دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الأول

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الأول | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2332 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

يقرر منكرو السنة أن الوحي منحصر فيما جاء في نص القرآن، وأنه لا شيء مما يُروى في كتب السنة يصدق عليه أنه وحي من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هو من خرافات المحدثين، وأساطير الأولين. وعند التأمل في نصوص القرآن الكريم نجد أنه يدل دلالة واضحة -لا التباس فيها- على أن الله قد أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأحكام وأخبار هي أعم مما ثبت في نص القرآن، وهي مما بلّغها من سنته ومما علمها أمته.
 
وهذه المسألة من الأبواب الشريفة في العلم، ولأهل التفسير والحديث والأصول كلام كثير في تقريرها، وقد صنف بعض المعاصرين في ذلك سِفرًا جامعًا، وهو الشيخ خليل ملا خاطر في كتاب سماه “السنة وحي”، وهو كتاب نافع جدًا، وفي الباب بحوث ورسائل متعددة، منها، كتاب “الوحي الإلهي في السنّة النبوية” لعماد عبد السميع حسين، وكتاب “السنة النبوية وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم” لأبي لبابة بن الطاهر حسين، وغير ذلك.
 
ويُمكن الاستدلال على أن السنة وحي بأنواع من الأدلة من القرآن والنقل المتواتر، وسأكتفي هنا بذكر بعض وجوه الاستدلال بالقرآن العزيز على أن السنة وحي، غير أني أنبه إلى أن هذا التقرير لا أقصد به أن كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله من الوحي، بل المقصود في الإثبات في هذا المقام أن من السنة ما هو وحي، وأن الوحي ليس منحصرا في النص القرآني.

وأما أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والتعبد فهي على شقين:
 
إما أن تكون وحيًا
وإما أن تكون اجتهادًا

 
والاجتهاد على نوعين:
إما أن يكون اجتهادًا أقره الله تعالى عليه كقوله صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وإما أن يكون اجتهادًا صححه الله له كالاجتهاد في أسرى بدر، والتصحيح الإلهي من الوحي.
 
والمراد بهذا هو التنبيه إلى أن العبارة يقصد بها الإجمال حين أقول (وجوه الاستدلال بالقرآن العزيز على أن السنة وحي).

 

وهذا أوان عرضها:

 

الوجه الأول: الإخبار بإنزال الحكمة المعطوفة على الكتاب.
الوجه الثاني: الإخبار بأن الله تكفل ببيان القرآن، وأخبر عن رسوله بأنه يبين للناس ما نُزل إليهم.
الوجه الثالث: نصوص قرآنية متعددة تدل على نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في مقامات معينة بأحكام وأخبار ليست مذكورة في نص القرآن، منها:
 
١- دلالة آيات الإخبار بنزول الملائكة.
٢- دلالة آيات تحويل القبلة.
٣- دلالة آيات سورة التحريم.
٤- دلالة فتح مكة مع آيات تحريمها.
الوجه الأول: الإخبار بإنزال الحكمة المعطوفة على الكتاب.

 

الحكمة يقصد بها السنة

 

تكرر في الكتاب العزيز ذكر الحكمة في سياقات مختلفة، فتارة تأتي مفردة، وتارة تأتي مقرونة إما بالكتاب، أو بالـمُلْك، أو بآيات الله، أو بغير ذلك. ولا تجد إشكالًا لدى عامة المفسرين في أن الحكمة تُفسّر بحسب سياقها ومتعلقها، فقد تُفسّر بالنبوة، أو بالفهم الصحيح، أو بالفقه في الدين، أو بشيء من الوحي الـمُنزّل، وغير ذلك.
 
وقد ذكر الله في كتابه أنه أنزل الحكمة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أكثر تلك المواضع يذكرها مقرونة بالكتاب معطوفة عليه، وقد ذهب أكثر المفسرين من أئمة المسلمين من مختلف المذاهب الفقهية إلى أن الحكمة المعطوفة على الكتاب إذا كانت متعلقة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد بها سنته. وحكموا بذلك لدلالة العطف المقتضي للمغايرة، ولدلالة سياق بعض الآيات.
 
كما أن مما يُرجح هذا القول أنه قد ثبت بالتواتر المفيد للقطع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علّم أصحابه كثيرًا من أمور الدين مما لم يَذكره الله في نص القرآن، كتعليمه إياهم صفة الصلوات الخمس ومواقيتها وصيغ الأذان، والتشهد، وأحكام الإمامة، وسجود السهو، كما أنه علمهم كثيرا من الذكر والثناء على الله سبحانه، ومن أمور الأدب والصلة والاعتدال، وغير ذلك .
 
وهذا التعليم منه -صلى الله عليه وسلم- موافق لما وصفه الله به من أنه يعلم الأمة الكتاب والحكمة، وإذا كنا قد علمنا نص الكتاب، فقد بقي أن نقول فيما علَّمه أمته -مما تواتر عنه من سنته- أنه الحكمة.
 
وهذا الأمر مهم في معرفة ما يثبت صحة استدلال المفسرين على أن الحكمة هي السنة، لأن كثيرا من المحاورين لمنكري السنة لا يكون لديهم استحضار للمأخذ الذي يُثبت صحة هذا القول، وإنما قد يبنون على اتباع المفسرين على هذا المعنى -ولا بأس بهذا الاتباع غير أنه لا يكفي في مقام المناظرة والجدل-

 

قال ابن تيمية رحمه الله:

 

وليس من شرط المنقول المتواتر أن يكون في القرآن، بل كما تواتر عنه من شريعته مما ليس في القران، وهو من الحكمة التي أنزلها الله عليه، كذلك تواتر عنه من دلائل نبوته ما ليس في القرآن وهو من آياته وبراهينه، وقد قال تعالى في غير موضع “وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة” فالحكمة منزلة عليه وهي منقولة في غير القرآن.

 

هل تفسير الحكمة حادث في الإسلام؟

 

وقد ظن بعض من لم يحرر النظر أن تفسير الحكمة بهذا المعنى حادث في الإسلام، وأنّ أول من قرر ذلك إنما هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأن المسلمين قبله لم يكونوا على هذا الفهم للقرآن، ويرون أن هذا التفسير من الشافعي بداية لمرحلة انحراف في الأمة، ولذلك تجد أن منكري السنة يقفون من الإمام الشافعي موقفًا عدائيًا، ويحمّلونه تبعات كثير من الخلل الفكري الطارئ على الأمة -وحاشاه-.
 
ويربط محمد شحرور بين تفسير الشافعي للحكمة بالسنة وبين الأبعاد الأيديولوجية عنده، وأنه مارس التأطير العقدي والاستبداد المعرفي، فقد قال في كتابه الدولة والمجتمع تحت عنوان “الاستبداد المعرفي”:
 
أمر آخر تم في القرن الثاني الهجري هو تأطير الإسلام من النواحي العقائدية والفقهية والفلسفية، على يد الفقهاء الخمسة وعلى رأسهم الشافعي، وكان ثمة مدرستان: مدرسة أهل الرأي، يتزعمها أبو حنيفة النعمان، ومدرسة أهل الحديث، يتزعمها الشافعي. فعندما أراد الشافعي تأسيس هذه المدرسة، وإعطاءها أبعادها وأطرها الأيديولوجية، اعتمد على ما يلي.. فذكر أمورًا منها: إن مصطلح الحكمة الذي ورد في التنزيل الحكيم، النساء ١١٣ وآل عمران ٨١، يقصد به السنة واستقلالها بالتشريع، واعتبارها وحيا من نمط مغاير لوحي التنزيل، أي اعتبارها إلهاما.
 
ثم قال شحرور: ونحن نرى أن الحكمة لا تعني السنة النبوية لا من قريب ولا من بعيد. والقول بأنهما شيء واحد خطأ.
وقال د. عبد العزيز بايندر: ومن خلال مطالعتنا على موضوع الحكمة وجدنا أنه لم يتحدث فيها من الفقهاء غير الإمام الشافعي رحمه الله.

 

وهذا غير صحيح، فإن تفسير الحكمة -المعطوفة على الكتاب- بالسنة قد ذكره غير واحد من كبار أئمة الإسلام السابقين للشافعي، من أهل العلم بالشرع وبلسان العرب.
 
فقد أسند إمام المفسرين -الطبري- عن التابعي المفسر قتادة بن دعامة السدوسي تفسير الحكمة بالسنة، فقال:

 

وعنى بقوله {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بِيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}: واذكرن ما يُقرأ في بيوتكن من آيات كتاب الله والحكمة. ويعني بالحكمة: ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السنة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة في قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بِيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي: السنة، قال: يمتن عليهم بذلك.

 

وقال ابن كثير رحمه الله:

 

وقوله تعالى: “ويعلمهم الكتاب” يعني القرآن، و”الحكمة” يعني السنة. قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفهم في الدين، ولا منافاة.

 

قلتُ: وقد توفي الحسن وقتادة رحمهما الله تعالى قبل ولادة الإمام الشافعي. غير أن الشافعي يعد أشهر من قرر هذا المعنى من المتقدمين وناظر فيه وذكره في غير موضع من كتبه، وهو من أوسع علماء الشريعة معرفة باللغة مع علمه بالكتاب والسنة وعمل المسلمين.
 
وقد نقل في كتابه جماع العلم نص محاورته مع منكر السنة، وفي هذه المحاورة فوائد في تثبيت تفسير الحكمة بالكتاب،
 
فقال رحمه الله:

 

(قال الله عز وجل “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة”
قال -أي منكر السنّة-: فقد علمنا أن الكتاب كتاب الله، فما الحكمة ؟
قلت -أي الشافعي-: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أفيحتمل أن يكون يعلمهم الكتاب جملة والحكمة خاصة وهي أحكامه؟
قلت: تعني بأن يبين لهم عن الله -عز وعلا- مثل ما بين لهم في جملة الفرائض من الصلوات والزكاة والحج وغيرها؛ فيكون الله قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال: إنه ليحتمل ذلك.
قلت: فإن ذهبت هذا المذهب فهي في معنى الأول قبله، الذي لا تصل إليه إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: فإن ذهبت مذهب تكرير الكلام؟
قلت: وأيهم أولى به إذا ذكر الكتاب والحكمة أن يكونا شيئين أو شيئا واحدا؟
قال: يحتمل أن يكونا كما وصفت كتابا وسنة فيكونا شيئين، ويحتمل أن يكونا شيئا واحدا.
قلت: فأظهرهما أولاهما، وفي القرآن دلالة على ما قلنا وخلاف ما ذهبت إليه.
قال: وأين هي؟
قلت: قول الله عز وجل “واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا” فأخبر أنه يتلى في بيوتهن شيئان.
قال: فهذا القرآن يتلى فكيف تتلى الحكمة ؟
قلت: إنما معنى التلاوة أن ينطق بالقرآن والسنة كما ينطق بها.
قال: فهذه أبين في أن الحكمة غير القرآن من الأولى).
وفي الرسالة قال الشافعي: (فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمة سنة رسول الله).

 

ومُحَصّل القول أن تفسير الحكمة بالسنة قد قال به أكثر المفسرين، وأن ذلك مقتضى العطف، ومفهوم بعض سياقات الآيات، ومقتضى موافقة قول الله سبحانه (ويعلمهم الكتاب والحكمة) لما تواتر من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من أحكام الإسلام ما لم يُذكر في نص القرآن.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين، ص24
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حجية-السنة
اقرأ أيضا
التغريب: الأهداف والأساليب ج1 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج1


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2186
لفظ القراءة | مرابط
اقتباسات وقطوف

لفظ القراءة


والقراءة أيضا لفظ مشترك المعاني يرا به: أن ينظر المرء في كلام مكتوب في صحيفة فيتلوه سرا أو جهرا. بيد أن النظر في الكلام المكتوب معنى مضاف طارئ على أصل معنى القراءة اكتسبه اللفظ وارتداه بالإلف والعادة حتى غلب عليه. وإنما أصل معنى القراءة: أن تتتبع كلاما قائله غيرك فتجمعه في نفسك وتضم بعضه إلى بعض ثم تلفظه سرا أو جهرا مجموعا يتلو بعضه بعضا كما قاله صاحبه. وأنت تقول: قرأ فلان في صلاته سورة كذا وكذا والمصلي لا ينظر في سورة مكتوبة إنما يتلو ما حفظه وجمعه في صدره غير مبدل لكلماته.

بقلم: محمود شاكر
349
أمهات المؤمنين قدوة للعالمين | مرابط
المرأة

أمهات المؤمنين قدوة للعالمين


وأمهات المؤمنين أولى من يقتدى بهن من نساء العالمين خاصة في أمر لو سلمنا أن وجوبه خاص بهن لأجل طهارة قلوبهن لكان الاقتداء بهن فيه من أوجب الواجبات على النساء ذلك أن الشريعة إنما جاءت لتزكية هذه النفوس وتطهيرها

بقلم: د عادل بن حسن الحمد
419
التفريق بين الأطفال في المضاجع | مرابط
مقالات

التفريق بين الأطفال في المضاجع


قال النبي ﷺ:مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع 1 فقوله: وفرقوا بينهم في المضاجع أي: في المراقد وذلك لأنهم إذا بلغوا إلى عشر سنين يقربون من أدنى حد البلوغ وينتشر عليهم آلاتهم فيخاف عليهم من الفساد 2

بقلم: قاسم اكحيلات
770
إعادة تفسير الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

إعادة تفسير الإسلام


تعليق: يدور الحديث في هذا المقتطف حول التيار الإصلاحي الذي خرج من مدرسة الإمام محمد عبده والذي انتهى به الحال في النهاية إلى التلبس بمضامين علمانية وإن قيلت بعبارات إسلامية وهذا المقتطف للكاتب والمؤرخ الكبير المهتم بشؤون الشرق: ألبرت حوراني

بقلم: ألبرت حوراني
2002
دقة القراءة | مرابط
تفريغات ثقافة

دقة القراءة


وعندما نقول اتفق العقلاء هذه تثير في نفسي معنى أن هذا الأمر لا يحتاج إلى العلماء ليدركوه ليس هذا مما يكتسب بالعلم وإنما هو مما تعلمه العقول علم ضرورة وإذا كان الشيخ وهو في معمعان تعليم دقائق العلم يحدثك بحديث تعلمه العقول علم ضرورة يدني هذه الدقائق والخفايا ويقربها حتى تصير مما تعلمه العقول علم ضرورة هو بهذا يعطيك درسا في التربية

بقلم: د محمد أبو موسى
489