أوكس الأمم اليوم حظًّا في التعارف والتآلف، الأمة الإسلامية التي ألف الله بين قلوبها وألسنتها بالقرآن حين أنزله على رسوله وأيده ونصره، وجمع للمؤمنين من بعده أطراف الأرض تجبى إليهم ثمراتها وأرزاقها، وجعلهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يحكمون.
وأنت إذا نظرت إلى العالم الإسلامي اليوم ورجعت إلى تاريخ هذا العالم فيما تصرّم من أيامه لوجدت تخلّفًا عظيمًا بيننا وبين أولئك السلف الذين هداهم الله إلى أسباب السعادة فاستمسكوا بها واعتصموا بحبلها فجمعهم الله على قلب رجل واحد. فكان الرجل في أقصى الصين تمتد أخوّته إلى أخيه المسلم فيما تطوّح عنه من بلاد المغرب الأقصى.
فكان الصيني المسلم ينزل أي أمة من الأمم التي تدين بالإسلام فلا يجد الجنسية تفصل بينه وبين العربي أو المصري أو الشامي أو المغربي، بل كانوا جميعًا إخوانا في الله وكانت الدولة في أي أمة من أمم الإسلام تتلقي هؤلاء الناس وتقوم عليهم وتفسح لهم كما تفسح للذين تربوا في ظلها ونشأوا في أرضها، فكان المسلم من أهل الشام يتولى في بلاد المغرب التدريس والوزارة وكثيرًا من مرافق الدولة أو يقوم عليها.
ولا يفرق بينه وبينهم هذه الفتنة السوداء التي ظهرت حديثًا -فتنة الجنسيات. وكانت أخبار كل أمة من الأمم الإسلامية معروفة عند جاراتها وغير جاراتها فيما تقاذف من الأرض، هذا مع بطء المواصلات في ذلك العصر، وقلة أسباب الاتصال والتعارف، إذا قيست بما في هذا العصر من بريد وطباعة وطائرات وبرقيات سلكية ولاسلكية وغير ذلك من أسباب الاتصال التي جعلت العالم كله كأنه أمة واحدة.
فتنة الجنسيات والقومية
أما اليوم فإن الكثير من شباب العالم الإسلامي لا يكاد يعرف عن أقرب جاراته إليه إلا نتفا من الأخبار لا تفي بفائدة، ولا يجتمع من مجموعها ما يمكن أن يسمى علما أو معرفة، وليس ذلك من شيء إلا هذه النزعات الفردية التي مزقت العالم الإسلامي، وهذه الجنسيات البغيضة التي قضت على الحياة السعيدة بين أمم الشرق الإسلامي.
وإنك لترى كثيرًا من شباب الشرق يعرف أخبار فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأميركا وغيرها من بلاد لا يربطه بها دم ولا لغة ولا دين، فإذا ذكرت الأمم التي تربطه بها الدم وتجذبه إليها اللغة ويميل به إليها الدين والعقيدة وقف من ذكرها موقف الغريب الذي أخذته الدهشة وأذهلته الحيرة.
والسبب في هذا التدابر العجيب -بعد الاتصال والإخاء- هو ما أشرنا إليه من ظهور فتنة الجنسيات، ثم انصراف الشباب منا عن تتبع أخبار الأمم الشرقية عامة والإسلامية خاصة، ثم قلة عناية الصحف بأخبار هذه الأمم، ثم هذا الكسل الذي اعترى أهل الشرق فصرفهم عن التزاور والتعارف، هذا مع أن الرحلة هي أهم أسباب المحبة بين الناس وأحسن طرق المعرفة وأجل الأعمال خطرًا في بسط النفس والفكر والامتداد بهما إلى طلب السعادة والخير والمنفعة التي تعم ولا تقف عند الحدود الضيقة التي نصبتها الشهوات المدنية.
كتاب حاضر العالم الإسلامي
ظهر كتاب حاضر العالم الإسلامي للمرة الأولى سنة 1343 من الهجرة، وكان الشباب يغلي في دمي غليان المرجل، وكنت أحب أن أتسقط أخبار الأمم الإسلامية ما استطعت، وكنت أؤمل آمالًا كثيرة يمدها خيالي وتزينها أحلامي، وكان يقوم على تهذيب نفسي وتشذيب آمالي وأحلامي رجل أحب أن اعترف بفضليه عليّ، وهو الأستاذ محب الدين الخطيب، الذي طبع كتاب حاضر العالم الإسلامي بمطبعته للمرة الأولى.
فكان هذا الأستاذ الجليل أول من هداني إلى قراءة هذا الكتاب، وما عليه من تعليقات شيخ الكتّاب الأمير شكيب أرسلان، واستفدت من تعليقاته عليه اكثر مما استفدت من كل كتاب قرأته إلى هذا اليوم، فلما ظهرت هذه المطبوعة الثانية ورجعت إلى قراءته مرة أخرى انفسح لي مجال الفكر فيه أكثر من ذي قبل وكأني ما قرأت منه حرفًا قبل هذه المرة، وذلك لأن الأمير شكيب استوفى أبوابه وحشد لها علما كثيرًا لا يقوم به غيره، ولا غرو، فإن هذا الرجل قد سلخ من عمره خمسين عاما أو تزيد في تتبع الحركات السياسية والدينية والعلمية والأدبية والتجارية التي نشأت وترعرعت في العالم الإسلامي، وبث فيها قلمه روحًا عظيمة، تركت آثارًا في كل بلد إسلامي.
وهذا الكتاب الذي بين يدي هو -فيما أعتقد- أجل ما عمل الأمير وما ترك من أثر، ولا نزال في حاجة إلى قراءته وتدبره والرجوع إليه إذ هو الكتاب الوحيد في العربية الذي يجمع بين دفتيه أخبار العالم الإسلامي، وما ألمّ به وعمل السياسة في إرهاقه وتحطيمه وتمزيقه.
وليس أحوج إلى قراءة هذا الكتاب من شباب العالم الإسلامي الذين انصرفوا عن دراسة شؤون الدول الإسلامية والشرقية، ولم توافهم الصحف بأخبار وافية صحيحة عن هذا العالم. وأنا في كلمتي هذه لا أميز بين مسلم ومسيحي، فإن الإسلام قد أظلّ النصرانية واليهودية في الشرق بظله الرطب زمنا طويلًا، وكانوا جميعًا في أمن وعزة لا يلحقهم حيف ولا تمسهم الذلة، وكان أمن الإسلام أمنهم وعزّه عزّهم، ولم يكن هناك استعمار يجعل الأقليات في بلاد الإسلام زناد بندقيته التي يرمي بها الجامعة العربية الإسلامية.
إن التاريخ لا ينسى أن الجيوش الإسلامية التي قاتلت الصليبيين من أهل الغرب كانت تجمع تحت لوائها المقاتلة من النصارى واليهود وغيرهم، وأن التاريخ لا يستطيع أن يذكرنا بشكوى كانت لنصارى الشرق من المسلمين وأحكامهم، وإن موقف الأقلية المسيحية في سوريا لخير مثل مضروب لذلك العهد المضيء بالعدل والمساواة والحق.
المصدر:
- محمود محمد شاكر، جمهورة المقالات، ص 645