علاقة الأخذ بالأسباب بالإيمان بالقدر

علاقة الأخذ بالأسباب بالإيمان بالقدر | مرابط

الكاتب: د علي الصلابي

1389 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إنّ الله تعالى قدّر الأشياءَ بأسبابها، فالقدر يتعلّق تعلقًا واحدًا بالسبب وبالمسبب معًا، أي إن هذا المسبب سيقع بهذا السبب، ومن الأدلة على ذلك قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله خلق للجنة أهلًا، خلقها لهم وهم في أصلاب ابائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنارِ أهلًا، خلقَها لهم وهم في أصلابِ ابائهم، وهم بعمل أهل النار يعملون».

 

وفي المضمار نفسِه أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم صحابته بأنَّ الله كتب المقادير، فقالوا: أفلا نمكثُ على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانَ مِنْ أهلِ السعادةِ فسيصيرُ إلى عَمَلِ أهلِ السعادةِ، وَمَنْ كان من أهلِ الشقاوةِ فسيسيرُ إلى عملِ أهل الشقاوةِ، اعملوا فكلُّ ميسَّرٌ، أمّا أهلُ السعادةِ فييسرون لعمل أهل السعادةِ، وأمّا أهلُ الشقاوة فِييسَّرون لعملِ أهلِ الشقاوة، ثم قرأ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *﴾[الليل: 5 ـ 10]».

 

وفي هذا الحديث النهيُ عن ترك العمل، والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجبُ الأعمالُ والتكاليفُ التي ورد الشرع بها، وكلُّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له، لا يقدر على غيره.
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أرشدَ الأمةَ في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار، إذ هو نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب، التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر.

 

فلا منافاةَ بين الأخذِ بالأسباب، والإيمان بالقضاء والقدر، فَمِنَ القضاءِ ردُّ البلاء بالدعاء، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلاب الرحمة، كما أنَّ الترس سببٌ لردِّ السهم، والماءُ سببٌ لخروج النبات من الأرض، فكما أنَّ الترسَ يدفع السهمَ فيتدافعان، فكذلك الدعاءُ والبلاءُ يتعالجان، وليس مِنْ شرطِ الاعترافِ بقضاء الله تعالى أنْ لا يحملَ السلاحَ، وقد قال تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]، وأن لا يسقي الأرضَ بعد بثّ البذور، فيقال: إنْ سبقَ القضاءُ بالنباتِ نبتَ البذر، وإن لم يسبق لم ينبت، بل رَبْطُ الأسبابِ بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمحِ البصرِ أو هو أقرب، وترتيبُ تفصيلِ المسبّبات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدّر الخيرَ قدّره بسببه، والذي قدّر الشرّ قدّر لدفعه سببًا، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته.

 

ولبيان ارتباط الأخذ بالأسباب وتناسقه مع الإيمان والقدر وفْق الحكمة الإهية يقول الرازي عن تفسير قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]: إنَّه لمّا كان الكلُّ لقدرٍ كان الأمر بالحذر أيضًا داخلًا في القدر، فكان قول القائل: (أيُّ فائدةٍ من الحذر) كلامًا متناقضًا، لأنه لمّا كان هذا الحذر مقدرًا، فأي فائدةٍ في هذا السؤال الطاعن في الحذر؟

 

وحاصلُ تحقيق كلام الرازي: أنَّ القدرَ عبارةٌ عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عملٌ بمقتضى القدر لا بما يضاده.

 

ويؤيّدُ ذلك من السنة النبوية ما ورد أنَّه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ أدويةً نتداوى بها ورُقًى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي مِنْ قدر الله»، وذلك لأنَّ الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فإذا كان قَدْ علم أنَّها تكونُ بأسبابٍ من عمل وغيرِه، وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك، لم يجزْ أن يُظَنَّ أنَّ تلك الأمور تكونُ بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابًا، وهذا عام في جميع الحوادث.

 

إنّ قدر الله تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا، إلا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفًا عن موافقة قدر الله لمأمولنا، فإنِ استفرغنا جهودنا، وحُرمنا المأمولَ، علمنا أنَّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا، فأمّا تركُ الأسبابِ فليس من شأننا، وهو مخالِفٌ لما أراد الله منا، وإعراضٌ عما أقامنا الله فيه في هذا العالم، وهو تحريفٌ لمعنى القدر.

 

إنَّ القضاء والقدر ـ اللذين ورد ذكرهما في القرآن، وجعلهما الناسُ مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة. سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكونَ، وربط فيه بين الأسباب والمسببات، وبيّنَ النتائج والمقدمات ـ سنة كونية دائمة لا تتخلّف، والحاصِلُ أنَّ الإسلامَ لا يسمحُ أن يضلَّ الإنسان أو ينحرفَ عن أوامر الله في عقائده ودينه، ثم يعتذر بالقضاء والقدر، ولو صحَّ ذلك لبطلت التكاليفُ، وكان بعثُ الرسل وإنزالُ الكتب، ودعوةُ الإنسان إلى دين الله وما يجب، ووعده بالثواب لأهل الخير وبالعقاب لأهل الشر باطلًا، لا يتفق وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكليفه الرحيم بعباده.

 


 

المصدر:

علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(46:41)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القدر #الأخذ-بالأسباب
اقرأ أيضا
زكاة القلب | مرابط
مقالات

زكاة القلب


إن زكاة القلب موقوفة على طهارته كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة قال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء والله سميع عليم النور: 21 وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك وكذلك قوله تعالى فى الاستئذان على أهل البيوت: وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم النور: 28

بقلم: ابن القيم
583
مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي


تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: تقديم المصلحة على النص من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فى هذا العصر لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1444
الإنسان ودوامات الحياة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإنسان ودوامات الحياة


لحظة الصدمة تقع دوما حين يتذكر المؤمن لحظة لقاء الله وقرب هذه اللحظة..وقد أشار القرآن إلى مفارقة مؤلمة وهي شدة قرب لقاء الله مع كون الإنسان يغفل كثيرا عن هذه الحقيقة لقاء الله قريب ولا زلنا غافلين كما قال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون.

بقلم: إبراهيم السكران
390
الصين والمسلمون ودورة التاريخ | مرابط
فكر مقالات

الصين والمسلمون ودورة التاريخ


وقد كان التاريخ -دائما- شاهدا على هذا التداول فكان شاهدا على نفوذ وجبروت المصريين القدماء ثم نهايتهم على أيدي البطالمة كما شهد التاريخ علو الرومان وطغيانهم وتجبرهم في الأرض ومعاناة الناس من قسوتهم وجبروتهم كذلك شهد التاريخ نفس الأمر بالنسبة للدولة الفارسية حتى جاء الإسلام والمسلمون فأزالوا الطغيان الرومي والفارسي وأشرق نور العدل على البشرية وعرف البشر معنى المساواة وتذوقوا معاني جديدة لم يتذوقوها من قبل وطرقت أسماعهم ألفاظ لم يألفوها كالرحمة والعدل والحرية والشورى

بقلم: د راغب السرجاني
2101
حجة البعوض غير المرئي | مرابط
اقتباسات وقطوف

حجة البعوض غير المرئي


من ضمن من تحدثوا في إشكالية وجود الشر الباحث ألفن بلانتنجا وهو يتحدث عما يسمى بحجة البعوضة غير المرئية ويربطها بشكل مباشر بقصور الإدراك والعقل الإنساني مقارنة بحكمة وأسباب الله وبين يديكم مقتطف يشرح فيه فكرته بشكل كامل

بقلم: ألفن بلانتنجا
366
الإخلاص والنية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإخلاص والنية


كتاب الإخلاص والنية من أهم ما نقل إلينا عن أبي بكر بن أبي الدنيا ففيه روايات وأخبار كثيرة كلها تدور حول نية العبد وكما نعلم فالنية هي أشق شيء على المؤمن لكي يضبطه ويحدد بوصلته في كل أعماله والأعمال بالنيات وبين يديكم اقتباسات موجزة من هذا الكتاب الماتع

بقلم: ابن أبي الدنيا
742