بناء المساجد.. وبناء البشر

بناء المساجد.. وبناء البشر | مرابط

الكاتب: د. محمد علي يوسف

293 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

جُل أهل السير كانو يجعلون دوما بناء المسجد النبوي في المقدمة.. في مطلع العهد المدني وبعد الهجرة مباشرة كان اختيار المكان الذي سيكون المستقر الجديد للمؤمنين ومحل اجتماعهم على الطاعة وتلقي الوحي المنزل على رسول الله، وبالفعل كان البناء المكاني لكن كثيرون لا يلتفتون إلى بناء آخر سبقه.. بناء البشر، وبناء العلاقة بينهم

أكثر الروايات أن البدء في بناء المسجد كان بعد أسبوعين من وصول النبي ﷺ إلى المدينة، لكن في رواية سيدنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: "لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار.. 

المؤاخاة

كانت هذه إذًا هي البداية: المؤاخاة..
ويستمر سيدنا عبد الرحمن في التفصيل فيقول: آخى بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: سوق قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن.. الحديث"

هذا نموذج واضح لتلك العلاقة التي أراد النبي ﷺ أن يقوم عليها بناء المجتمع الوليد..

الأخوة؛ تلك العلاقة التي ظهرت بوضوح في كتاب الله خصوصا في الآيات الأشهر والتي كلمنا الله فيها عن المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم، ورغم أن آيات المهاجرين والأنصار في سورة الحشر قد نزلت في سياق الحديث عن تقسيم الفيء بعد غزوة بني النضير إلا أن تفاصيل الآيات قد احتوت على دروس عظيمة مستقاة من الصفات التي ذكرها الله ﷻ لكل فئة منهم.

عن المهاجرين

توازن بديع بين صفات قلبية ونفسية وبين أعمال ملموسة قامت بها كل طائفة ونالوا من خلالها ذلك التشريف العظيم، عند ذكر المهاجرين كانت السمة الأولى والأهم = التضحية "لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" هؤلاء قوم بذلوا عن طيب خاطر كل ما يملكون؛ ديارهم، أموالهم، أرضهم، استقرارهم وموطن نشأتهم.. تركوا كل ذلك وغادروا إلى أرض لا يعرفونها ولا يألفون أجواءها
كان هذا هو العمل الملموس والمرئي

عمل لا ينفك قط عن عمل القلب الذي يعد أصله وسببه " يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" هذا هو المبتغى إذًا
إرضاء الله والطمع فيما عنده من فضل، نصرته ورسوله والتضحية لإعلاء كلمته لن تكون من دون هذا الأصل القلبي .. كل أعمال الدين قد يقوم بها المدعين ويتكلفونها ظاهرا إلا التضحية، ذلك لأنها ليست هينة؛ لذلك يحتاج الأمر إلى قلب صادق، وهؤلاء كانوا يمتلكون ذلك القلب "أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" 

عن الأنصار

أما الأنصار فقد كانت السمة المتصدرة قلبية؛ ربما لم تكن حركتهم في البداية ظاهرة فهم مستقرون في ديارهم لم ينتقلوا منها بل تبوؤوها واختاروا الإيمان وهم فيها، لكن ثمة تضحية أخرى كانت تنتظرهم دون خروج.. تضحية لا تطيب بها نفس إلا عبر بوابة القلب
قلب المحب " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ" 

بعد أن زكى الله إيمانهم وشبهه بالمحل الذي يستقر فيه المرء للدلالة على مدى ترسخ الإيمان فيهم = جاء الحديث عن الحب؛ والحب كما لا يخفى شعور منبعه القلب، فما مقامه هنا؟

الحقيقة أنه الشعور الأهم في سياق البذل الموجه؛ المهاجرون حين ضحوا كان الصدق هو الشعور الأهم لأن تضحيتهم مطلقة ولم تكن مبذولة لشخص بعينه بل تم الاستيلاء على ما ضحوا به من قِبل أعدائهم..

لكن الأنصار كانت تضحيتهم موجهة؛ سيقتسمون الأموال والديار مع قوم آخرين، مع المهاجرين وهذا هو العمل الملموس.. قد يفعلون ذلك امتثالا لأمر النبي ﷺ لكن هذا لن يزيل بقايا الحسرة البشرية التي تكون في نفس البعض حين يروا أموالهم تأؤول لشخص آخر أمام أعينهم

ما يزيل تلك الحسرة هو ذلك الشعور القلبي الذي بدأ به الحديث عنهم: الحب.. هل رأيت والدا أو والدة من مستقيمي الفطرة يتحسر على ما ينفقون على أبنائهم، بل على العكس قد تجد تفننا في التضحية والبذل والإيثار  واستمتاع بذلك.. هذا لأنهم يحبون، وهذا ما ميز الأنصار؛ حب عميق لإخوانهم طهر قلوبهم من كل أثرة وشح "وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا" 

وقد يكون ذلك سهلا هينا حال الغنى ووجود فائض من المال، لكن ماذا لو كان الأمر ضيقا، ماذا لو كانت هناك حاجة وفاقة.. أن يستمر الإيثار فذلك تمام الفضل.. وهذا ما فعله الأنصار “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”

لقد اختاروا في بعض المواطن أن يؤثروا المهاجرين بالمال ثم اختاروا في نفس المواطن أن يتركوا لهم الغنيمة! 
لكن كيف؟ أليست الأنفس قد أُحضرت الشح؟
بلى.. لكن هناك من أفلح وطهر نفسه من ذلك “وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”

حسنا.. هؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وتلك بعض فضائلهم فماذا عنا؟ ماذا عمن جاء بعدهم من أمثالنا أليس لنا فرصة في فضل وإن لم نستطع أن نعمل بمثل ما عملوا؟
تجيبك السورة؛ هناك أعمال من نصيبكم، إنه دعاء، والدعاء عمل "وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ" .. لكن أصل هذا الدعاء قلبي أيضا، وهو في هذا السياق تحديدا نابع من الأصل الذي قام عليه البناء، نابع من الحب الأخوة.

أن يطهر المرء قلبه من الغل والحسد فلا يحول حائل بينه وبين الحب، حب أولئك الذين سبقوا والذين كانوا سببا في وصول الخير له “ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا”، وعندما يتطهر القلب ليصير محلا صالحا لأوثق عرى الإيمان الحب في الله تتنزل الرأفة والرحمة منه سبحانه وبهذا يختم السياق الجميل لهذه الآيات العظيمة “رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأخوة
اقرأ أيضا
ماذا نريد من المرأة ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

ماذا نريد من المرأة ج1


سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم وقالت له توصيه: يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك

بقلم: محمد الدويش
524
التحدي الأعظم ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

التحدي الأعظم ج2


جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته إلخ وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ۗ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد 53 ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غا...

بقلم: موقع هداية الملحدين
1552
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1559
التوبة من ترك الحسنات | مرابط
اقتباسات وقطوف

التوبة من ترك الحسنات


التوبة من ترك الحسنات أهم من التوبة من فعل السيئات والتوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
512
أصل العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصل العلم


وثمة أمر ينبغي أن يدرك وهو أن الله جل وعلا كما أنه أوجد الذوات وهذه المخلوقات من عدم فكذلك الله جل وعلا أوجد كثيرا من المعلومات للإنسان من عدم وكثير من الناس يظن أنه إذا ألف بين معلومات ينطق بها ويتكلم بها فإنه يظن أنه قد جاء بشيء من المعلومات من عدم وذلك من الخطأ المحض فلا يمكن للإنسان أن يوجد معلوما أو يوجد فكرة في عقله لم يسبق إليها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
542
الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2 | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2


ليس المراد بالأصول في هذا السياق الأدلة العقلية التي يستند إليها المؤمنون في إثبات وجود الله وكماله وإنما المراد بها المعاني الكلية التي يتأسس من مجموعها الإيمان الصحيح السالم من النقص والعيب في التصديق بأن الله موجود وأنه الخالق للكون المدبر له والمتصرف في شؤونه والمتصف بصفات الكمال والجلال

بقلم: د سلطان العميري
2464