الحيادُ المُتَخَيّل في البحث العلمي يكاد أن يصطف في متحف المُحَالات إلى جوار العنقاء، حيث لا يمكن للباحث أن يرى الأشياء ويقيمها ويحكم عليها إلا من خلال مرجعيته التي يؤمن بها، ولا يكاد ينفك عن ذلك باحث غربي أو شرقي، فالباحثون لا ينطلقون في أحكامهم إلا من مواقفهم الفكرية والسياسية.
ولا يعني عدم الحياد هذا أن الباحث يكذب ويظلم ويزور، وهو ما يقع فيه كثير من الباحثين الغربيين والشرقيين، بل الصدق والعدل والإنصاف واجب عليه، لكن هذا لا يعني أن يتنازل عن أحكامه الواضحة والدقيقة والصريحة المبنية على ثوابته الإيمانية والفكرية التي تبين الحسن والقبيح، والحق والباطل.
فالحيادية المتخيلة والتجرد الرومانسي تفكيرٌ حالمٌ وخياليٌّ يقع فيه عادة الكاتب المبتدئ الحالم بعالم مفارق للواقع، أو الساذج الذي لم يعرف كيف يعمل العقل. يقول كارل بوبر: "ليس بإمكاننا إبعاد العالِم عن التعصب من دون نفي الهوية البشرية، إن التخلص من القيم أمر لا يحصل في مقام العمل".
بل إن أشد المذاهب والأنظمة الفكرية الغربية ادعاءً للحيادية والإنصاف في النظرية، هي أكثرها مفارقة لها في الواقع، وأشدها إقصائية. يقول ليكنهاوزن: “الليبرالية والتعددية يقدمان نفسيهما تحت غطاء الحيادية وعدم الانحياز، بينما هما في الواقع يستبعدان الأنظمة الدينية المختلفة معهما”.