لغة أضاعها أهلوها

لغة أضاعها أهلوها | مرابط

الكاتب: علي الطنطاوي

751 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أهل اللغة الإنجليزية

في اللغة الإنكليزية –كما قالوا- حروف تُكتب ولا تُقرأ، وحروف تُقرأ وهي غير مكتوبة، وحروف تُقرأ مرة شيئًا، ومرة شيئًا آخر، ولابدَّ لكلِّ طالب لهذه اللغة أن يتعلَّم كيف تُكتب كلُّ كلمة فيها، ويتعلَّم كيف تُلفظ. وهي- بعدُ- لغة سماعية، لا يطَّرد فيها قياس، ولا تُعرف لها قاعدة. ثم إنَّها لغة ليس لها نسب ثابت، ولا أصل معروف، وحاضرها يلعن ماضيها، ويومها يسبُّ أمسها، ولا يفهم إنكليزي اليوم كلام بلغاء الإنكليز في عصر المعري والشريف الرَّضي، فضلًا عن عصر امرئ القيس وزهير، وألفاظها لمامة (لمامة من العامي الفصيح) من الطرق، ففيها كلمات ألمانية وكلمات فرنسية وكلمات من العربية... وفيها كلمات من كلِّ لسان، وهي -على هذا الضعف والعجز، وهذه المعايب كلِّها- قد سمت بها همم أهلها حتى فرضوها على ثلث أهل الأرض، وأنطقوهم بها.

أهل اللغة العربية

واللغة العربية، وهي أكمل لغات البشر، وأجودها مخارج، وأضبطها قواعد، ذات القياس المطَّرد، والأوزان المعروفة، والتي هي أقدم قدمًا من التاريخ، فلا يعرفها التاريخ إلا كاملة النمو، بالغة النضج. فمتى وُلدت؟ ومتى كانت طفولتها؟ ومتى تدرَّجت في طريق الكمال حتى وصلت إلينا كاملة مكملة، لم تحتَجْ إلى تبديل أو تعديل منذ وجد في الدنيا تاريخ؟ بل لقد أمدَّت- بما زاد عنها من ألفاظها- أكثر لغات الأرض، ففي كلِّ لغة منها أثر.

هذه اللغة العظيمة قد أضاعها أهلوها وأهملوها، فلم يَكْفِهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناس (كما فعل أجدادهم من قبل)، بل هم قد تنكَّروا لها، وأعرضوا عنها، وجهلها منهم حتى كثير ممن يدرسها في المدارس، وجهلها حتى كثيرون ممن يُدْعون (أدباء) فيها. بل لقد كان ما هو شرٌّ من هذا الجهل، هو أنَّ هؤلاء (الأدباء) يُقبِّحون مُحسِّنات الكلام، ويُزْرون على البلغاء، ويحاربون البلاغة؛ لعجزهم عن أن يأتوا بمثلها أولًا، ولأنها أسلوب القرآن ثانيًا، وهم يكرهون الإسلام، وكلَّ ما هو منه بسبب، ويتمنَّوْن أن يدع الناس أسلوب القرآن إلى أسلوب التوراة والإنجيل، وبيان النابغة والحطيئة والبحتري إلى (بيان...) شعراء المهجر!

كُتّاب اليوم

فصرتَ تقرأ كتبًا ومقالات لقوم من أشباه العوام، وهم عند الناس كُتَّاب ومؤلفون؛ يلحنون في الفاعل والمفعول، وهم من أئمة الأدب، وأعيان الأدباء، ما قرؤوا يومًا كتابًا في نحو ولا صرف، ولا تمرَّسوا بأساليب العرب، ولا عرفوا مذاهبها في كلامها، وهم أساتذة الأدب الرسميون في الثانويات والجامعات!

ولا تغتروا بما يدعون إليه من العروبة وما يهرف به هذا العجوز ساطع الحصري، الذي كان يعد مفكرًا لما كان الحلاق طبيب الأسنان والصيدلي العطار والكتاتيب رياض الأطفال، ثم تغير الزمان، فلم يعد الحلاق طبيبًا ولا العطار صيدليًّا ولا الكتاب روضة، ولا الحصري مربيًا ولا مفكرًا.

إنَّ العروبة، بل إنَّ كلَّ قومية في الدنيا، إنما تقوم على اللسان والتاريخ والعادات. وهؤلاء لا عاداتهم عادات العرب، ولا يعرفون تاريخ العرب، ولا يفهمون لغة العرب. لا أعني هذا العجوز الذي أفسد (معارف) العراق ثم أفسد (معارف) الشام ثم ذهب يفسد (معارف) مصر، والذي يتكلم الآن باللغة العرتكية [أي العربية التركية]، لا أعنيه وحده، بل أقصدهم جميعًا، ذوي اللغات العرفسية [أي العربية الفرنسية] والعركزية [أي العربية الإنجليزية]، ومن شكَّ في هذا فليتفضَّل فليرني بليغًا واحدًا في هؤلاء القوميين جميعًا، وغيرتهم على العربية كذب

تجربة فريدة

ولقد جربتهم السنة الماضية حين كنت في باكستان، وكان القوم فيها مترددين في اختيار لغة رسمية لهم بين العربية والإنكليزية. العربية لأنَّها لغة قرآنهم، ولأن فيهم – في دار العلوم في كراتشي، وفي معهد ديوبند قرب دهلي، وفي ندوة العلماء في لكنو، وفي عشرات المدارس في الهند – علماء بالعربية قلَّ أن تجد في مصر والشام من يدانيهم. والإنكليزية لأنَّها أسهل تعلمًا. ولا يمكن أن تتخذ الأوردية لغة رسمية؛ لأنَّ أهل باكستان الشرقية لا يفهمونها، ولا البنغالية؛ لأنَّ أهل باكستان الغربية لا يفهمونها، وهنا خمسة وأربعون مليونًا، وهنا خمسة وثلاثون، وبين اللغتين اختلاف في الأصل: هذه سنسكريتية، وهذه فارسية وعربية، وفي الحروف: هذي حروفها هندية، وهذه حروفها عربية.

وكانت فرصة لا تكون فرصة أعظم منها، وكنا نستطيع فيها بشيء قليل من الجهد أن نضمَّ إلى الناطقين اليوم بالعربية أكثر منهم، نضم ثمانين مليونًا. ولقد كتبت إلى هؤلاء القوميين فما اهتمَّ بذلك أحد، وإلى الحكومات العربية فما تحركت، إلا ما كان من المفوضية السورية في كراتشي ووزارة المعارف هنا، إذ استطاعتا بأربعة مدرسين فتح عشرين مدرسة لتعليم العربية في كراتشي، يدرس فيها ابن سبعين بجانب ابن سبع، ومدرسة لتخريج معلمين للعربية. والفرصة لا تزال سانحة، فإذا أضعناها لم نستطع أن نعوض مثلها. ولقد سنحت مثلها أيام السلطان سليم حين أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية للدولة، فلم تتمَّ إرادته، ولو تمَّت لكان الأتراك كلهم اليوم عربًا.

اللغة والعالم الإسلامي

إنَّ العالم الإسلامي كلَّه مستعدٌّ للإقبال على العربية وتعلمها إن جئناه باسم الدين، أمَّا إن جئناه باسم القومية العربية فلن نجد خيرًا. وما كان شيء- علم الله- يحزُّ في نفوسنا ويخجلنا في رحلتنا إلى الهند والملايو وأندونيسيا إلا العتاب الناعم الذي يلقوننا به، على أنَّا صددنا عن اليد التي مدوها إلينا، وزهدنا في الأخوَّة التي أكنُّوها لنا، وتركنا (أو ترك ناس منا) رابطة الإسلام التي نكسب بها هؤلاء الإخوان الذين يزيدون عن ثلائمائة وستين مليونًا لرابطة قومية لم نكسب بها إلى اليوم (ويظهر أننا لن نكسب بها من بعد) أحدًا.

وفي أندونيسيا وفي سلطنة جوهور في الملايو، وفي كلِّ مكان فيه مسلمون، مدارس للعربية مملوءة بالطلاب. ولو أنَّا عرفنا لغتنا، ونشطنا لخدمتها وذهبنا نعلمها هؤلاء الطلاب الذين يريدونها، لصار العالم الإسلامي كلُّه ينطق العربية في مائة سنة فقط، كما صار ينطقها كلُّه في القرن الثالث الهجري.

ولكن العربية – مع الأسف – لغة أضاعها أهلوها وأهملوها، فذلَّت وقلَّت وهي خير اللغات، وعزَّت وكثرت لغة لا تصلح خادمًا لها حين سمت بها همم أبنائها.


المصدر:
علي الطنطاوي، فصول في الثقافة والأدب، ص149

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#اللغة-العربية
اقرأ أيضا
التحدي الأعظم ج1 | مرابط
تعزيز اليقين

التحدي الأعظم ج1


جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته إلخ وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ۗ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد 53 ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غا...

بقلم: موقع هداية الملحدين
1434
مشكلة إطلاق البصر | مرابط
مقالات

مشكلة إطلاق البصر


كم من امرأة أطلقت نظرها وقلبها وخيالها على رجال فأفسدت حياتها مع زوجها وإن لم تكن متزوجة فهو ضرر عظيم أيضا حيث يشغل تفكيرها بما لا ينفع ويشتت عقلها وربما أدخلها في مشاهدة الحرام ويجعلها تطلب صورة مثالية متخيلة لزوج المستقبل تفسد عليها اختيارها لمن يتقدم لها وهذا حصل كثيرا

بقلم: حسين عبد الرازق
283
الأهواء المتدينة | مرابط
فكر مقالات

الأهواء المتدينة


نتعامل في واقعنا المعاصر مع إشكال جديد يمكن تسميته بالأهواء المتدينة هذا الإشكال يظهر في أن ترك الالتزام بالأحكام الذي هو من جنس التقصير والهوى أصبح محسنا مزينا في نفس المسلم متوافقا مع الدين مقربا إلى الحق فلم تعد تلك المخالفات متضمنة مفسدة المخالفة فقط بل أضيف لها مفسدة التحسين والتزيين للهوى والباطل

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1126
لماذا الهجوم على الحجاب ج2 | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات المرأة

لماذا الهجوم على الحجاب ج2


إن الله يريده مجتمعا إسلاميا طاهرا نقيا فيه الفضائل وتحارب فيه الرذائل فليس لها مكان في ظل مجتمع يؤمن بالله ورسوله ويسعى لتنفيذ حكم الله ورسوله والله عز وجل خلق العباد وهو أبصر بهم ويعلم ما في نفوسهم وما يصلح لهم ولذلك حرم الزنا وحرم الخلوة بين الذكر والأنثى الأجنبيين وأوجب الحجاب وفرض حد القذف وحد الزنا وشرع الزواج وأكد عليه ففتحت الشريعة طرق العفاف وسدت طرق الشر والرذيلة

بقلم: محمد صالح المنجد
2511
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2


الأساس الأول الذي بنيت عليه أمة الإسلام والذي بنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم وبغيره لا تقوم أمة ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظمه ونجله وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم فهذا تفتقده الأمم الأخرى فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة ب...

بقلم: د راغب السرجاني
755
الحكمة من خلق الخلق ج1 | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الخلق ج1


تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني يقف فيها على سؤال بديهي وربما لا يخطر لكثير من الناس رغم حاجتهم الشديدة إليه ألا وهو: لماذا خلق الله الخلق من الملائكة والإنس والجن فمعرفة هذا الجواب وإدراك الغاية والحكمة من الخلق ربما يبدل الكثير من التصورات الخاطئة عند الناس ويعينهم على العودة إلى طريق الرشاد

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
579