دلالة الدقيق من الخلق على الله

دلالة الدقيق من الخلق على الله | مرابط

الكاتب: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

2881 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

دلالة الدقيق من الخلق على الله مقال من كتاب الحيوان للجاحظ

 

أوصيك أيها القارئ المتفهم، وأيها المستمع المنصت المصيخ، ألا تحقر شيئا أبدا لصغر جثته، ولا تستصغر قدره لقلة ثمن. ثم اعلم أن الجبل ليس بأدل على الله من الحصاة، ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدل على الله من بدن الإنسان. وأن صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليله.


ولم تفترق الأمور في حقائقها، وإنما افترق المفكرون فيها، ومن أهمل النظر، وأغفل مواضع الفرق، وفصول الحدود. فمن قبل ترك النظر، ومن قبل قطع النظر، ومن قبل النظر من غير وجه النظر، ومن قبل الإخلال ببعض المقدمات، ومن قبل ابتداء النظر من جهة النظر، واستتمام النظر مع انتظام المقدمات- اختلفوا.

 

فهذه الخصال هي جماع هذا الباب، إلا ما لم نذكره من باب العجز والنقص، فإن الذي امتنع من المعرفة من قبل النقصان الذي في الخلقة باب على حدة.


وإنما ذكرنا باب الخطأ والصواب، والتقصير والتكميل. فإياك أن تسيء الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق، ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين، أو لأنه قليل النفع والرد؛ فإن الذي تظن أنه أقلها نفعا لعله أن يكون أكثرها ردا، فإلا يكن ذلك من جهة عاجل أمر الدنيا، كان ذلك في آجل أمر الدين. وثواب الدين وعقابه باقيان، ومنافع الدنيا فانية زائلة؛ فلذلك قدمت الآخرة على الأولى.

 

فإذا رأيت شيئا من الحيوان بعيدا من المعاونة، وجاهلا بسبب المكانفة [1] ، أو كان مما يشتد ضرره، وتشتد الحراسة منه، كذوات الأنياب من الحيات والذئاب وذوات المخالب من الأسد والنمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب والدبر، فاعلم أن مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلوى. ومن جهة ما أعد الله عز وجل للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أن الاختيار والاختبار لا يكونان والدنيا كلها شر صرف أو خير محض؛ فإن ذلك لا يكون إلا بالمزواجة بين المكروه والمحبوب، والمؤلم والملذ، والمحقر والمعظم، والمأمون والمخوف.

 

فإذا كان الحظ الأوفر في الاختبار والاختيار. وبهما يتوسل إلى ولاية الله عز وجل، وآبد [2] كرامته، وكان ذلك إنما يكون في الدار الممزوجة من الخير والشر، والمشتركة والمركبة بالنفع والضر، المشوبة باليسر والعسر- فليعلم موضع النفع في خلق العقرب، ومكان الصنع في خلق الحية، فلا يحقرن الجرجس [3] والفراش والذر والذبان ولتقف حتى تتفكر في الباب الذي رميت إليك بجملته، فإنك ستكثر حمد الله عز وجل على خلق الهمج والحشرات وذوات السموم والأنياب، كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنسيم.


فإن أردت الزراية والتحقير، والعداوة والتصغير، فاصرف ذلك كله إلى الجن والإنس، واحقر منهم كل من عمل عملا من جهة الاختيار يستوجب به الاحتقار، ويستحق به غاية المقت من وجه، والتصغير من وجه.

 

فإن أنت أبغضت من جهة الطبيعة، واستثقلت من جهة الفطرة ضربين من الحيوان: ضربا يقتلك بسمه، وضربا يقتلك بشدة أسره [4] لم تلم. إلا أن عليك أن تعلم أن خالقهما لم يخلقهما لأذاك، وإنما خلقهما لتصبر على أذاهما، ولأن تنال بالصبر الدرجة التي يستحيل أن تنالها إلا بالصبر.

والصبر لا يكون إلا على حال مكروه. فسواء عليك أكان المكروه سبعا وثابا، أو كان مرضا قاتلا، وعلى أنك لا تدري لعل النزع [5] ، والعلز [6] والحشرجة، أن يكون أشد من لدغ حية، وضغمة [7] سبع. فإلا تكن له حرقة كحرق النار وألم كألم الدهق [8] ، فلعل هناك من الكرب ما يكون موقعه من النفس فوق ذلك.


وقد عمنا أن الناس يسمون الانتظار لوقع السيف على صليف [9] العنق جهد البلاء؛ وليس ذلك الجهد من شكل لذع النار، ولا من شكل ألم الضرب بالعصا.


فافهم فهمك الله مواقع النفع كما يعرفها أهل الحكمة وأصحاب الأحساس الصحيحة.

 

ولا تذهب في الأمور مذهب العامة، وقد جعلك الله تعالى من الخاصة، فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة، لأنها لم تجعل لعبا، ولم تترك هملا. واصرف بغضك إلى مريد ظلمك، لا يراقب فيك إلا ولا ذمة، ولا مودة، ولا كتابا ولا سنة. وكلما زادك الله عز وجل نعمة ازداد عليك حنقا، ولك بغضا.

 

وفر كل الفرار واهرب كل الهرب، واحترس كل الاحتراس، ممن لا يراقب الله عز وجل؛ فإنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون لا يعرف ربه مع ظهور آياته ودلالاته، وسبوغ آلائه، وتتابع نعمائه، ومع برهانات رسله، وبيان كتبه؛ وإما أن يكون به عارفا وبدينه موقنا، وعليه مجترئا، وبحرماته مستخفا.

 

فإن كان بحقه جاهلا فهو بحقك أجهل، وله أنكر. وإن كان به عارفا وعليه مجترئا فهو عليك أجرأ، ولحقوقك أضيع ولأياديك أكفر.

 

فأما خلق البعوضة والنملة والفراشة والذرة والذبان والجعلان، واليعاسيب والجراد- فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذرء [10] ؛ فربت أمة أجلاها عن بلادها النمل، ونقلها عن مساقط رؤوسها الذر، وأهلكت بالفأر، وجردت بالجراد، وعذبت بالبعوض، وأفسد عيشها الذبان، فهي جند إن أراد الله عز وجل أن يهلك بها قوما بعد طغيانهم وتجبرهم وعتوهم؛ ليعرفوا أو ليعرف بهم أن كثير أمرهم، لا يقوم بالقليل من أمر الله عز وجل.

 

وفيها بعد معتبر لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، وصلاج لمن استبصر، وبلوى ومحنة، وعذاب ونقمة، وحجة صادقة، وآية واضحة، وسبب إلى الصبر والفكرة. وهما جماع الخير في باب المعرفة والاستبانة، وفي باب الأجر وعظم المثوبة.

 


 

  1. المكانفة: المعاونة «القاموس: كنف».
  2. آبد: دائم «القاموس: أبد».
  3. الجرجس: البعوض الصغار «القاموس: جرجس».
  4. الأسر: الشد والعصب وشدة الخلق والخلق «القاموس: أسر».
  5. يقال: هو في النزع: أي قلع الحياة «القاموس: نزع».
  6. العلز: هلع يصيب المحتضر «القاموس: علز».
  7. الضغمة: العضة «القاموس: ضغم».
  8. الدهق: خشبتان يغمز بهما الساق «القاموس: دهق».
  9. صليف العنق: عرضه «القاموس: صلف».
  10. الذرء: النسل والخلق «القاموس: ذرأ».
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاحظ
اقرأ أيضا
كيف تعرف صدق النبوة ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

كيف تعرف صدق النبوة ج2


كثيرا ما يردد العلماء أن مدعي النبوة إما أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين أي أن كل ما يخطر في بالك من الصادقين فإن النبي الصادق أصدقهم وكل ما يخطر في بالك من الكذابين فإن المتنبئ الكذاب أكذبهم وهذا يقتضي عظم التنافر والفرق بينهما حيث الأول في أعلى ما قد يتصوره الإنسان من الصدق والآخر في أسفل دركات الكذب ومن التبس عليه حالهما حري به أن يلتبس عليه صدق أو كذب من دونهما

بقلم: صفحة براهين النبوة
998
أدعو فلا يستجاب لي | مرابط
أباطيل وشبهات

أدعو فلا يستجاب لي


يقول أحد المشككين: أدعو الله كثيرا ولكن لا يستجاب لي والمسلمون يدعون على اليهود المحتلين منذ سنين عديدة ولكنهم لا زالوا هناك ألا يعتبر ذلك شكا في دين الإسلام أو حتى في وجود الله لماذا لا يستجيب الله للدعاء هذه الشبهة رائجة جدا في الأوساط الثقافية وفي الساحات العربية وبين يديكم الرد عليها

بقلم: موقع هداية الملحدين
1094
العربي اليوم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العربي اليوم


العربي اليوم هو أعظم الناس حملا للتكليف لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض ويحمل أيضا أمانة آباء وأجداد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان

بقلم: محمود شاكر
548
لماذا نحب الرسول الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الرابع


أهل السنة والجماعة في باب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حق بين باطلين الباطل الأول: الغلو فيه والباطل الثاني: الجفاء لا نريد نحن أن تقسو قلوبنا على الرسول صلى الله عليه وسلم ونشعر بالجفاء لا نريد أن نحيي قلوبنا بمحبته عليه الصلاة السلام لكن في الطرف الآخر لا نغلو به ونرفعه فوق منزلته

بقلم: محمد المنجد
607
الزواج وطلب العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الزواج وطلب العلم


مقتطف من كتاب إلى الجيل الصاعد للكاتب أحمد يوسف السيد يناقش فيه معضلة طلاب العلم حيث يعتقد البعض أن الزواج سيكون عائقا أمام رحلة الطلب أو أن الوقت سيكون ضيقا ومن هنا يقرر البعض تأخير الزواج لكن الحقيقة عكس ذلك تماما

بقلم: أحمد يوسف السيد
597
شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1


كثيرا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش ودعوى فجة مغرورة أن مطالبة المرأة العربية بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين حيث تطور العالم وبلغ في ابتكاراته العلمية الذروة وتطور المجتمع وأصبح أكثر انفتاحا ونضجا لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى عصور الظلام

بقلم: سامي عامري
1010