عجز العقل عن إدراك الحقائق كاملة

عجز العقل عن إدراك الحقائق كاملة | مرابط

الكاتب: عمر الأشقر

510 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وإن كثرة المذاهب والعقائد والفرق جعلت الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الشك والحيرة والتردد، بل تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين، التي لا تجد النفس لها مدفعًا، والتي تأسر النفوس وتخضع لها العقول.

 

الفكر الإنساني لا يستطيع أن يقيم من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تأريخ الإنسان وواقعه أصولًا توقفه على اليقين المنافي للشك، والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يحسن العقل الإنساني النظر فيه.

 

إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، فليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟ لذلك قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" [الإسراء:85].

 

إذا كان هذا هو شأن الإنسان مع الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم في البحث العقلي المجرد عن خالق الوجود، وعن العوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، وعن العوالم التي سيصير إليها الإنسان بعد الموت كالبرزخ واليوم الآخر؟ إن الإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، وسيبقى طيلة عمره حائرًا مترددًا.

 

ومتى لم يجد الإنسان برد اليقين في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم عليها حياته، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة وغايته التي يرمي إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته وأوجدت الكون، فإنه سيعيش في شقاء، وسيضل المسار في حين أنه يظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف المقصد، وأوشك أن يصل، ثم يكتشف أن ذلك وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، ثم ينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.

 

ولن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي الوحي من الفلاسفة والمفكرين، ولكنني سأحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئًا ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا ورائه طويلًا.

 

فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيرًا من العنت، ثم يعلن أخيرًا أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه ( أقسام اللذات ) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال:

نهاية إقدام العقول عقـــال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبــال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

 

ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه:5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فاطر:10]، وأقرأ في النفي: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" [الشورى:11]، "وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا" [طه:110]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

 

ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) فيقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سـن نادم

 

ولا أنسى الجويني، وهو الذي كان يدعى بـ(إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول:

لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.

 

وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئًا، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول:

اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئًا.

 

الوحي يهدي العقل

إن الله العليم القدير الحكيم هو الذي خلقنا، وهو أعلم بنا من أنفسنا، فهو يعلم أننا بحاجة إلى معرفته لأنه خالقنا، ويعلم أن نفوسنا لا يمكن أن يقر لها قرار ما لم تعرف الذي خلقها، وما لم تعرف الطريق إليه، ويعلم كذلك أن العقل الإنساني الذي وهبه لنا لا يمكن أن يصل بنفسه إلى معرفة صفات وأسماء خالقه وإلهه، ولا يعلم كيف يعبده.

 

فتكفل لأبينا آدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض أن يمد ذريته من بعده بالنور والهدى، وهو الوحي الذي يعرفهم بربهم، وبالحقائق الكبرى التي لا بد لهم منها، وتكفل أيضًا لمن اتبع نوره المنزل على الأنبياء بالخلاص من الضلال الذي يعيش فيه البشر، وبالنجاة من الشقاء الذي تتردى فيه القلوب والنفوس، وقد توعد الرافضين لوحيه وهداه بالحياة الضنكة الشقية في الدنيا، وفي الآخرة توعده بحياة أشد ضنكًا وشقاء.

 

قال تعالى: "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة:38].

وقال: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى" [طه:124-127].

 

ولقد بقيت البشرية بعد أن هبط آدم إلى الأرض، وتكاثرت ذريته على التوحيد، فكان الناس أمة واحدة، ولكن البشر فيما بعد ضلوا في إلههم ومعبودهم، فعبدوا من دونه أولياء؛ فاتخذوا ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، فكانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، فأرسل الله لهم أول رسله، وهو نوح عليه السلام، فأنذرهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد من دونه، فآمن له قليل واستكبر منهم الكثير، فأهلكهم الله تعالى.

 


 

المصدر:

محاضرة التراث العقائدي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العقل-الغربي
اقرأ أيضا
زهد سعيد بن جبير | مرابط
مقالات

زهد سعيد بن جبير


حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عمر بن أيوب حدثنا جعفر بن برقان عن ابن منبه قال: طوبى لمن نظر في عيبه عن عيب غيره طوبى لمن تواضع لله من غير مسكنة ورحم أهل الذل والمسكنة وتصدق بمال جمع من غير معصية وجالس أهل العلم والحلم والحكمة ووسعته السنة ولم يتعدها إلى البدعة

بقلم: أحمد بن حنبل
669
منشأ الخذلان عدم سؤال الهداية | مرابط
مقالات

منشأ الخذلان عدم سؤال الهداية


من جميل إشارات ابن تيمية قوله: كثير من خطأ بني آدم من تفريطهم في طلب الحق لا من العجز التام جامع الرسائل 2411 ومن أنواع هذا التفريط عدم سؤال الله الهداية بصدق ﻷن من سأل الله الهداية صادقا هاه وإذا فرط العبد في سؤال الله الهداية خذل وأسلمه الله إلى هواه.

بقلم: د. طلال الحسان
255
نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات

نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1329
موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج1 | مرابط
فكر مقالات

موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج1


في هذا المقال تأصيل هام لموقف الصحابة رضوان الله عليهم من الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه نظرا لكثرة الشبهات والأباطيل التي أثيرت حول هذا الموضوع وكثرة الأخبار الباطلة والمزعومة التي يوردها البعض عن الصحابة وأهل العلم ولا تخلو من لبس وإشكال ولذلك يقف بنا الكاتب الدكتور سلطان العميري على حقيقة الأمر

بقلم: د سلطان العميري
2054
المؤسسة السياسية الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

المؤسسة السياسية الغربية


أما الوجه السياسي للحضارة الغربية فهو وجه كالح بكل معنى الكلمة فالمؤسسة السياسية الغربية مؤسسة إمبريالية استعمارية تمتص ثروات الأمم الأخرى وليس لديها أية حواجز أخلاقية أمام مصالحاه فهي ديمقراطية شفافة في السياسة الداخلية -غالبا- ديكتاتورية معتمة في السياسة الخارجية دائما

بقلم: إبراهيم السكران
392
آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي | مرابط
العالمانية

آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي


وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم وإليك بعض الآثار السيئة التي جنتها المجتمعات الإسلامية من تطبيق العلمانية.. يذكرها ويفصلها لنا الدكتور سامي عامري

بقلم: حمود الرحيلي
778