جُل أهل السير كانو يجعلون دوما بناء المسجد النبوي في المقدمة.. في مطلع العهد المدني وبعد الهجرة مباشرة كان اختيار المكان الذي سيكون المستقر الجديد للمؤمنين ومحل اجتماعهم على الطاعة وتلقي الوحي المنزل على رسول الله، وبالفعل كان البناء المكاني لكن كثيرون لا يلتفتون إلى بناء آخر سبقه.. بناء البشر، وبناء العلاقة بينهم
أكثر الروايات أن البدء في بناء المسجد كان بعد أسبوعين من وصول النبي ﷺ إلى المدينة، لكن في رواية سيدنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: "لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار..
المؤاخاة
كانت هذه إذًا هي البداية: المؤاخاة..
ويستمر سيدنا عبد الرحمن في التفصيل فيقول: آخى بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: سوق قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن.. الحديث"
هذا نموذج واضح لتلك العلاقة التي أراد النبي ﷺ أن يقوم عليها بناء المجتمع الوليد..
الأخوة؛ تلك العلاقة التي ظهرت بوضوح في كتاب الله خصوصا في الآيات الأشهر والتي كلمنا الله فيها عن المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم، ورغم أن آيات المهاجرين والأنصار في سورة الحشر قد نزلت في سياق الحديث عن تقسيم الفيء بعد غزوة بني النضير إلا أن تفاصيل الآيات قد احتوت على دروس عظيمة مستقاة من الصفات التي ذكرها الله ﷻ لكل فئة منهم.
عن المهاجرين
توازن بديع بين صفات قلبية ونفسية وبين أعمال ملموسة قامت بها كل طائفة ونالوا من خلالها ذلك التشريف العظيم، عند ذكر المهاجرين كانت السمة الأولى والأهم = التضحية "لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" هؤلاء قوم بذلوا عن طيب خاطر كل ما يملكون؛ ديارهم، أموالهم، أرضهم، استقرارهم وموطن نشأتهم.. تركوا كل ذلك وغادروا إلى أرض لا يعرفونها ولا يألفون أجواءها
كان هذا هو العمل الملموس والمرئي
عمل لا ينفك قط عن عمل القلب الذي يعد أصله وسببه " يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" هذا هو المبتغى إذًا
إرضاء الله والطمع فيما عنده من فضل، نصرته ورسوله والتضحية لإعلاء كلمته لن تكون من دون هذا الأصل القلبي .. كل أعمال الدين قد يقوم بها المدعين ويتكلفونها ظاهرا إلا التضحية، ذلك لأنها ليست هينة؛ لذلك يحتاج الأمر إلى قلب صادق، وهؤلاء كانوا يمتلكون ذلك القلب "أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"
عن الأنصار
أما الأنصار فقد كانت السمة المتصدرة قلبية؛ ربما لم تكن حركتهم في البداية ظاهرة فهم مستقرون في ديارهم لم ينتقلوا منها بل تبوؤوها واختاروا الإيمان وهم فيها، لكن ثمة تضحية أخرى كانت تنتظرهم دون خروج.. تضحية لا تطيب بها نفس إلا عبر بوابة القلب
قلب المحب " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ"
بعد أن زكى الله إيمانهم وشبهه بالمحل الذي يستقر فيه المرء للدلالة على مدى ترسخ الإيمان فيهم = جاء الحديث عن الحب؛ والحب كما لا يخفى شعور منبعه القلب، فما مقامه هنا؟
الحقيقة أنه الشعور الأهم في سياق البذل الموجه؛ المهاجرون حين ضحوا كان الصدق هو الشعور الأهم لأن تضحيتهم مطلقة ولم تكن مبذولة لشخص بعينه بل تم الاستيلاء على ما ضحوا به من قِبل أعدائهم..
لكن الأنصار كانت تضحيتهم موجهة؛ سيقتسمون الأموال والديار مع قوم آخرين، مع المهاجرين وهذا هو العمل الملموس.. قد يفعلون ذلك امتثالا لأمر النبي ﷺ لكن هذا لن يزيل بقايا الحسرة البشرية التي تكون في نفس البعض حين يروا أموالهم تأؤول لشخص آخر أمام أعينهم
ما يزيل تلك الحسرة هو ذلك الشعور القلبي الذي بدأ به الحديث عنهم: الحب.. هل رأيت والدا أو والدة من مستقيمي الفطرة يتحسر على ما ينفقون على أبنائهم، بل على العكس قد تجد تفننا في التضحية والبذل والإيثار واستمتاع بذلك.. هذا لأنهم يحبون، وهذا ما ميز الأنصار؛ حب عميق لإخوانهم طهر قلوبهم من كل أثرة وشح "وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا"
وقد يكون ذلك سهلا هينا حال الغنى ووجود فائض من المال، لكن ماذا لو كان الأمر ضيقا، ماذا لو كانت هناك حاجة وفاقة.. أن يستمر الإيثار فذلك تمام الفضل.. وهذا ما فعله الأنصار “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”
لقد اختاروا في بعض المواطن أن يؤثروا المهاجرين بالمال ثم اختاروا في نفس المواطن أن يتركوا لهم الغنيمة!
لكن كيف؟ أليست الأنفس قد أُحضرت الشح؟
بلى.. لكن هناك من أفلح وطهر نفسه من ذلك “وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”
حسنا.. هؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وتلك بعض فضائلهم فماذا عنا؟ ماذا عمن جاء بعدهم من أمثالنا أليس لنا فرصة في فضل وإن لم نستطع أن نعمل بمثل ما عملوا؟
تجيبك السورة؛ هناك أعمال من نصيبكم، إنه دعاء، والدعاء عمل "وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ" .. لكن أصل هذا الدعاء قلبي أيضا، وهو في هذا السياق تحديدا نابع من الأصل الذي قام عليه البناء، نابع من الحب الأخوة.
أن يطهر المرء قلبه من الغل والحسد فلا يحول حائل بينه وبين الحب، حب أولئك الذين سبقوا والذين كانوا سببا في وصول الخير له “ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا”، وعندما يتطهر القلب ليصير محلا صالحا لأوثق عرى الإيمان الحب في الله تتنزل الرأفة والرحمة منه سبحانه وبهذا يختم السياق الجميل لهذه الآيات العظيمة “رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”