العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على جزئياته من الشكوك التي لا تُنفَى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أنَّ أكثر الناس يعلمون بالإجمال أن أُمَّهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو كان هذا العلم صحيحًا كاملًا لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس والأرواح؛ لأنَّ كلَّ صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملًا بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإنَّ النزيه ربما ينطق بالسبِّ والهجر من القول؛ لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده، وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم، ولا تنحرف بهم عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17). خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس، وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أنَّ العلم لا يُؤثِّر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنَّهم على شيء من العلم، ويمارون في القول؛ لأنَّه جاء مجملًا، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من التمثيل.
المصدر:
محمد رشيد رضا، مجلة المنار، المجلد الثاني – عدد 13 ذو القعدة 1316هـ . 2/33