لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها | مرابط

الكاتب: محمد البشير الإبراهيمي

1603 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هذا العنوان جملة إن لم تكن من كلام النبوة فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها.

 

صلاح أمتنا الإسلامية

والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التاريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء. فلو نطقت به الأرض لأخبرت أنها لم تشهد منذ دحدحها الله أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها مجموعة من بني آدم اتحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله قومًا بدؤوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم، وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالًا صحيحًا للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة، ولم تشهد أمة وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة.
 
هذه شهادة الأرض تؤديها صامتة فيكون صمتها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين، ثم يشرحها الواقع، ويفسرها العيان الذي تحجبه بضعة عشر قرنًا، بل إن هذه الأمة استقامت في مراحلها الأولى على هدي القرآن، وعلى هدي من أنزل على قلبه القرآن فبينه بالأمانة، وبلغه بالأمانة، وحكم به بالأمانة، وحكمه في النفوس بالأمانة، وعلم وزكى بالأمانة، ونصبه ميزانًا بين أهواء النفوس، وفرقانًا بين الحق والباطل، وحدًّا لطغيان الغرائز، وسدًّا بين الوحدانية والشرك، فكان أول هذه الأمة يحكمونه في أنفسهم، ويقفون عند حدوده، ويزنون به حتى الخواطر والاختلاجات، ويردون إليه كل ما يختلف فيه الرأي، أو يشذ فيه التفكير، أو يزيغ فيه العقل، أو تجمح فيه الغريزة، أو يطغى فيه مطغى النفس.
 

القرآن الذي صلحت به الأمة

فالذي صلح به أول هذه الأمة حتى أصبح سلفًا صالحًا هو هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام، وأنه موعظة، وأنه نور، وأنه بينات، وأنه برهان، وأنه بيان، وأنه هدى، وأنه فرقان، وأنه رحمة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه قول فصل وما هو بالهز ل .  ووصفه من أنزل على قلبه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخلق جديده، ولا يبلى على الترداد، ولا تنقضي عجائبه، وبأن فيه نبأ من قبلنا، وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أو علينا.
 
القرآن هو الذي أصلح النفوس التي انحرفت عن صراط الفطرة، وحرر العقول من ربقة التقاليد السخيفة، وفتح أمامها ميادين التأمل والتعقل، ثم زكى النفوس بالعلم والأعمال الصالحة، وزينها بالفضائل والآداب. والقرآن هو الذي أصلح بالتوحيد ما أفسدته الوثنية، وداوى بالوحدة ما جرحته الفرقة واجترحته العصبية، وسوى بين الناس في العدل والإحسان، فلا فضل لعربي - إلا بالتقوى -  على عجمي، ولا لملك على سوقة إلا في المعروف، ولا لطبقة من الناس فضل مقرر على طبقة أخرى.
 
والقرآن هو الذي حل المشكلة الكبرى التي يتخبط فيها العالم اليوم ولا يجد لها حلًا، وهي مشكلة الغنى والفقر. فحدد الفقر كما تحدد الحقائق العلمية، وحث على العمل كما يحث على الفضائل العملية، وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقًّا معلومًا في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه، فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم، فلا تستشرف إليه نفسه، ولا تمتد إليه يده.
 
والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار، فلزم كل واحد قدر ه، فكان كل واحد كوكبًا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صير كل فرد مطمئنًا إلى مكانه من المجموع، فخورًا بوظيفته، منصرفًا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفًا عند حدوده من غيره، عالمًا أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقها واستوقن لها من الرجل، واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن، وحدد له يومه فهو منه في عدل ورضى، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء، ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، ما دام سيده يرى في عتقه قربة وطريقًا إلى الجنة وكفارة للذنب.
 
كذلك وضع القرآنة الحدود بين الحاكمين والمحكومين، وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} وأن في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس.
 
القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر، ولا يهضم له حق، على أساس من الحب والعدل والإحسان. والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، ولا يضيع له مطلب.
 
هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه...
 
فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه، وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير.

 


 

المصدر:

  1. آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، 4/93، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م.
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأمة-الإسلامية
اقرأ أيضا
مزايا العقيدة الإسلامية | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

مزايا العقيدة الإسلامية


إن عقيدتنا الإسلامية جمعت الكثير من المزايا التي تضعها في مكانة عالية مقارنة بجميع العقائد الأخرى وفي هذا المقال يذكر لنا الشيخ محمد صالح المنجد بعض مزايا العقيدة الإسلامية مثل موافقتها لفطرة الإنسان وثباتها على مر الأزمان ووضوح أدلتها أمام الجميع تبعد المسلم عن الشك والوهم وتوحد صفوف المسلمين وغير ذلك

بقلم: محمد صالح المنجد
2253
اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي | مرابط
اقتباسات وقطوف

اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي


وأما اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الأخروي فظاهر وجعل الله التسوية بين المحسن والمسيء حكما سيئا منافيا للحق الذي خلقت به السماوات والأرض والواقع أن هذا التفريق الذي يقتضيه عدل الله تعالى وحكمته غير متحقق تماما في الدنيا

بقلم: د سعود عبد العزيز العريفي
740
ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا | مرابط
تفريغات

ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا


الإيمان بالإسلام كتابا وسنة هو الذي يوفق أفق المؤمن وعقله وتفكيره والعكس بالعكس تماما لهذا نحن ندعو دائما وأبدا إلى اتباع الكتاب والسنة ليس على طريقة التأويل -هذه الطريقة التي ابتدعها الخلف- وإنما على طريقة التسليم التي سلكها السلف ولذلك نكرر دائما وأبدا: نحن لا ندعو إلى الكتاب والسنة فقط بل إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
703
لماذا لا نستمتع بالنعم | مرابط
فكر مقالات

لماذا لا نستمتع بالنعم


حديث رائع للدكتور إياد قنيبي يدور حول استشعار النعم التي وهبنا الله إياها وأحاطنا بها وكيف أن كثيرا من المسلمين لا يدرك هذه النعم أو يشعر بها فقد بهتت أدوات استشعار النعم في داخله وبات لا يولي نظره إلا لأهدافه التي لم يحققها أو فشل في تحقيقها فيغيب عن ناظريه قدر النعم العظيمة التي ما زال يملكها

بقلم: د إياد قنيبي
2547
مسالك الهوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

مسالك الهوى


مقتطف جميل للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني من كتاب القائد إلى تصحيح العقائد يشير فيه إلى الهوى وكيف أن له مسالك دقيقة قد تتسلل إلى الإنسان حتى من أبواب الخير أو من الأمور التي ظاهرها فيه خير وصلاح ونفع له ولغيره ولكن الهوى مع ذلك يجد طريقه إلى القلب من أدق وأخفى المسالك

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2323
الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة | مرابط
فكر مقالات الإلحاد

الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة


من الملاحظات التي يمكن رصدها في كثير من الكتابات الإلحادية الحديثة أنها تتبنى رؤية جبرية مغالية في تفسير وقوع الأفعال الإنسانية ففكرة الإرادة الحرة وهم والإنسان في حقيقته مجبور على أفعاله وإن أحس أنه مختار لها أو كما عبر بعض الجبرية في الكتابة التراثية: الإنسان مجبور في صورة مختار

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
3203