محاورة دينية اجتماعية الجزء الرابع

محاورة دينية اجتماعية الجزء الرابع | مرابط

الكاتب: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

1949 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الطوارئ البشرية

ثم إذا عطفنا النظر إلى الطوارئ البشرية التي لابد لكل عبد منها؛ وهي المصيبات التي تعتري العباد من الأمراض المتنوعة، وموت الأحبة، وفقد الأموال ونقصها، ووقوع المكاره بمن تحب وزوال المحاب، وغيرها من أنواع المصائب؛ دقيقها وجليلها، رأيت المؤمن حقًّا قد تلقَّاها بقوة وصبر واحتساب، وقد قام لها بارتقاب الأجر والثواب، وعلم أنها تقدير العزيز العليم، وأنها أقضيته صدرت من الرب الرحيم؛ فهان عليه أمرها وخفت عليه وطأتها، فإنه إذا فكر فيما فيها من الآلام الشاقة قابلها بما تتضمنه من تكفير السيئات، وتكثير الحسنات، ورفعة الدرجات، والتخلق بأخلاق الكرام والقوة والشجاعة، وإذا أنهكت بدنه وماله رآها مصلحة لقلبه وروحه.

فإن صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه، والصبر على بلائه، وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات، واللجوء إلى الله عند جميع المزعجات والمقلقات، فأقل الأحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب، والأفراح والأتراح، وقد تصل الحال بخواص المؤمنين إلى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذي جبلت عليه النفوس..

فأين هذه الحال من حال من تلقَّى المصيبات التي لابد للخلق منها بقلب منزعج مرعوب، وخشعت نفسه المهينة لما فيها من الشدائد والكروب، فبقيت الحسرات تنتاب قلبه وروحه، وزادت مصائب قلبه على مصائب بدنه، ليس عنده من الصبر وارتقاب الثواب ما يخفف عنه الأحزان، ولا من الإيمان ما يهون عنه الأشجان، تعتريه المصائب فلا تجد عنده ما يخففها، فتعمل عملها في قلبه وروحه وبدنه وأحواله كلها.. القلب مليء من الهم والغم والألم، والخوف السابق واللاحق قد ملأ نفسه فانحل لذلك لبه وانحطم، وقد ضعف توكله على الله غاية الضعف، حتى صار قلبه يتعلق بمن يرجو نفعه من المخلوقين، فيا لها من مصائب دنيوية اتصلت بالمصائب الدينية والخلقية، وتراكم بعضها فوق بعض حتى صار عنده أعظم من الجبال الرواسي.

فوالله لو علم أهل البلاء والمصائب بما في الإيمان والروح  والتسلية والحياة الطيبة لسارعوا إليه، ولو في هذه الحال التي هم فيها مضطرون إلى ما يخفف عنهم آلامها، ولا يجدونه إلا في الإيمان الصحيح الحقيقي وما يدعو إليه.

ومما يتعلق به سرور الحياة ونعيمها، أو همها وغمها، معاشرة الخلق على اختلاف طبقاتهم، فمن عاشرهم بما يدعو إليه الدين استراح، ومن عاشرهم بحسب ما تدعو إليه الأغراض النفسية، فلابد أن يكون عيشه كدرًا، وحياته منغصة.
 

الناس ثلاثة أصناف

وتوضيح ذلك أن الناس ثلاثة أصناف؛ رئيس، ومرؤوس، ونظير.
أما من له رياسة حكم، أو ثروة، وله أتباع وحاشية، فله معهم حالان؛ حالة فيما يفعله معهم، وحالة فيما يصيبه من أتباعه من خير وشر، وموافق للطبع ومخالف له، فإن هو حكم الدين والشرع في الحالتين استراح، وله أجر من الله؛ إذ استعمل العدل معهم، واستعمل النصح والإحسان، وقابل المسيء منهم بالعفو، وشكرهم على فعل المعروف والخير، مبتغيًا بذلك وجه الله.

وأيضًا فإنه إذا تأمل فيما فعله من خير اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، فأين هذا من الرئيس الذي لا يبالي بظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولا يبالي بسلوك طرق العدل والإنصاف، وليس له صبر على أية أذية تصيبه من رعيته، فهو مع أتباعه في نكد مستمر، ورعيته قد مُلئت قلوبهم من مقته وبغضه، يتربصون به الدوائر والفرص، حتى إذا وقع في أقلِّ شيء أعانوا عليه أعدى أعدائهم، فهو معهم غير مطمئن على حياته ولا على نعمته، لا يدري متى تفجؤه البلايا، ليلًا أو نهارًا!.. هذه حالة الرئيس على وجه الإجمال..

وأما حالة المرؤوس؛ فإن أطاع الدين في وظيفته، وأطاع حاكمه أو سيده، أو والده، واستعمل الآداب الشرعية في معاملته، والأخلاق المرضية، فهو مع طاعته لله ولرسوله قد استراح وأراح، وطابت عنه نفس رئيسه، وأمن عقوبته، وأمَّل إحسانه وبرَّه ومحبته.

وأما من تعدى طوره وعصى متبوعه والتوى، فإنه لا يزال متوقعًا لأنواع المضار، يمشي خائفًا وجلًا، لا يقرُّ له قرار، ولا يستريح له خاطر.

وأما حالة النظير المساوي؛ فإن جمهور من تعاشرهم من الخلق إذا خالقتهم بالخلق الحسن، اطمأنت نفسك، وزالت عنك الهموم؛ لأنك تكتسب بذلك مودتهم، وتخمد عداوتهم، مع ما ترجوه من عظيم ثواب الله على هذه العشرة التي هي من أفضل العبادات، فإن العبد يبلغ بحسن خلقه، درجة الصائم القائم.. وحسن الخلق له خاصية في فرح النفس، لا يعرف ذلك حق معرفته إلا المجربون..
فأين حال هذا ممن عاشر الناس بأسوأ الأخلاق؛ فخيره ممنوع، وشره غير مأمون، وليس له أقل صبر على ما يناله من المكدرات، فهذا قد تنغصت عليه حياته، وحضرته همومه وحسراته، فهو في عناء حاضر، ويخشى من الشقاء الآجل..

وأما معاشرته مع أهله وأولاده ومن يتصل به، فإنه يتأكد عليه القيام بالحقوق اللازمة تامة لا نقص فيها ولا تبرم، فمن عامل هؤلاء بما أمر الله ورسوله، راجيًا بقيامه به ثواب ربه ورضاه، عاش معهم عيشة راضية، ومن كان معهم من نكد وسوء خلق؛ مع الصغير والكبير، يخرج من بيته غضبان، ويدخل على أهله وولده متكدرًا ملآن، فأي حياة لمن كانت هذه حاله؟! وما الذي يرجوه حيث ضيَّع ما فيه فرحه ومسراته؟!

وأما عشرته مع معامليه، فإن استعمل معهم النصح والصدق، وكان سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى، حصلت له الرحمة، وفاز بالشرف والاعتبار، واكتسب مودة معامليه ودوام معاملتهم، ولا يخفى ما في ذلك من طيب الحياة، وسرور النفس، وما في ضدها من سوء الحال وسقوط الشرف، وتنغص الحياة.
والفارق بين الرجلين هو الدين، فصاحب الدين منبسط النفس، مطمئن القلب. فقد تبين لك أن السعادة واللذة الحقيقية بجميع أنواعها تابعة للدين..
 

الدين نوعان

واعلم يا أخي أن الدين نوعان:
أحدهما : أعمال وأحوال وأخلاق دينية ودنيوية، وكما ذكرنا أنه لا سبيل إلى حصول الحياة الطيبة إلا بالدين.
والثاني: علوم ومعارف نافعة، وهي علوم الشرع والدين، وما يعين عليها ويتوسل إليها به، فالاشتغال بها من أجلِّ العبادات، وحصول ثمرتها من أكمل اللذات، ولا يشبهه شيء من اللذات الدنيوية، واعتبر ذلك بحال الراغبين في العلم تجد أكثر أوقاتهم مصروفة في تحصيل العلم، فيمضي الوقت الطويل، وصاحبه مستغرق فيه يتمنى امتداد الزمن، وهذا عنوان اللذة، فإن المشتاق يقصر عنده الوقت الطويل، ومن ضاق صدره بشيء يطول عليه الوقت القصير؛ وذلك أن صاحب العلم في كل وقت مستفيد علومًا يزداد بها إيمانه، وتكمل بها أخلاقه، والمتصفح للكتب النافعة، لا يزال يعرض على ذهنه عقول الأولين والآخرين، ومعارفهم وأحوالهم الحميدة وضدها، ففي ذلك معتبر لأولي الألباب.. فكم من قصة تمرُّ عليك في الكتب تكتسب بها عقلًا جديدًا، وتسليك عند المصائب بما جرى على الفضلاء، وكيف تلقوها بالرضا والتسليم، واغتنموا الأجر من العليم الحكيم.
 

العقل عقلان

والعلم يعرفك طرقًا تدرك بها المطالب، وتدفع بها المكاره، والمضار، والعقل عقلان؛ عقل غريزي، وهو ما وضعه الله في الإنسان من قوة الذهن في أمور الدين والدنيا. وعقل مكتسب، إذا انضم إلى العقل الغريزي ازداد صاحبه حزمًا وبصيرة، فكما أن العقل الغريزي ينمو بنمو الإنسان حتى يبلغ أشده، فكذلك العقل المكتسب له مادتان للنمو؛ مادة الاجتماع بالعقلاء والاستفادة من عقولهم وتجاربهم، تارة بالاقتداء، وتارة بمشاورتهم ومباحثتهم، فكم ترقَّى الرجل بهذه الحال إلى مراقي الفلاح، ولهذا كان انزواء الرجل عن الناس يفوته خيرًا كثيرًا، ونفعًا جليلًا، مع ما يحدثه الاعتزال من الخيالات وسوء الظن بالناس، والإعجاب بالنفس الذي يعبر عن نقص الرجل، وربما ضرَّ البدن فإن مخالطة الناس تفتح أبوابًا من المصالح، والمسالك، وتقوي قلبك، وفي ضعف القلب ضرر على العقل، وضرر على الدين، وضرر على الأخلاق، وضرر على الصحة.

وينبغي للإنسان أن يعامل الناس، بحسب أحوالهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن خلقه مع الصغير والكبير، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]. أي خذ ما صفا لك من أخلاق الخلق، ودع عنك ما تعسر منها.. فيجالس أبناء الدنيا بالأدب والمروءة، والأكابر بالتوقير، والإخوان والأصحاب بالانبساط، والفقراء بالرحمة والتواضع، وأهل العلم والدين بما يليق بفضلهم.. فصاحب هذا الخلق الجليل تراه مبتهج النفس في حياة طيبة.
وأما المادة الثانية للعقل المكتسب فهي الاشتغال بالعلوم النافعة، فتستفيد بكل قضية رأيا جديدًا، وعقلًا سديدًا، ولا يزال المشتغل بالعلم يترقى في العلم والعقل والأدب.

والعلم يعرِّفك بالله، وكيف الطريق إليه، يعرفك كيف تتوسل بالأمور المباحة إلى أن تجعلها عبادة تقربك إلى الله.
والعلم يقوم مقام الرياسات والأموال، فمن أدرك العلم فقد أدرك كل شيء، ومن فاته العلم فاته كل شيء. وكل هذا في العلوم النافعة.

وأما كتب الخرافات والمجون فإنها تحلل الأخلاق وتفسد الأفكار والقلوب؛ بحَثِّها على الاقتداء بأهل الشرِّ، وهي تعمل في الإيمان والقلوب عمل النار في الهشيم.
فلما تلا النصيح لصاحبه هذه المواضيع، وبرهن عليها، قال له المنصوح: والله لقد انجلى عني ما أجد في أول موضوع تلوته علي، وانزاح عني الباطل في شرحك الأول، وإن مجلسك يا أخي ونصيحتك بهذه الطريقة النافعة تعدل عندي الدنيا وما عليها، فأحمد الله أولًا حيث قيَّضك لي، وأشكرك شكرًا كثيرًا حيث وفيت بحق الصحبة، ولم تصنع ما يصنعه أهل العقول الضيقة الذين إذا رأوا من أصحابهم ما يسوؤهم قطعوا عنهم حبل الوداد في الحال، وأعانوا الشيطان عليهم، فازداد بذلك الشرُّ عليهم، وضاع بينهم التفاهم.

وإني لا أنسى جميل معروفك حيث رأيتني سادرًا في المهامه[أي: القفار من الأرض]، مغرورًا بنفسي معجبًا برأيي فأريتني بعيني ما أنا فيه، وأوقفتني بحكمتك على الهلاك الذي وقعت فيه، فالآن أستغفر الله مما مضى وأتوب إليه، وأسأله الإعانة على سلوك مرضاته، وأفزع إليه أن يختم بالصالحات أعمالي، وأحمد الله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، فإنه مولى النعم، دافع النقم، غزير الجود والكرم.

 


 

المصدر:

  1. مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة (1343هـ - 1383هـ)، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (1/251)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مناظرات #الإلحاد
اقرأ أيضا
السمة المركزية الغائبة | مرابط
تفريغات تعزيز اليقين

السمة المركزية الغائبة


كان الإنسان يفتش دائما ويقرأ ويطالع في سيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم: ما هو المعامل الإيماني ما هو المكون العقدي ما هو الشيء الذي وجد عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم غائب عند أبناء المسلمين بحيث لو استطعنا أن نعزز من هذه القيمة في نفوسنا استطعنا أن نخلق حالة من حالات الحصانة من الذوبان في المعطى الحضاري الغربي كيف يستطيع الإنسان أن يحصن نفسه من ضغط هيمنة النموذج الثقافي الغربي؟

بقلم: عبد الله العجيري
456
التكليف والحرية | مرابط
فكر مقالات

التكليف والحرية


من شروط التكليف طاعة وحرية وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين في قضية القدر وفي قضية الإيمان وفي قضية التكليف والجزاء فيقصرون النظر على شرط الحرية ويهملون شرط الطاعة كأنه مناقض للجزاء وكأنه من اللازم عقلا أن يكون الجزاء مقرونا بالحرية المطلقة وهي في ذاتها استحالة عقلية بكل احتمال يخطر على البال في فهم خلق الإنسان

بقلم: عباس محمود العقاد
1852
تعظيم الأمر والنهي | مرابط
تعزيز اليقين فكر اقتباسات وقطوف

تعظيم الأمر والنهي


ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم ولهذا طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا ولكن قولوا: بم أمر ربنا

بقلم: ابن القيم
1321
إنه الله | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات الإلحاد

إنه الله


حوار ماتع يدور بين متشكك ومتيقن الأول هو أبو الحكم والثاني هو الكاتب حسام الدين حامد وفي هذا المقال المقتطف من كتابه المفيد لا أعلم هويتي يدور الحديث حول عناية الله سبحانه وتعالى بالإنسان ويعرض لنا الكاتب الكثير من الأدلة التي تشير إلى وجود الله وإلى كماله وحكمته وأنه لم يترك الإنسان هملا وهذه الأدلة ليست بعيدة عن الإنسان بل هي من داخل جسده

بقلم: د حسام الدين حامد
2091
خيركم لمن؟ | مرابط
مقالات

خيركم لمن؟


اقرأوا مشاكل الناس شكاوى الزوجات من الإهمال وشكاوى الأزواج أيضا من الإهمال وكيف يؤدي هذا إلى تحطم الأسر وأحيانا إلى الوقوع في الفواحش أو مقدماتها والعياذ بالله بجانب الوقوع في الحقد والحسد والانشغال بالآخرين وانظروا إلى آثار هذا الإهمال على الأولاد والنشء ثم على المجتمع بالتبعية لتستشعروا قدر الخيرية التي يحققها ذلك الحاضن لأسرته المشغول بهم المشغول بهم أي بكل شيء يخصهم وأهمه دينهم وخلقهم ونفسيتهم ونضجهم العقلي والعاطفي وليس فقط مشغولا بأكلهم ولبسهم ومدارسهم.

بقلم: معتز عبد الرحمن
310
كيف أقرأ ختمتي التدبرية في رمضان؟ | مرابط
مقالات

كيف أقرأ ختمتي التدبرية في رمضان؟


لا تمل .. لن تجد المعاني التدبرية منذ اللقاءات الأولى مع الآيات.. صاحب القرآن بحب .. ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه شمروا .. جددوا النوايا و اشحذوا الهمم ولا تنسو الدعاء لأنفسكم بأن يفتح الله على بصيرتكم وقلوبكم .. وقل رب زدني علما

بقلم: د. عبد المحسن المطيري
908