شهوة الجاه

شهوة الجاه | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2614 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

شهوة الجاه هي أم الشهوات؛ ﻷن الجاه إذا تحقق حقق بقية الشهوات وجلبها جميعًا، وأما غير شهوة الجاه، فلا يلزم إذا تحققت أن يُحقق الجاه معها.
 
ولشهوة الجاه فروع كثيرة، فإذا تعلّقت النفس بها، تحايلت على كل أسبابه التي توصل إليه بحيل تُحيّر العقل حتى تستدعي مدحها بأساليب ذمّها، وربما تتحمل ما تكره ليمدحها الناس؛ حتى ربّما تقتحم الموت لتُمدح بالشجاعة، فتُحبُّ المدح من ورائها وهي ميّتة، ولو لم تسمع أصوات المادحين، ولم تستمتع بآثار مدحها مع تقدير وتعظيم وإجلال.
 
ولا يوجد شهوة تقود الإنسان وتأسر عقله كشهوة الجاه إذا تمكّنت منه، وهي شهو تتشكل في النفس بأشكال تستعصي معرفتها في كثير من الأحيان على الإنسان، فربما تكون ظاهرة، وربما تكون خفيّة، وربما تكون مستترة تحت شهوة أخرى، متخفية في النفس، فتريد أن ترتفع على غيرها فتتخذ غيرها عتبة، وإذا عرف العقل مداخل النفس وطرقها، استطاع إغلاق منافذ ذلك عليها؛ حتى لا تؤثر فيه وهو لا يشعر.

 

طرق تحقيق النفس للجاه:

 

وطرق النفس في تحقيق شهوة الجاه على نوعين:

 

النوع الأول: طرق ظاهرة:

 

وهي التي تظهر درجاتها وتسلسلها في تحقيق غاية الجاه، وطلب الشهرة، فالوسيلة تكون فيها مثل الغاية، كلها تؤدي إلى قوة الجاه وطلب المحامد؛ كمن يطلب الجاه بالكرم والمال، ومن يطلب الجاه بالعلم والعمل، ومن يطلبه بالفصاحة والبيان، ومن يطلبه بالرأي والحنكة والفكر، والحسب والنسب، وهذه وسائل معتادة للوصول إلى غاية الجاه.
 
وهذه الوسائل وسائل ليست مذمومة في نفسها ولكنها تصنع جاهًا، ومحبة الجاه والذكر الحسن، وكراهية الذكر السيئ: طبع الناس الأسوياء، ولكن الكلام هنا هو عن شهوة الجاه، وهي قدر زائد عن الطبع الذي يشترك فيه كل الناس، وهي التي تؤدي إلى جعل الجاه غاية ومنتهى المطالب، فيأخذ الإنسان الوسائل لأجل تحقيق تلك الغاية.
 
وهذه الطرق الظاهرة مع كونها ليست مذمومة في نفسها، فإنها إذا كانت لأجل تحقيق الجاه كانت مذمومة؛ لأن الجاه إذا كان غاية ومنتهى، فإن من يطلبه إذا لم يجده بهذه الوسائل فسيطلبه بغيرها من وسائل السوء، وربما يتخذ وسائل الخير حتى توصله إلى الغاية، فإذا لم يجدها هناك، فإنه سيتغير ويترك تلك الوسائل التي أفنى فيها عمره الطويل، ويبحث عن أخرى، وهذا تفسير سلوك كثير من الذين يتغيرون عن مبادئهم وعن أصولهم التي كانوا عليها.
 
عند انتقال الجاه من موضع إلى موضع آخر، ومن مكان إلى مكان، ومن مبدأ إلى مبدأ، والنفس لا بد أن تجد مسوّغًا لتحولها ذلك، فربما وصفت تحولها بالتجديد والمراجعة؛ وذلك أن التحولات في المبادئ ليست كالتحولات المادية؛ فإن التاجر الذي يبيع الذهب إذا لم يجد لتجارة الذهب سوقًا، فإنه ينتقل إلى بيع ما يحتاج إليه الناس، ولا يواري ويدلّس في انتقال ذلك؛ ﻷن غايته تتفق مع وسائله، وكلاهما ظاهر لنفسه وللناس، وأما طالب الجاه، فلا تتفق غاياته مع وسائله، فوسائله معلنة وغاياته خفية لا يظهرها، بخلاف المادي؛ فهو واضح الوسائل وواضح الغايات.

 

النوع الثاني: طرق خفية

 

وهي التي لا يظهر كونها تؤدي إلى الجاه، بل ربما تكون فيما يبدو للناس معاكسة له، وهذا بحسب يقظة عقل الإنسان وحذاقته، وبحسب ما يحمله من إيمان، وغالب هذه الطرق والوسائل الخفية تكون في أذكياء العقول وأقوياء الإيمان، وكلما قوي العقل والإيمان خفيت تلك الطرق، وكلما ضعفا ظهرت.

 

طلب الجاه بأفعال مناقضة له:

 

وشهوة الجاه تبحث عن وسيلة تحققها في هذا النوع من الناس؛ حتى تخرج في أفعال مناقضة في ظاهرها للجاه، وربما خدعت صاحبها حتى يشتهي تلك الأفعال؛ ﻷنها تؤدي إلى الوصول إلى تلك الغاية من غير أن يتّهمه الناس بحب الجاه والسعي إليه، بل ربما يصفونه بالخمول والخفاء، والزهد والورع، والإخلاص والصدق.
 
وإذا كان الإنسان ذا عقل ورجاحة وعلم، ومعرفة وإيمان، فإذا رأت منه نفسه الحذر من الجاه، تخفّت واستترت بصورة شهوة مناقضة لها، فتتخذ النفس الخمول، وتتظاهر بالتواضع، وهي تريد عكس ذلك؛ تريد الظهور والكبر.
 
وذلك أن طلب الجاه بالبروز للمجالس، وكثرة الكلام، وظهور الصورة أمام الناس بسبب وبلا سبب، وتتبع مواضع المدح وحب أهله مهما كانوا، والبعد عن مواضع النقد وكره أهله مهما كانوا -هذا كله من الصور الظاهرة لشهوة الجاه، فإذا كان العقل عالما بهذه الصورة حذرًا منها، فإن النفس تتحايل عليه بصورة خفية أخرى؛ حتى تحقق المقصود بطريق غير معهود؛ حتى تجعله يطلب الجاه بالخمول، ويطلب الرفعة بالتواضع، ويطلب الغنى بالبذاذة، ويطلب المدح بذم النفس وذكر عيوبها، وهذا يُبتلى به بعض أهل المعرفة والعلم والدين.
 
طلب النفس للشيء بفعل ضدّه سلوك لها معروف، وربما يفعله بعض العقلاء سياسة، وفي هذا يقول الشاعر:
 
أُهين لهم نفسي لكي يكرمونها    ...   ولن تكرم النفس التي لا تهينها
 
والطرق والوسائل الخفية في طلب الجاه في هذا النوع لا حد لها ولا حصر، حتى يستميت بعضهم في البعد عن الناس؛ حتى لا يُذكر ويُرفع، وهو في باطنه يريد أن يُذكر بحب البعد عنهم لأجل ذلك، وإذا سُئل عن شيء يقول: لا أدري، وهو يريد أن يوصف بالحذر من القول بلا علم؛ حتى يقول: لا أدري فيما يدري، وهذا في نفسه شر ممن يقول: أعلم فيما لا يعلم، وإن كان الثاني شرًا منه في ضرره على الناس.

 


 

المصدر:

  1. عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، الفصل بين النفس والعقل، ص103
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاه #السلطان
اقرأ أيضا
نحن مثلكم ننتقد الدين | مرابط
فكر مقالات

نحن مثلكم ننتقد الدين


في عالمنا الإسلامي -العربي منه وغير العربي- مخلوقات غريبة تريد أن تجمع بين المتناقضات ولا تريد مع ذلك أن يعترض على تناقضها معترض يريدون أن يقولوا لإخوانهم الذين كفروا من أهل الغرب: إنما نحن مثلكم ننتقد الدين كما تنتقدون ولا نلتزم به كما أنكم لا تلتزمون ولا نترك فرصة للسخرية منه ومن المستمسكين به إلا اهتبلناها كما تهتبلون ونرى كما ترون أنه من حق الأديب والفنان أن ينتقد قيم المجتمع ومعتقداته ويدعو إلى نبذها لأنه لا يكون أديبا أو فنانا مبدعا إلا إذا فعل كل هذا بحرية كاملة كما تفعلون

بقلم: الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس
628
الموقف من آيات الصفات | مرابط
تعزيز اليقين

الموقف من آيات الصفات


وأما ما ورد من آيات الصفات وأحاديثها فالذي يفهم منها هو أن لله جل ذكره مطلق يد ووجه ونحو ذلك مما ورد أما أن يدل على ماهية أو كيفية ونحوها فلا بل لو قيل: إن ملكا من الملائكة له رأس لما فهم منه إلا أن له رأسا فحسب فأما تفصيله فكلا

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
299
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج3 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج3


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
470
الانحراف العقدي يبدأ صغيرا ثم يستفحل: ابن رشد الحفيد نموذجا | مرابط
فكر

الانحراف العقدي يبدأ صغيرا ثم يستفحل: ابن رشد الحفيد نموذجا


ولو تأملت ستجد أن هذين السببين ترجع إليهما أسباب انحراف جميع الفرق.. فكلهم: حصل عندهم خلل في فهم النصوص فهما يتوافق مع فهم السلف. وحصل عندهم انحراف يتناسب في شدته واتساعه مع البعد عن الفهم الصحيح للنصوص.

بقلم: أحمد بن محمد الخليل
412
تجربة محاكم التفتيش الأوروبية على الشواطئ الإسلامية | مرابط
تاريخ

تجربة محاكم التفتيش الأوروبية على الشواطئ الإسلامية


شكلت المكائد الأوروبية للنيل من المسلمين والتنكيل بهم وتهجيرهم من الأندلس بداية موجة صليبية ثانية بعد الموجة الصليبية الأولى التي شنتها على بلاد الشام ومصر القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين فحقد الإسبان والبابوية على المسلمين والرغبة في الانتقام منهم في الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492م جعلهم يؤسسون ما سمي في الأدبيات التاريخية بمحاكم التفتيش التي حاولوا نقل تجربتها من مدن الأندلس إلى شواطئ شمال إفريقيا المسلمة في المراحل اللاحقة فما هي محاكم التفتيش

بقلم: علي محمد الصلابي
2286
العربي اليوم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العربي اليوم


العربي اليوم هو أعظم الناس حملا للتكليف لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض ويحمل أيضا أمانة آباء وأجداد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان

بقلم: محمود شاكر
538