إن المتأمل في كتاب الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طريقة أصحابه، ومن اتبعهم، وفي مذاهب أئمة الإسلام وفقهائهم ومفسريهم ومؤرخيهم, لا يشك في أن عدم اعتبار السنة حجة لمن أولى ما يدخل في قول الله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}[النساء:١١٥] الآية.
أصحاب النبي يقضون في أمور الناس بسنة الرسول
وذلك أن من المعلوم -قطعًا- من جهة النقل المتواتر، أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كان يقضي قاضيهم على الملأ بسنته وهديه، في الحدود والنكاح والمواريث والبيع وغيرها من أبواب العبادات والمعاملات -سواء أكان ذلك مما ذُكر في نص القران أم لا-، ولا يُنكر بعضهم على بعض، بل يُقرونه، ويُمضونه في أموالهم وأعراضهم وسائر أحوالهم، ويُسنِد من يُسأل منهم عن مصدره في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيرضى منه بهذه النسبة، ويقنع بها، وقد يطلب منه مزيد تحقق وتثبت -إن ظنّ المستفهم احتمال وهم الناقل-، فإذا تحققت أقر ورضي. مع أنهم -في ذات الوقت- ينكرون ما يحدثه الناس من الأعمال الدينية مما لا أصل له في كتاب الله وسنة رسولهصلى الله عليه وسلم.
ولا يشك أحد له أدنى دراية بالأخبار والسير أن هذا الأمر متواتر عنهم تواترًا معنويا، وأن المحفوظ من أقضيتهم وتعاملاتهم شاهدٌ على اعتمادهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه؛ ومن يطالع أقضية الصحابة وفتاواهم في الكتب المسندة التي جمعت أخبارهم كمصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة سيجد مئات الأخبار المسندة الصحيحة المثبتة لذلك. فهذا سبيلهم وتلك طريقتهم.
ولا شك أن الصحابة هم أولى من يدخل في المؤمنين الذين سمّاهم الله تعالى في قوله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) فإنه قد شهد لهم -سبحانه- بالفضل والخير بقوله {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًاّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد:١٠] وبقوله سبحانه {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}[التوبة:١٠٠] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ثبت عنهم مقام آخر كذلك؛ ألا وهو تبليغ السنة للتابعين، وتعليمهم إياها قولًا وعملًا، وهذا بمجموعه متواتر تواترًا معنويا لا ارتياب في قطعيته عند أهل السير والحديث وغيرهم من علماء الشريعة، وكُتُب الآثار والأخبار طافحة بذلك.
وهذه بعض النقولات المثبتة للإجماع على حجية السنة:
١- في سياق مناظرة الإمام عبد العزيز الكِناني -رحمه الله تعالى- لبشر المرّيسي -رأس المبتدعة في ذلك الوقت-, قال الكناني معلقًا على قول الله سبحانه وتعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء : ٥٩], فتأمل قول الكناني:(لا خلاف فيه بين المؤمنين), وقوله: (وإنما يشك في هذا الملحدون).
٢- وقال ابن حزم – رحمه الله -: (إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يجري على ذلك كل فرقة في علمها, كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية, حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ, فخالفوا الإجماع في ذلك) .
٣- وقال ابن عبد البرّ القرطبي المالكي -رحمه الله تعالى- في مقدمة التمهيد: (أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمت- على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به؛ إذا ثبت, ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافًا) أهـ. وهذا إجماع على حجية خبر الواحد فضلًا عن المتواتر.
٤- وقال العلائي: (العلماء متفقون في كل عصر على التمسك في إثبات الأحكام بآيات القرآن العظيم وأحاديث السنة) .
٥- وقال ابن القيم – رحمه الله – في قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) : (الناس أجمعوا أن الردّ إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والردّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, هو الردّ إليه نفسه في حياته, وإلى سنته بعد وفاته).
٦- وقال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في «إرشاد الفحول»: (إن ثبوت حجية السنة المطهرة ، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية, ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظّ له في الإسلام).
٧- وقال المعلمي -رحمه الله- في «الأنوار الكاشفة» حين تكلم عن حجية خبر الآحاد: (والحجج في هذا الباب كثيرة, وإجماع السلف على ذلك محقق). وقوله: (محقّق) يدل على حتمية ثبوت هذا الإجماع عنده.
٨- بل إن الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- نقل الإجماع على ما هو أكبر من ذلك، حيث ذكر في الجزء السابع من أبحاث الهيئة: (أنّ ما تفوّه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة إليها كفرٌ وردةٌ عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب, ومن أنكرهما, أو أحدهما, فهو كافرٌ بالإجماع) فهذا النص فيه نقلُ الإجماع على كُفر مُنكِرِها!.
وإذا تأملت سياق هذه الإجماعات, فإنك ترى وضوح قضية حجية السنة عند علماء المسلمين، وقطعيتها، وأنها ليست من مسائل الخلاف المعتبر. فهذا منهج أهل العلم، وهذه طريقتهم وهديهم.
المصدر:
- أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين، ص57