ومات رضي الله عنه وأرضاه، نسأل الله عز وجل أن يجعله في أعلى عليين.
ثم يقول له صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت الذي يعذب فيه المسلمون في مكة وقد حصروا في قرية صغيرة لا ترى على خارطة الأرض في ذلك الوقت: (والله)، وهو لا يحتاج إلى قسم صلى الله عليه وسلم، فهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ ولكن من أجل أن يزرع هذا المعنى زرعًا في قلوب المسلمين في كل زمان ومكان وإلى يوم القيامة، (والله ليتمّن الله هذا الأمر)، فهذا الدين لا بد أن يتم وينتشر ويسود ويقود الأرض بكاملها، (والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). يا ألله! خباب بن الأرت بعد كل هذا العذاب يستعجل! ما بالك بالذي يستعجل قبل كذا بآلاف الخطوات ماذا يكون؟!
فلا تستعجلوا فالعاقبة للمتقين، وهذا لا شك فيه، فهو وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، فثبت خباب رضي الله عنه وأرضاه، فقد ذكّره بالتاريخ وبثّ في قلبه الأمل، وربطه برب العالمين سبحانه وتعالى، فهو الذي سينصره فيثبت خباب رضي الله عنه وأرضاه ولا يبدل ولا يغير.