القياس الفاسد لشرعنة الاختلاط

القياس الفاسد لشرعنة الاختلاط | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

289 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

هؤلاء الكتبة رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن في اختلاط الرجال والنساء في المطاف والطريق ولم ينكر ذلك، وهو اختلاط في زمن يسير عارض، فجاء هؤلاء وقاسوا على ذلك مشروعية الاختلاط في التعليم والعمل، وهو اختلاط مكث في زمن يطول، وأهدروا اعتبار الفارق بين الزمن اليسير والزمن الكثير بين الاختلاطين.

حسنًا.. إلى أين سيقودنا هذا القياس؟ وما هي النتائج المترتبة على هذا القياس لو أخذنا به؟ أو بلغة "أصولية" ما هي لوازم هذا القياس لو طردناه؟

نماذج عملية للقياس الفاسد

الحقيقة أنه لا يمكن أن نستكشف علمية هذا القياس إلا بتطبيقه على مسائل مماثلة، إذن لنحاول أن نستعمل هذا القياس الذي استعملوه ونطبقه على مسائل شرعية أخرى لنتبين الدقة الأصولية في قياس الاختلاطيين.

قياس الرؤية الشرعية

من المعلوم أن الشارع أباح النظر اليسير إلى المخطوبة والجلوس معها زمنًا يسيرًا بلا خلوة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمغيرة بن شعبة (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) [الترمذي 1987]، وبناء على قياس الاختلاطيين فإنه ما دام الجلوس معها زمنًا يسيرًا جائز، فلا مانع من أن يجلس معها أيامًا وليالي، وينامون في غرفة واحدة بلا خلوة قياسًا على ما سبق، لأنه لا فرق عند الاختلاطيين بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام.

فمن قاس اختلاط المكث على الاختلاط العارض؛ فهو كمن قاس النوم مع المخطوبة بلا خلوة على الجلوس اليسير مع المخطوبة بلا خلوة!

قياس الحجاب في الصلاة

خذ مثالًا آخر، فمن المعلوم أن المرأة تحتجب في الصلاة، فإذا انكشف منها شيء في زمن يسير ثم سترته فإنها لا تبطل صلاتها للعفو عن الزمن اليسير [المغني لابن قدامة 1/350]، فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه ما دام يجوز لها انكشاف عورتها في الصلاة بزمن يسير فلا مانع إذن أن تنكشف طوال الصلاة قياسًا على ذلك، لأنه لا فرق بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام عند الاختلاطيين!

وهذا ليس خاصًا بأحكام المرأة، بل في كل أبواب فقه الشريعة تجد الشارع إذا رخص في الزمن اليسير لم يسامح في الزمن الكثير، ولم يجز قياسُه عليه، ولنضرب على ذلك أمثلة ونظائر أخرى من أبواب متفرقة من فقه الشريعة ليستيقن الباحث بمضمون هذا الأصل الشرعي:

قياس مكث الجنب في المسجد

فمثلًا، الله تعالى أجاز للجنب اللبث زمنًا يسيرًا في المسجد كما قال تعالى (وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء:43]، فأجازه على وجه عبور السبيل لأنه زمن يسير، فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه ما دام لبث الجنب زمنًا يسيرًا في المسجد يجوز، فكذلك يجوز أن يعتكف هذا الجنب ليلةً في المسجد -أيضًا- قياسًا على ما أجازته الآية من اللبث زمنًا يسيرًا، فهل هذا قياس مقبول؟!

فمن قاس اختلاط المكث على الاختلاط العارض؛ فهو كمن قاس اعتكاف الجنب على لبث الجنب في المسجد، فكلاهما مهدرٌ اعتبار تفريق الشارع بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام.

قياس الغفوة

وكذلك -أيضًا- جعل الشارع الغفوة اليسيرة لا تنقض الوضوء لحديث أنس (كان أصحاب رسول الله ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون) [مسلم 859] لأنه زمن يسير، فهل نقول إن النوم زمنًا طويلًا لا ينقض الوضوء -أيضًاً- قياسًا عليه، ونهدر اعتبار الفارق الشرعي بين الزمن اليسير والكثير في الأحكام؟!

قياس الموالاة

وكذلك -أيضًا- مسائل (الموالاة الزمنية) في الأحكام، مثل (الموالاة في غسل أعضاء الوضوء، والموالاة بين كلمات الأذان، والموالاة بين أشواط الطواف، الخ) وهي كثيرة منبثة في أبواب الفقه، فالفقهاء عامةً يعتبرون الانقطاع زمنًا يسيرًا لا يقدح في الموالاة.

فبناءً على قياس الاختلاطيين فإنه إذا جاز أن تنقطع الموالاة -مثلًا- في غسل أعضاء الوضوء بزمن يسير فلا مانع إذن أن تنقطع بزمن طويل، فيتمضمض المتوضئ اليوم ويستنشق الأسبوع القادم ويعتبر وضوءًا واحدًا! لأنه لااعتبار عندهم في الفرق بين الزمن اليسير والكثير.

وكذلك -أيضًا- جواز خروج المعتكف للجنازة لأنه زمن يسير بخلاف الزمن الطويل [المجموع للنووي، 6/536]
وكذلك -أيضًا- نقص الحول ساعة أو ساعتين لا يمنع الزكاة لأنه زمن يسير، بخلاف الزمن الطويل. [المغني، 2/317]

قياس الزمن الكثير على الزمن اليسير

حسنًا .. الأمثلة كثيرة، لكن تبين من الصور السابقة موضع الإشكال الأصولي في كلام هؤلاء الاختلاطيين. فالانحراف الأصولي عندهم أنهم قاسو "الزمن الكثير على الزمن اليسير"، فصار مؤدى كلامهم أن طول الزمن وقصره لا أثر له على الأحكام، فلم يفهموا اعتبار الزمن في فقه الفروع، وتوهموا أن الحكم الشرعي إذا ثبت للزمن اليسير ثبت للزمن الطويل، ولذلك جاؤوا بهذا القياس الفاسد الاعتبار، وصار مقتضى قياسهم الفاسد أن كل ماعفت الشريعة فيه عن اليسير يعفى فيه عن الكثير!

وقد نبه الفقهاء الكبار رحمهم الله في مسائل (اليسير والكثير) على عدم جواز قياس الكثير على ثبوت الرخصة في اليسير كما يقول ابن قدامة مثلًا (ولا يصح قياس الكثير على اليسير)[المغني 1/393]
كما بين رحمه الله أثر كثرة اليسير على الحكم في مسألة مماثلة فقال (الأفعال المعفو عن يسيرها إذا كثرت أبطلت) [المغني 1/399]

وترخيص الشارع في الزمن اليسير ليس مختصًا بمسألة (الاختلاط بين الجنسين)، بل له نظائر شرعية كثيرة كما سبق، ومن ذلك -أيضًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن (تأخير الوصية ليلة أو ليلتين) قال العلامة العراقي (فيه الإشارة إلى اغتفار الزمن اليسير) [طرح التثريب، 6/191].

والمراد من هذه النماذج السابقة كلها توضيح الخلل في قياس الاختلاطيين، وأنهم لما رأو النبي ترك الناس في الطواف والطريق يختلطون لأنه زمان يسير عابر ظنوا أنه يجوز إذن أن يجلسوا مع بعضهم مختلطين في مكتب واحد أو مقاعد دراسية واحدة طوال النهار ولمدة سنوات مع شدة الإفضاء إلى الفتنة! فهل يقول هذا رجل شم بأنفه كتب فقه الشريعة أو جالس أهل العلم الربانيين؟!

فثبوت الرخصة في شيء يسير لا يجوز أن يقاس عليه الشيء الكثير، كما نبه ابن قدامة في موضع مماثل فقال: (الغرر اليسير إذا احتمل في العقد, لا يلزم منه احتمال الكثير) [المغني 4/156]

ومن المهم ها هنا التنبيه إلى أن (الزمن) طولًا وقصرًا ليس هو العلة التامة في الاختلاط، بل هو قرينة من القرائن والأوصاف المؤثرة، وإنما المناط التام في الاختلاط وهو المناط الذي لا ينخرم فهو (قوة الإفضاء إلى الفتنة) وليس الزمن إلا وصف أغلبي من الأوصاف المؤثرة في قوة الإفضاء إلى الفتنة، فكلما اشتد إفضاء الاختلاط إلى الفتنة حرم، وكلما ضعف إفضاء الاختلاط إلى الفتنة شرع. ومن تدبر فتاوى العلماء الربانيين من السلف ومن بعدهم رأى أنها كلها تدور حول شدة الإفضاء إلى الفتنة، ومن ذلك فتوى عائشة رضي الله عنها حين قالت: (لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن) [البخاري، 869].

فعائشة ها هنا تتحدث عن أمر كان مشروعًا، لكنها لما رأت أن الفتنة اشتدت، أشارت إلى أن ذلك يؤول إلى التحريم، وأن هذا هو الذي فقهته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاختلاط
اقرأ أيضا
ردود علماء الغرب على الإلحاد المعاصر | مرابط
مناقشات

ردود علماء الغرب على الإلحاد المعاصر


كتاب ردود علماء الغرب على الإلحاد المعاصر هو في الأصل رسالة دكتوراه نوقشت وأجيزت في قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية لكن الكتاب ليس مجرد عمل أكاديمي بحت وإنما هو في الحقيقة نتيجة تجربة ومجاهدة ثرية ومثيرة للباحث الدكتور عبدالله السويدي يتبين بها معنى أن الله تعالى إذا أراد شيئا هيأ أسبابه وأن الإنسان إذا جاهد في الله وسعى بإخلاص في طلب الحق هداه الله تعالى ووفقه وصرف عنه ما يعيقه عن الوصول إلى غايته.

بقلم: عبد الله القرني
440
لا خير في كثير من نجواهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا خير في كثير من نجواهم


قرأ الإمام اليوم فينا آية انهمرت مع حروفها أمام ناظري كثير من السجالات الفكرية المعاصرة يسكبون ساعات المقاهي في نقاشات فكرية متشعبة تسمع شرارتها الأولى وتغيب البقية وسط الضجيج والله يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فيا ضيعة الأعمار

بقلم: إبراهيم السكران
424
الغضب لله والغيرة على حرماته | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغضب لله والغيرة على حرماته


وإن الغضب لله والغيرة على حرماته من أهم نتائج الإيمان وعلاماته وكما أن محبة الله مقترنة بمعرفته ملازمة لها فإن الغيرة لا تنفك عن المحبة وإن المحب يغار وغيرته تلك علامة حبه وبذلك نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مشاعر المؤمن تجاه حرمات الله: إن المؤمن يغار والله أشد غيرة

بقلم: محمد علي يوسف
376
التوحيد في حياة الناس | مرابط
تعزيز اليقين

التوحيد في حياة الناس


لقد كانت حياة الناس قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتوحيد الله تعالى في حالة متردية من الجهل وعبادة الأصنام والأحجار والطواغيت ويستطيع الناظر لحياة المسلمين أن يرصد آثار التوحيد في حياتهم من مختلف الجهات المادية والعقلية والعقدية وبين يديكم مقال مختصر يرصد لنا هذه الفوائد والثمار والآثار

بقلم: أحمد خالد العتيبي
693
لن نصلح إلا بما صلح به السلف | مرابط
تفريغات

لن نصلح إلا بما صلح به السلف


أنزل الله تبارك وتعالى هذا الدين ليكون منهجا للبشرية وقام محمد صلى الله عليه وسلم -نبي هذه الأمة- بهذا الدين خير قيام حكم به الحياة وبلغه إلى العالمين ومضت الفترة التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لتكون هي النموذج الذي يحتذي المسلمون حذوه ويسعون دائما لأن يصلوا بأنفسهم وبجماعتهم إلى المستوى الذي وصل إليه المسلمون في تلك الأيام

بقلم: عمر الأشقر
584
الدعاة.. بين الزينة والوقار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الدعاة.. بين الزينة والوقار


ومهما كان الواعظ شابا متزينا للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين

بقلم: أبو حامد الغزالي
479